الرئيسة \  واحة اللقاء  \  عزلة الحكومات العربية: زلزال التاريخ والهوية

عزلة الحكومات العربية: زلزال التاريخ والهوية

21.06.2018
فادي قدري أبوبكر


القدس العربي
الاربعاء 20/6/2018
منذ حملة نابليون الفرنسية مروراً بالاستعمار البريطاني وحتى نكسة عام1967، واجهت الدول العربية أخطاراً وتحديات جمة، تمثلت أبرزها في التبعية السياسية والخضوع الفكري والثقافي، حيث إن الغزو الاجتماعي والسياسي كان له أبعد الأثر في فرض السيطرة الغربية في مجال الاقتصاد والتعليم والفن والصحافة، وما ترتب على ذلك من تفريغ الشباب العربي من قوميتهم واحتوائهم داخل أطر من التبعية والسيطرة تحت اسم الحضارة والحداثة والتقدم.
مع كل مرحلة كانت الأسئلة تتدفق: ما معنى الوحدة العربية؟ ما دور الإسلام في تكوين هذه الوحدة؟ كيف تتحقق الوحدة؟ كيف يتصرف العرب في ثرواتهم؟ ما هي الاشتراكية العربية؟ وما زالت الأسئلة تتدفق دون إجابات، أو حتى محاولات للإجابات!
ما زالت مرارة النكسة تسري داخل النفس العربية حتى يومنا هذا، وبعد إعلان الولايات المتحدة الأمريكية المنافي لكل المواثيق والاتفاقات الدولية أن القدس عاصمة لإسرائيل، أصبح العرب عرضة أكثر فأكثر للخطر الداهم المتمثل في فقدان الذاتية القومية والوطنية على حد سواء.
 
مشكلة الحكومات العربية
أصبح من المعتاد رؤية الحكومات العربية تتقلب في علاقاتها مع مجتمع السياسة العالمية. من جانب آخر فإن الضعف الاقتصادي والتعليمي والقانوني المدني أيضاً الذي تعاني منه الحكومات العربية جعلها لا تستطيع التعامل مع العالم بروح الانفتاح والتسامح، الأمر الذي يمكن أن نعزوه إما إلى شعورها بالدونية، أو أنها حقاً أقل من المستوى السياسي اللائق والمطلوب. ولذلك تعيش تحت رحمة هذا المزاج السياسي العالمي الذي قد يقصيها في أي لحظة.
منذ النصف الثاني من القرن العشرين تقريباً، سيطرت الأفكار الشمولية على معظم الحكومات العربية. ولا تتوقف مشكلة هذه الحكومات عند كونها تعطل الحرية ومناخها فحسب وإنما تكمن في أنها جعلت المواطن العربي ضعيفاً محطماً أمام الوعي العالمي المتقدم، إلى جانب تدمير التوق الإنساني للتحقق، وتفكيك ومحو أي مشروعات جادة تعمل من أجل التغيير.
إذا ما نظرنا إلى التحركات الإسرائيلية فيما يخص "المحرقة النازية"، فإنها تلقت استجابة لدى الكثير من دول العالم. في المقابل فإن الحكومات العربية لا تتعامل بجدية مع الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وحـتى أنها تتـعامل وكأنـها ليـست طـرفاً فـيه أحـياناً.
الحقيقة الأكيدة أن هذا الصراع هو صراع عالمي، وعلى الحكومات العربية أن تعي أنها طرف في هذا الصراع. ومهما بلغت درجة أهمية المصالح القطرية بالنسبة لها، ستبقى كل الدول العربية طرفاً في هذا الصراع وستتحمل آثار هذا الصراع ولو بعد حين.
وسط كل هذا فإن الخطاب السياسي العربي يغلب عليه التعميم والتجريد، في حين أن التفصيلي هو المهم؛ والدخول في السياسة والتكتل الحزبي من أجل ممارستها يتطلب مشروعا تفصيليا محددا كالذي يقدمه الرئيس الفرنسي الحالي ايمانويل ماكرون وغيره من أصحاب البرامج التي ترقى إلى المستوى المطلوب.
نلاحظ في خطابات الرؤساء العرب أنه يغلب عليها الطابع التعميمي، لدرجة يمكن وصفها بأنها أشبه باللاخطاب لأنها لاتعترف أن هنالك مُخاطبين أصلا.
استوقفتني في أحد الأيام مبادىء تضمنها مستند كتبه تيرنر كولن، وهو كاتب أغان ومنتج موسيقي من ايرلندا، وقد أطلق كولن على المستند اسم "الميثاق العالمي الحر". معظم المبادئ استوحاها من جاك فريسكو في كتابه "مشروع فينوس" وسلسلة بيتر جوزيف المصورة في فيلم "روح العصر".
ينص المبدأ الرابع في هذا الميثاق على أن "كل إنسان هو جزء من مجتمع متساو في جميع أنحاء العالم من البشر، ويعتبر مواطنا أرضيا حرا". إن هذه الإشكالية الرئيسة وأصل كل المشكلات التي لم تتنبه لها حكوماتنا العربية، وهي أنها لم تساعد المواطن العربي أو تسمح له بأن يشعر بإنسانيته، وبغرس رأسه بالحقيقة التي تقول بأنه متساو مع أي مواطن آخر في العالم، الأمر الذي جعل العقل العربي يشعر بالدونية التامة أمام الآخر.
 
"الربيع العربي" لم يأتِ بجديد
تسعى الحكومات العربيةعن قصد أو بغير قصد نحو الفقدان التام للذاكرة. ذاكرة التاريخ والهوية. وكل هذه الشواهد تساهم في انعدام حالة السيادة الوطنية في تلك البلدان؛ مما يعطل المسألة السياسية والوطنية كلها ويجعل العالم غير مفهوماً لنا، وغير معروف الاتجاهات، ويجعلنا في عزلة، عزلة تامة.
يرى كارل ماركس أن الطبقة الاقتصادية المسيطرة في مجتمع ما تطبع كل جوانب المجتمع بطابعها من العادات إلى القوانين إلى الأديان وبالتالي يستحيل تغيير المجتمع إلا بإزالة هذه الطبقة نهائياً.
ما يسمى بالربيع العربي لم يأتِ بجديد، اللهم أنه نزع طبقة ووضع طبقة أخرى مكانها ولهذا لم يتغير شيء. وحتى تونس، التي تم وسمها بـ "الأنجح ثورياً" ما زالت تواجه نظاماً جديداً قديماً، بمعنى أنه لم يجر فيها هذا التغيير الجوهري المطلوب.
الأصل كما يرى ماركس أنه عندما تزيل الطبقة المسيطرة لا تحل محلها طبقة أخرى، بل يحل محلها الشعب الذي يملك وحده الثروة.
قضية الأمة الرئيسية ليست بتغيير الأشخاص وإنما بتحرير البلاد من كل أنواع الاستعمار والتبعية.
الحاجة العربية إلى إعادة رسم خارطة القوة الناعمة
خلصت دراسة أجراها مركز الدراسات الشرقية، التابع لجامعة بانديون للعلوم السياسية والإدارية في أثينا، إلى أن المسلسلات التركية هي جزء من القوة الناعمة التي تستعملها تركيا، حيث أن 74% من مواطني العالم العربي يتابعون عملاً درامياً تركياً واحداً على الأقل.
في ظل تفرغ اليمين الأوروبي لمعاداة المسلمين، وإظهارهم بصورة مشوهة، إلى جانب القوة الناعمة التركية المستجدة وتلك المصنوعة منذ عقود من قبل الاستعمار الغربي في سبيل التغلغل والتأثير في العقل العربي، لا بد من اليقظة الفورية إزاء الأخطار المحدقة بالأمة جرّاء الأطماع والتهديدات الإقليمية التي تستهدف الدول العربية وعواصمها ونسيج مجتمعاتها.
تحتاج البلدان العربية إلى إعادة رسم خارطة قوتها الناعمة وتوجيه مصادر قوتها ونفوذها لقطع الطريق على أيّ قوة تسعى إلى غسل أدمغة الأجيال الناشئة.
تتحكم في مصائر الإنسان العربي نظم سياسية استبدادية لا تقيم للمواطن وزناً، ويعيش في ظل حالة اغتراب وعزلة تامة نتيجة للتجريف الشامل للقيم الإنسانية والاجتماعية والوطنية في الوطن العربي. إن الإنسان العربي يعيش في واقع لم يُجِد أحد التعبير عنه أكثر من أبو حيان التوحيدي في قوله: "إن أغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه".
 
خاتمة
تعيش الهوية العربية لحظات حاسمة لن تنجو منها إلا بالعمل على بناء القوة الذاتية العربية، قوة الجماهير العربية المنظمة وفي تنمية هذه القوة يجب أن نخوض صراعاً على جميع المستويات ضد خط الاعتماد على الخارج والتبعية والاستسلام له. وستبقى القوة الرئيسية في مواجهة المشاريع الأمريكية والإسرائيلية الاستعمارية، هي قوة الجماهير العربية، وقواها المنظمة المصممة على تحقيق أهدافها.
التجاوزات الفردية ستحدث دائماً ولكن النظام المنبثق من مصالح الجماهير قادر دائماً على تصحيح المسار، وهذا النظام بعد بزوغه تنتظره مهام وتحديات تتطلب إعداداً غير تقليدي للفرد العربي وبذل أقصى جهد لإعادة بنائه ثقافياً وفكرياً.
 
كاتب وباحث فلسطيني