في جدل بناء الأمة والدولة السوريتين
19.06.2025
موفق نيربية
في جدل بناء الأمة والدولة السوريتين
موفق نيربية
القدس العربي
الاربعاء 18/6/2025
لم يكن شائعاً في السابق استخدام مفهوم الأمة للدلالة على الناس الذين يعيشون في سوريا، بل كان ذلك أقرب إلى “المفهوم المُحرّم” لحساب مفهوم “ الأمة العربية”، رغم البدء بترويج الأوّل منذ الربع الثاني للقرن العشرين، خصوصاً من خلال الحزب السوري القومي الاجتماعي وأنطون سعادة، الذي لم يكن يعني ذلك الشعب الذي يعيش ضمن حدود سوريا، التي نعرفها حالياً، بل أوسع من ذلك في مشرق البحر المتوسط. لم تكن هنالك غالباً مثل هذه الأمة قبل الثامن من ديسمبر الماضي، أو حتى كانت هنالك “دولة” أيضاً في العقد السابق. ما كان هو حدود مهتزّة للبلاد، تسيطر عليها قوى مختلفة، مع انقسام حاد في المجتمع والشعب ينكره البعض، وبنية غير محدّدة تماماً، ما بين الهشاشة والفشل والانهيار للدولة.
انكشف الحجاب عن العقل الفردي والجمعي، بعد ذوبان النظام وانكشافه في ذلك اليوم المشهود؛ وانقشاع غمامة الخوف والقلق القاتمة في المجتمع وداخل الضمير السوري، وانقلاب ما كان في الداخل إلى الخارج متعرّضاً لعوامل الطبيعة وتلوّثها، وظهور حالة تحرير للتعبير غير متحفّظة، تعالج الانقسام أحياناً بالدعوة إلى بتر الطرف الآخر.
في ضوء ذلك تحتاج البلاد إلى عملية كبرى ومعقّدة لبناء الأمة والدولة في وقت واحد. يشمل بناء الأمة تعزيز الشعور بالهوية – الوطنية الجامعة – والوحدة والتماسك الاجتماعي بين مختلف الجماعات الإثنية والدينية والمناطقية والسياسية. وقد زادت من صعوبات الأمر الانقسامات القومية والطائفية طويلة الأمد التي كانت تتفاعل في الخفاء نسبياً مع حالة إنكار عجيبة، وانكشفت بعد انهيار النظام وتداعيات الحرب الأهلية، أو ما في حكمها. تعدّ جهود المصالحة والحوكمة الشاملة والقيم المشتركة بالغة الأهمية هنا، مع أنها قد تكون بطيئة الفعل ومعقّدة. ولن يكون ممكناً تسريع خطاها إلّا من خلال الدخول الجدّي في مسار العدالة الانتقالية والمصالحة مع الذات/ الآخر.
يُعدّ بناء الدولة مهمة جسيمة وخطيرة، تتطلّب لنجاحها استعادة الأمن والاستقرار والحوكمة الفعّالة.. وهذا ضروري في الوقت ذاته لجعل إعادة البناء ذات مضمون ومعنى
أمّا بناء الدولة الذي قد يشوّهه مفهوم “إعادة البناء” ويعطيه مضموناً مادياً ملموساً وحسب، فهو يشير إلى إنشاء مؤسّسات فعّالة وحوكمة وسيادة قانون… وبنية تحتية. في ظلّ الصراع وتدمير مؤسسات الدولة والتحديات الاقتصادية والمعاشية، يُعدّ بناء الدولة مهمة جسيمة وخطيرة، تتطلّب لنجاحها استعادة الأمن والاستقرار والحوكمة الفعّالة… وهذا ضروري في الوقت ذاته لجعل إعادة البناء ذات مضمون ومعنى، لا مجرّد “سوق سمك” يضجّ بصراخ السماسرة ولهاثهم وراء الكسب السريع. كلاهما صعب ويتطلّب جهوداً متزامنة. فدون هوية وطنية متماسكة قد تتعثّر خطوات بناء الدولة، وعندها يمكن للدولة الضعيفة أن تعيق وتمنع بناء الأمة. التحدّيات متعدّدة الأوجه ولا يمكن مواجهتها إلّا بعمل متضافر من الجهات الداخلية والخارجية على حدّ سواء. ضروري أن تقود السلطة الجديدة ونواتها عملية بناء الدولة بالتعاون مع النخب الاقتصادية والمهنية والإدارية السورية في الداخل والخارج، بالاستعانة أيضاً بالخبرة والتجارب الدولية، لإنجاز التحديث المؤسّسي والحكومي للحفاظ على انضباط المجتمع، ولكن مع تقديم وتيسير الخدمات العامة. في حين يحتاج بناء الأمة إلى أن تكون النخب الفكرية والثقافية والسياسية نفسها في المقدّمة بدور أقرب إلى أن يكون قيادياً، من أجل تعزيز التماسك المجتمعي والشعور بالهوية والانتماء الوطنيين والمشترَكَين، وبثقافة شاملة، ولو كان التنوّع أهمّ صفاتها، وبالقيم العامة في الحقوق والحريّات وسيادة القانون، وبالتضامن الاجتماعي. في الفكر السياسي الحديث، لا يكون الحدّ بين بناء الدولة وبناء الأمة واضحاً كالشمس دائماً. يستخدم سيمون تشيسترمان مصطلح بناء الدولة وحده، لأن بناء الدولة، كما يقول، يقتصر على حالة ما بعد الاستعمار. في حين يقرّ فوكوياما بالفرق بين المفهومين، لكن استخدامه لهما يوحي بأنّه يعتبر بناء الأمة مصطلحاً سياسياً لوصف ما يطلق عليه أكاديمياً بناء الدولة.
تحتاج سوريا إلى التعامل مع المفهومين والمهمّتين باستقلال نسبي بينهما، بسبب القلق من مصائر شبيهة، بما حدث في التجربة العراقية، التي كان الاهتمام فيها ببناء الأمة ضعيفاً، فنخر فيها الفساد الإداري والاقتصادي والسياسي، وقسّمها التدخل الإيراني دون جهد كبير، فوصلت إلى حالة قلقة، بحيث جعلت كلّ محاولات الخروج منها تتعرّض للفشل المتكرّر. من جهة أخرى، ليس هناك دول فاشلة وحسب، بل أيضاً أمم فاشلة. فالأمم باعتبارها أساساً للدولة، قد تلحق بها ضعفاً وانهياراً، كما حدث في سوريا مع تداعي الدولة بقيادة الأسد في العقد الماضي، بذلك انعكس فشل بنية الأمة في بروز الانقسامات الطائفية والإثنية عميقاً- ومكتوماً- في العهد الطويل السابق، وهو ينعكس صارخاً حالياً، مع “فتح” القمقم وتحرير الجنّي المكبوت فيه. في مثل ذلك المسار يتجلّى ما اعتبره البعض فشلاً للأمّة، هو تفاقم لفشل الدولة. سوف يزيد ذلك المسار بالطبع صعوبات السلطة الجديدة وهي تحاول بناء الدولة على نسق جديد لم يتبلور حتى الآن. ولم نلمح حتى الآن اهتماماً بذلك، ربّما بسبب الانهماك في قضايا تظلّ شكليّة، رغم أهميّتها: كالاعتراف الخارجي، والتمركز حول الذات لتحصينها، إضافة إلى ضعف الخبرة والتجربة والخلفية الأيديولوجية بالطبع. ليس من عاصم من تلك الصعوبات والغرق فيها إلّا بجعل المسار دستورياً. وبشكل عميق غير ضحل ولا ظاهري. فمن أجل تيسير ذلك الطريق، أعطى فوكوياما ـ مثلاً – أهمية خاصة للدستور كمحور للولاء الجمعي أو الجماعي. كما نَحت هابرماس مفهوم “الوطنية الدستورية” ليحلّ جزئياً، أو كلياً في مكان بعض عناصر الهوية الأخرى، أو ربما ليتقدّم عليها. وبعد ذلك تمّ تداول مفهوم” الأمة الدستورية” على النسق ذاته… وبطريقة أخرى: حين يتمّ التركيز على بناء الدولة أحياناً فلدورها في تكريس بناء الأمة، الذي يعود لينعكس بدوره على تصليب بناء الدولة. يصبح مسار الدستور عندئذٍ قادراً على تخفيف الأثر التخريبي لبعض عناصر الهوية غير القابلة للتحوّل، ومنعها من إعادة إنتاج الانقسامات، أو فشل الأمة من جديد.
كان الإصرار على إبراز هوية الأغلبية دون غيرها في عدد من الدساتير السورية السابقة خاطئاً ومُفخِّخاً للدولة، زادت من تفاقم أثره سياسات الديكتاتورية التي تعرض نفسها كحلّ وحيد لا يمكن لشعب كهذا أن يعيش من دونه، مما كشف نهائياً عن مفارقة تركيبة النظام -الأقلّوية- ووحشية سلوكه مع شعبه بكلّ فئاته، وخصوصاً تلك التي تبنّتها الدساتير السابقة.
لم يجر تدارك ذلك في “الإعلان الدستوري”، الذي أُعلن في مارس الماضي، ولم يترك الأمر مفتوحاً للحوار والنقاش الوطني لاحقاً. فكأنّه أبطل مسبقاً ذلك الحوار وقرّر مخرجاته، كما فعل مع “مؤتمر الحوار الوطني” الذي شكّله ونظمه قبل ذلك أيضاً. وربّما كانت العلّة في ذلك المفهوم الذي يكاد يكون محظوراً حالياً: الديمقراطية، الذي لا يمكن من دونه تحرير الطاقات الكافية لمهمة كبيرة كهذه عنوانها الجمع بين بناء الدولة وبناء الأمة، أو بناء الدولة – الأمة على نمط حديث وقابل للحياة: ذلك هو مفهوم الديمقراطية. ولا يطلب أحد في سوريا الدخول في ذلك مباشرة من أوسع أبوابه، بل يؤكّد الجميع على أولوية الأمان والاستقرار، والسلام الداخلي والخارجي، وعلى الأمن المعاشي واستعادة قيمة العمل، وبالطبع مع تعزيز حقوق الإنسان وضمان الحريات الأساسية.. وقبول مبدأ الشمول والمشاركة وتنفيذه، لا الاستمرار في الالتفاف حوله.