الرئيسة \  واحة اللقاء  \  قيصر روسيا المجدَّد ووالي الشرق الأوسط الجديد

قيصر روسيا المجدَّد ووالي الشرق الأوسط الجديد

12.10.2017
جلبير الأشقر


القدس العربي
الاربعاء 11/10/2017
في التظاهرات التي نظّمتها المعارضة الروسية في عموم بلادها يوم السبت الماضي بمناسبة احتفال فلاديمير بوتين ببلوغه الخامسة والستين من العمر، كان أحد الهتافات الملفتة للانتباه: "يسقط القيصر بوتين!". وقد قصد المتظاهرون بسخريتهم الإشارة إلى المصيبة التاريخية التي جعلت قيصراً من طراز مجدَّد يحكم روسيا قرناً بعد إسقاط ثورة 1917 لآخر القياصرة التقليديين، ثم رُزوح الاتحاد السوفييتي لمدة ربع قرن تحت نير "قيصر أحمر" اشتهر باسم ستالين.
أما أن يكون القيصر الروسي المجدَّد والياً على الشرق الأوسط، فأمرٌ طريف بلا شك في المنظور التاريخي. وقد بدأ هذا الفصل المستجد في تاريخ منطقتنا بتوسيع وتعميق الهيمنة الروسية المزمنة على سوريا من خلال انتهاز موسكو لفرصة ارتهان مصير نظام آل الأسد بتدخّلها لإنقاذه. والنتيجة أن بين الاحتلالات الأجنبية الأربعة التي باتت سوريا واقعة تحتها في إطار الحرب الراهنة (نترك جانباً في هذه المعادلة أقدم الاحتلالات، ألا وهو الاحتلال الصهيوني)، وهي بترتيبها حسب الحجم: احتلال إيراني (ولو بأدوات ليست إيرانية بمعظمها) وآخر روسي وثالث تركي ورابع أمريكي، ليس من شكّ في أن أهمها من حيث القوة والنفوذ، حتى وإن لم يكن أهمها من حيث الأعداد المشاركة فيه، إنما هو الاحتلال الروسي. فهذا الأخير يحوز على أعظم قوة ضاربة منتشرة على الأراضي السورية ويتحكّم بقدر احتلالين آخرين، هما الإيراني والتركي.
وكما بات واضحاً، فبعد تدخّل روسيا الكثيف ودورها الحاسم في إنقاذ آل الأسد وحلفائهم التابعين لإيران من الورطة العسكرية التي واجهوها جميعاً في صيف 2015 ومن ثم دورها الحاسم في هزم المعارضة السورية المسلحة، لا سيما في معركة حلب المفصلية، جاء ارتداد رجب طيب أردوغان على الولايات المتحدة، عرّابة الدولة التركية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وارتمائه بين أحضان فلاديمير بوتين بدءًا من خريف 2016، جاء هذان الارتداد والارتماء ليُتيحا لموسكو لعب دور القوة المتنفّذة العظمى في الساحة السورية إلى حدّ تمكّنها من أن تنظّم تحت إشرافها الأوحد وبمعزل عن واشنطن وعن الأمم المتحدة سيرورة المفاوضات التي ما زالت جارية في أستانة بين إيران والنظام الأسدي من جهة، وتركيا والمعارضة السورية من الجهة الأخرى.
وفي الحقيقة، بات لدى موسكو اليوم سطوة أكبر على أنقرة مما على طهران، إذ أن السلطة الإيرانية أقوى وأكثر ثباتاً من حكم أردوغان، الذي يواجه تهديدات متعددة، كما تحرّكها طموحات إقليمية توسّعية تشكّل مصدر ضعف الثقة المتبادلة بينها وموسكو إذ تزاحم إيران الطموحات الإمبراطورية الخاصة بروسيا، بينما يزداد اتكال أردوغان على موسكو يوماً بعد يوم.
ومع تجلّي الهيمنة الروسية على الأزمة السورية وظهور موسكو بمظهر العاصمة ذات النفوذ الأكبر في الشرق الأوسط وصاحبة الدور البارز في دحر الموجة الثورية التي عُرفت باسم "الربيع العربي"، وذلك بصدّها لتلك الموجة في سوريا مصحوباً بدعم رجالات النظام القديم/الجديد في مصر وليبيا، لم يكن مستغرباً بتاتاً أن تبايع المملكة السعودية القيصر المجدَّد كما تجلّى بزيارة الملك سلمان لموسكو. وحيث تلتقي المملكة بالتأكيد مع الدور الروسي المضاد للثورة، فهي ترتاح له أكثر بالتأكيد مما كانت ترتاح لمحاولة إدارة باراك أوباما احتواء الثورة من خلال الإخوان المسلمين وبمعونة قطر وتركيا. والحال أن روسيا باتت تشكّل مع الغلاة العرب المضادين للثورة في دولة الإمارات ومصر السيسي، ثالوثاً رجعياً بامتياز هو الحليف الطبيعي للمملكة.
وإن كان ثمة تعارضٌ ما برح قائماً حتى ماضٍ قريب بين سياسة هذه الأخيرة والسياسة الروسية في سوريا، فإن كافة الدلائل تشير اليوم إلى أن الرياض أحجمت عن السعي وراء إزاحة آل الأسد من الحكم ولم تعد مهتمة سوى بتحجيم دور إيران الإقليمي ولجمه في سوريا، مثلما أحجمت قبلها أنقرة عن المسعى ذاته ولم تعد مهتمة سوى بلجم القوات الكردية الفاعلة في الساحة السورية تحت المظلة الأمريكية. فإن الغاية الرئيسية الحقيقية من المنعطف السعودي نحو موسكو هي حثّ موسكو على لجم إيران. ويندرج تماماً في هذا السياق شراء المملكة لصواريخ روسية إذ أن تلك الصفقة من شأنها تصعيد شكوك إيران في نوايا روسيا، لا سيما أنه لا يخفى عن أحد أن الهدف الأساسي لأي صواريخ أرض/جو تقتنيها المملكة إنما هو جارتها وألدّ أعدائها "الجمهورية الإسلامية"، لا غير.
وبكل ذلك يكون لاعب الشطرنج بوتين قد ربح رهانه وأفلح حتى الآن في مجازفته التي لم تكن مضمونة النجاح على الإطلاق. أما اكتمال فوزه الراهن الذي يفوق بالتأكيد ما أمل به عند بدء لعبته، فما كان بالممكن، طبعاً، لو لم تغدُ الولايات المتحدة "الرجل المريض" في السياسة الدولية، تشهد عاصمتها حالة من التخبط السياسي تفوق في ابتعادها عن المعقول كافة المسلسلات التلفزيونية القائمة على تصوير الحكم الأمريكي بصورة كاريكاتورية. وبعد أن بدأ دونالد ترامب عهده بجملة من العنتريات وعرض العضلات، تلاشت مصداقية تهديده ووعيده الثرثار في وجه إيران مثلما تلاشت إزاء حكم قراقوش المستبدّ في كوريا الشمالية، إلى حدّ أن جيران الدولتين، سواء أكانوا من أخصامهما أم من أصدقائهما، أخذوا يخشون ما قد يترتّب من نتائج كارثية على تصرّفات ترامب الحمقاء أكثر مما يعوّلون على واشنطن لحمايتهم.
 
٭ كاتب وأكاديمي من لبنان