الرئيسة \  واحة اللقاء  \  كذبة السادس من أكتوبر

كذبة السادس من أكتوبر

12.10.2017
نزار بولحية


القدس العربي
الاربعاء 11/10/2017
ربما استحق البريد الإلكتروني لسفير الإمارات في واشنطن يوسف العتيبة أن يوصف بمغارة علي بابا، التي ماتزال تحتفظ بالكثير من خفاياها وأسرارها.
فبعد المعلومات التي تسربت منه قبل أسابيع وشهور معدودة، وتضمنت تفاصيل جهده اليومي في خدمة مصالح بلده ونظامها، وبعد أن عرف العالم مساعيه الحثيثة لتحقيق التقارب والتكامل العربي والإسلامي ونصرة الشعوب المضطهدة والثورات المقهورة، ها أن موقع "ذي أنترسبت" الأمريكي يخبرنا هذه المرة، ودائما من خلال الكشف عن رسائل أخرى من البريد المذكور، أن الحس القومي للدبلوماسي الخليجي البارز، جعله يتحول من مجرد سفير للإمارات فقط، كما كان مفترضا ومعلوما، إلى موظف "يلعب في الواقع دور سفير السيسي في واشنطن" مثلما قال عنه الموقع نفسه.
وها إننا نكتشف أيضا إن ذلك الحس الاصيل دفع العتيبة وحكومته في ابوظبي، لأن يسارعا لدفع " أكثر من مليونين وسبعمئة الف دولار من اصل ثلاثة ملايين دولار" نيابة عن الحكومة المصرية لصالح شركة العلاقات العامة "جلوفر بارك جروب"، وذلك لاجل هدف واحد لا غير، وهو تلميع صورة النظام المصري والتأثير على موقف الحكومة ومراكز الأبحاث ووسائل الإعلام الامريكية منه، حسبما نقله الموقع ذاته. ولسنا نعرف حتى الآن إن كان الكشف عن مثل تلك التفاصيل في هذا الشهر بالذات سيحرج الإماراتيين والمصريين، وسيعد على الاقل من وجهة نظر أنصار السيسي، عملا عدائيا مقصودا يراد به هز ثقة الشعب بنظامه، والمس بالروابط الأخوية الصلبة بينه وبين دولة شقيقة يتشارك معها الحرب على الإرهاب؟ أم إنهم سيقابلونه مثلما قابلوا كل التسريبات والاخبار التي تخصه في السابق بالمزيد من الصمت والتجاهل؟ ومهما يكن الحال فإن ظهور التسريب الإلكتروني الآن، قد يكون نوعا من الرد غير المباشر على سيل الخدع والاكاذيب الذي يجري بقوة في مثل هذا الوقت من كل عام، بتزامن مع الاحتفالات السنوية بذكرى حرب اكتوبر، ليحجب ولو لوقت قصير ومحدود تلك الصورة الطبيعية والاصلية لنظام يفضل الظهور دوما بوجهين وشكلين مختلفين.
ولعل ما كشفه موقع "ذي أنترسبت" حول حاجة ذلك النظام لمثل تلك الحملات الدعائية الخارجية، يثبت من جديد أن هاجسه الأكبر وهاجس غيره من الانظمة العربية الشبيهة بالطبع، هو كسب "الخواجات" والظهور أمامهم في أرقى حلل "العصرنة" و"التحضر". في حين أن آخر ما قد يهمه ويشغله هو البحث عن حلول جادة وحقيقية للأزمات الحادة التي تتخبط فيها مصر، وليس أقلها ثقلا ووطأة أزمة الثقة المفقودة بينه وبين شعبه. وتبدو تلك الازدواجية بوضوح في حرص القادة المصريين على طلب الدعم الإماراتي في استخدام شركة علاقات عامة لتحسين صورتهم في الخارج، وفي امتناعهم ورفضهم بالمقابل لأي تعديل على طريقة تعاملهم مع ملايين المسحوقين والمعدمين في الداخل، أو حتى على أسلوبهم ونمط خطابهم الحجري الجامد، رغم أن تلك العملية لا تكلفهم لا طلبات للمساعدة الخارجية ولا اي نفقات أو اعباء مالية اضافية.
هل إن احتقارهم لتلك الملايين وشعورهم بالتميز والتفوق عليها هو ما يفسر ذلك؟ أم أن خشيتهم من أي تغيير، حتى لو كان شكليا ومحدودا هو ما يجعلهم يتمسكون بحبل الأكاذيب والدعايات المضلة؟ لا شك في أنهم لا يرون مبررا أو موجبا للقطع التام مع زمن "صوت العرب" و"قواتنا على مشارف تل أبيب" وعصر "تمكن القوات المسلحة المصرية من اقتحام مانع قناة السويس الصعب واجتياح خط بارليف المنيع، وإقامة رؤوس جسور لها على الضفة الشرقية من القناة، بعد أن افقدت العدو توازنه في ست ساعات" ويعتقدون أن هناك حاجة ملحة لبقاء تلك الهالة من الحقائق والاساطير والخرافات مجتمعة كلها داخل طبق واحد مع كل ذلك الكم الهائل من بهارات الخيال والحبكة والغموض السينمائي المتعمد. إنهم ينظرون إلى نصر السادس من اكتوبر على أنه البترول الذي لا ينضب والوقود الحيوي الذي لا ينتهي والبقرة الحلوب التي ستبقى قادرة حتى بعد أكثر من أربعة واربعين عاما على أن تدر عليهم ما يحتاجونه من أقراص ومهدئات يلقون بها لملايين الجياع والبؤساء والمشردين، عساها تخفف عنهم تبعات غضب مقبل.
لكن أليس من الغباء أن يواصلوا استغباء المصريين بتلك الطريقة الساذجة والبلهاء، ويقذفونهم كل عام بما يقولون عنها إنها أسرار جديدة وخطيرة لم تكشف بعد من تلك الملحمة الاسطورية؟ أليس من المضحك المبكي مثلا أن يخرج لهم الآن وبعد كل تلك السنوات من يخبرهم بأنه خلال تلك الحرب قرر الرئيس الراحل السادات قصف إحدى مناطق الضفة الغربية، بعد أن علم بوجود وزير الدفاع الاسرائيلي الاسبق موشيه ديان فيها، وانه اتضح بعد القصف أن المنطقة احترقت بالكامل قبل أن تصل للقيادات العسكرية في اليوم الموالي "إحدى الصور الفوتوغرافية لموشيه ديان وهو متعلق بإحدى اشجار النخيل ومن حوله النيران في منطقة تبعد قليلا عن المنطقة التي تم توجيه الضربة لها". كم رضيعا وكم طفلا مصريا ترى سيصدق ذلك؟ ثم ما الفائدة الكبرى والعظيمة من وراء تلك القصة المثيرة؟ وهل إنها ستزيد المصريين ثقة في قدرة جيشهم على دحر عدو، قرر قائده الأعلى أن يشاركه عشية ذكرى الاحتفال الرسمي المهيب بالنصر المؤزر عليه، تدريبات عسكرية جوية في البحر المتوسط؟ والأهم من ذلك ألا يمكن أن تؤدي مثل تلك الاكاذيب العظيمة عكس المراد منها، وتجعل الناس تشك وتتساءل عن طبيعة النصر الذي تحقق في اكتوبر، وهل انه كان في النهاية نصرا لشخص ولقيادة عسكرية كان كل همهما أن تستخدمهم وقودا لحرب خاضوها بحماسة وصدق، ليجني ثمارها الافاقون واصحاب المصالح؟ إن المأساة الحقيقية هي أن قانون الصمت ما يزال مفروضا، بعد اربعة عقود من نصر اكتوبر. واذا كان المصريون ممنوعون اصلا من حقهم في الرأي والتعبير، فليس من المتوقع بالطبع أن يكون باستطاعة أولئك الابطال الحقيقيين الذين ما زالوا على قيد الحياة أن يناقضوا الرواية الرسمية ويكشفوا القصة بتفاصيلها الكاملة والاصلية، من دون أن يكونوا عرضة للملاحقة والاتهام بالخيانة. انهم مضطرون إذن إما للصمت وإما لمجاراة الآخرين في كذبهم ونفاقهم. والمصيبة انه كلما ازداد منسوب الكذب تعمقت تلك الهوة بين الطبقة التي تملك وتحكم وتكذب والملايين التي ترى وتسمع وتعيش على الهامش تحت سقف الفقر والحياة، وكلما صار نصر اكتوبر مجرد خدعة اخرى وكذبة من بين اكاذيب ينام ويصحو عليها المصريون المثقلون بالهموم والهزائم والانكسارات، بعد أن فقدوا كل إحساس بمعنى النصر وصاروا واثقين ومتأكدين من أن علي بابا وعصابته لن يستنكفوا من فعل اي شيء للحفاظ على كراسيهم.
ورغم أن الكثيرين يتطلعون ليوم الكشف الكامل عن تلك المغارة التي تختفي داخلها أسرار العصابة وجرائمها فإنه يمكن القول بأن أي تسريب جديد من مغارة البريد الالكتروني للسفير العتيبة سيكون بلا شك خيطا من الخيوط التي ستقودهم عاجلا أم آجلا لذلك.
كاتب وصحافي من تونس