الرئيسة \  واحة اللقاء  \  في رحيل البطريرك صفير وتمايز موارنة لبنان

في رحيل البطريرك صفير وتمايز موارنة لبنان

22.05.2019
إيلي عبدو


القدس العربي
الثلاثاء 21/5/2019
تبنى اللاهوت المسيحي خصوصاً النسخة الشرقية منه مساراً فلسفياً ضيقاً لمفهوم الحرية، يحيل الأخير إلى فعل بين الإنسان ونفسه، بدون أي بعد سياسي يقتضي المشاركة والتغيير والتفاعل مع الأحداث. فالحرية تستند إلى الإرادة الداخلية للتحكم بالذات والسيطرة على اختياراتها، وليست انتخابات وحرية رأي ومحاججة في فضاء عام. ولع الفيلسوفة حنة أرندت، أبرز من انتقد هذا المسار، مستعرضة سياقه المتداخل بين اللاهوت والفلسفة، عبر استحضار نموذج اليونان القديمة كنقيض له، حيث الحرية، مرتبطة بالسياسة والرأي، لا بالإرادة والشعور الداخلي، ومكان تحققها الفضاء العام لا دواخل البشر.
والحال فإن، التصور الميتافيزيقي للحرية دخل بشكل غير مباشر إلى صلب العقائد المسيحية، فباتت الحرية "تخلصا من الخطيئة"، و"تقربا أكثر من الله"، ما انعكس على حياة المسيحيين في منطقتنا، المؤمنين أصلاً بقول المسيح "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، في إيحاء للابتعاد عن الدنيويات والتركيز على الروحانيات. غير أن موارنة لبنان شذوا عن القاعدة، ذاك أن توزعهم الجغرافي، واحتكاكهم بالبعثات التبشيرية، وانفتاحهم الاقتصادي، وبحثهم عن أمان في محيط معاد، جعلهم سباقين في تبني فكرة الوطن بوصفه "دولة ـ أمة" حيث يتطابق وعي الجماعة مع وجودها.
الحرية، مرتبطة بالسياسة والرأي، لا بالإرادة والشعور الداخلي، ومكان تحققها الفضاء العام لا دواخل البشر
ما أدخل عناصر سياسية على مفهوم الحرية عندهم، فكي نعيش بدون خطيئة، كما يعلم اللاهوت، لابد من كيان قانوني حر، شاءت سياقات التاريخ أن يتكون في لحظة قررت فيها دول غربية، بينها فرنسا، تنظيم الفوضى التي خلفها انهيار الدولة العثمانية في بلادنا. تحولات الموارنة تلك، ساقها قادة محليون تكرسوا لاحقاً كبيوت سياسية توارثت الزعامة والمقاعد النيابية، وكذلك الكنيسة المارونية، حيث ولد لبنان الكبير على يد بطريركها الياس الحويك، لتستمر ضمن مسار طويل كـ"حامية للكيان"، الذي ضُمت إليه أجزاء في وقت لاحق، وبات رهين ميثاق هش بين المسلمين والمسيحيين، انهار بشكل عرضي عام 1956، لينتهي نهائياً مع بداية الحرب الأهلية.
من هنا، البطريرك الراحل مار نصر الله بطرس صفير، الذي تسلم مهامه منتصف الثمانينيات، كان شاهداً على انسحاب المسيحيين من دورهم المؤسس في البلد، وتحولهم إلى مهزومين، خصوصاً بعد نهاية الحرب والاتفاق على الطائف، الذي لم يحظ بموافقة مسيحية، وغامر صفير آنذاك بمنحه غطاء كنسياً، لكنه انتظر الفرصة التي جاءت عام 2000 بالانسحاب الإسرائيلي من الجنوب، ليعيد إحياء مفهوم الحرية لا بوصفها جزءا من الإيمان، بل حركة وفاعلية واحتجاجا ضد وجود جيش النظام السوري في البلد. وعليه، فإن الراحل صفير جزء من مسار موارنة لبنان في علاقتهم مع الحرية، كمفهوم يتجاوز ما كرس في العقائد الدينية. بيد أن هذا التجاوز لا يصل إلى اقتراح أرندت المضاد، حيث الحرية مكسب عام يستفيد منها الجميع، الموارنة أحرار، بمعنى حفاظهم على وجودهم، سواء في تأسيس كيان أو في البحث عن استمرار ما في هذا الكيان.
وإن صح أن هذا فكر أقلوي يحتاج إلى تطوير، ليس من الموارنة فقط، بل من كافة الجماعات، انطلاقاً من علاقتها بالحرية، صح أيضاً أنه أفضل من خيارات مسيحيي سوريا مثلاِ، الذين يرفعون صورة بشار الأسد في أعيادهم الدينية مكرسين أنفسهم أهل ذمة، خانعين بأوضاعهم، وخائفين من أي تغيير، وفي الوقت نفسه يتوهمون أنهم أحرار، لكن في دواخلهم فقط.