الرئيسة \  مشاركات  \  فى رحاب الذكرى المئوية لثورة 1919

فى رحاب الذكرى المئوية لثورة 1919

18.03.2019
محمد سيف الدولة


Seif_eldawla@hotmail.com

ثغرات فى وعى الأمة
كثيرا ما يحتار المرء من قصور الوعى السياسى والشعبى لجيل كامل وعجزه عن رؤية وادراك ومواجهة مخاطر واضحة وضوح الشمس، وتبديد جهوده واهتماماته فى قضايا ثانوية وتوجيه بوصلته الى الوجهة الخطأ. على غرار ما يحدث اليوم على سبيل المثال، من تراجع وغياب مشروع التصدى للتبعية الامريكية وللتطبيع والتحالف المصرى والعربى مع (اسرائيل) الذى وصل الى مرحل شديدة العمق والخطورة. والأمثلة كثيرة.
***
ولقد وجدت فى تاريخ جيل 1919 سابقة مماثلة تكشف الى اى مدى يمكن لجيل بكامل بكل مفكريه وقادته وتياراته المختلفة ان يغفل عن حقائق ومخاطر مؤكدة ووشيكة.
فاذا نظرنا على سبيل المثال الى كتابات المؤرخ الراحل الكبير عبد الرحمن الرافعى الذى يعتبر المصدر الرئيسى لغالبية الباحثين فى تاريخ واحداث ثورة 1919، فلن نجد حرفا واحدا فى هذه الكتابات، ينم عن وعى وادراك لاى من قضايا أربع، اخترناها على سبيل المثال، نعلم جميعا اليوم كم كانت من الاهمية والخطورة والتاثير على مصائرنا ومجتمعاتنا لعقود طويلة مستمرة حتى يومنا هذا:
• القضية الاولى هى اتفاقيات سايكس بيكو التى وقعت بين انجلترا وفرنسا عام 1916 وتم الاعلان عنها بعد الثورة البلشفية عام 1917 ضمن الوثائق السرية المكتشفة فى وزارة الخارجية الروسية، فاننا لا نجد لها اى اثر يذكر فى كتابات الرافعى او فى بيانات ومواقف وتصريحات قادة وزعماء ثورة 1919، رغم ان هذه هى الاتفاقية التى رسمت حدودنا الحالية التى لا نزال نعيش داخل أسوارها حتى اليوم، والذى فشلت كل محاولاتنا فى الفكاك من أسارها، واكبر مثال على ذلك هو فشل وحدة 1958 بين مصر وسوريا التى تمت فى ذروة المد القومى العربى فى المنطقة.
لقد غابت عن اهتماماتهم رغم ان ما قامت به من تقسيم وتجزئة كان لها بالغ الأثر على فشل وتعثر كل محاولاتنا فى الاستقلال او فى الحفاظ على الاستقلال الذى تحقق، أو فى التنمية وسد احتياجات الشعوب العربية، او فى التقدم واللحاق بباقى شعوب العالم، خاصة تلك التى كانت تعيش فى ذات ظروفنا ولكنها انطلقت وتقدمت علينا بمسافات شاسعة، ربما بسبب ان اراضيها واممها وقومياتها لم يقم الاستعمار بتقسيمها أو بتجزئتها كما فعل معنا، وحين فعل فانه قسمها الى دولتين لا أكثر كما حدث فى كوريا وليس الى 22 دولة كما حدث معنا.
***
• القضية الثانية التى غابت عن جيل 1919، هى وعد بلفور الصادر عام 1917، والذى كان هو اللبنة الاولى فى صناعة وزرع ما يسمى اليوم بدولة (إسرائيل) التى يدرك كل صغير وكبير فى الشعوب العربية اليوم، كم هى اكبر لعنة استعمارية غربية ضربت وطننا العربى على امتداد التاريخ، من حيث هى قاعدة عسكرية استراتيجية متقدمة للاستعمار الغربى فى أراضىنا، وحائط فاصل بين مشارقنا ومغاربنا للحيلولة دون توحيدها، وشرطى تأديب لاى شعب عربى يرغب فى التحرر والاستقلال والنهضة والتقدم، تقوم منذ انشائها بالاعتداء علينا واحتلال اراضينا وطرد شعوبنا وقتل أهالينا، حتى تحولت اليوم الى القوة الاقليمية الكبرى فى المنطقة، لا يجرؤ أى نظام عربى واحد على تحديها، بل على العكس اصبحوا يتسابقون جميعا لنيل رضاها والتطبيع والتحالف معها. هذه القضية "الأم" على خطورتها ومحوريتها كانت غائبة تماما عن اجندات واهتمامات ومطالب الحركة الوطنية المصرية وثوار 1919.
***
• القضية الثالثة التى غفل عنها ثوار 1919، ويا للعجب، هى طبيعة وحقيقة المشهد الدولى بعد نهاية الحرب العالمية الاولى، فلقد تصور اجدادنا ان المجتمع الدولى حينئذ سيقوم بمنحهم الاستقلال وحق تقرير المصير، وناضلوا وثاروا من اجل ان تسمح لهم بريطانيا بالمشاركة فى مؤتمر الصلح بباريس لعرض مطالبهم، رغم ما اصبحنا نعلمه جميعا اليوم من ان هذا المؤتمر لم يكن سوى ملتقى لاقتسام الغنائم وتوزيعها على المنتصرين فى الحرب، والتى لم تكن فى حقيقتها سوى حرب بين قوى ودول استعمارية تتنافس وتتصارع على احتلال بلاد العالم، أى حرب بين اشرار واشرار، كلهم يريدون دماءنا، وبالتالى كان وضعنا الحقيقي فى مؤتمرات الصلح هو فى سلة الغنائم، ورغم ذلك ذهبنا، ويالا سذاجتنا، لمطالبة مقتسمى الغنائم ان يمنحونا استقلالنا.
***
• واخيرا وليس آخرا، تاتى القضية الرابعة التى اود ان استشهد بها هنا للتأكيد على ظاهرة قصور الوعى لدى جيل 1919، وهى قضية تشرذم حركات التحرر الوطنى العربية فى ذلك الحين، واستقلال كل منها بمعركته ومطالبه الخاصة بعد الحرب العالمية الاولى فى مواجهة انجلترا او فرنسا او ايطاليا، رغم انهم جميها كانوا محتلين أو مستهدفين كغنائم حرب كما تقدم، وبدلا من ان يتضامنوا ويطرحوا قضاياهم كقضية واحدة يعلنون فيها رفضهم للتقسيم والاقتسام وللاحتلال والانتداب .. الخ، ذهبوا وشاركوا منفردين ففشلوا جميعا فشلا ذريعا، مكن الاحتلال من البقاء فى بلادنا لثلاثين عاما أخرى قبل ان تبدأ بشائر الاستقلال فى الظهور فى العشر سنوات التالية للحرب العالمية الثانية.
• وهو ذات الخطأ أو الخطيئة التى لا نزال نكررها حتى يومنا هذا، حين نواجه كل مشاكلنا وتحدياتنا والمخاطر التى تهددنا والتى يقف ورائها مايسترو واحد، نواجهها منفردين؛ فالامريكان و(اسرائيل) والاوروبيين، والمقرضين والدائنين فى نادى باريس وصندوق النقد والبنك الدوليين، وعصابات النهب الدولى من الشركات عابرة القومية، والحظر المفروض على أى سلاح نووى عربى ...الخ، كلها مصادر خطر وتهديد واعتداء مشترك علينا جميعا بدون استثناء، ولكننا لا نزال نصر على مواجهتها منفردين.
***
ما أهمية طرح هذا الكلام اليوم؟
اهميته فى تصورى، تكمن فيما ما ذكرته فى مقدمة هذه السطور، من التراجع والاضطراب الشديد الواقع اليوم فى اجندة واولويات الحركات الوطنية والسياسية العربية، من غياب اى مشروعات جادة لمواجهة مجموعة التحديات التالية:
• تغلغل الهيمنة الامريكية واستفحال التطبيع والتحالف المصرى والعربى مع (اسرائيل) وتصفية القضية الفلسطينية.
• وانفجار الصراعات الطائفية والمذهبية والعربية/العربية والتى تنذر بمزيد من التخلف والهزائم والانقسام والتقسيم.
• بالإضافة الى استمرار رهان البعض على النظام الرسمى العربى الذى توفى اكلينيكيا منذ زمن بعيد والذى يتكون من أنظمة تعتاش على الطغيان والطبقية والاستئثار والافقار والتبعية والتطبيع والفشل والتخلف الشديد.
 والتى لا اعلم هل تعود أسباب تجاهل هذه التحديات الكبرى وغيرها، من قبل كثير من القوى السياسية العربية الى قصور فى الوعى والرؤية، ام هى احدى علامات الوهن واليأس والاستسلام العربى.
*****
القاهرة فى 16 مارس 2019
مقاطعة العدو .. دروس من ثورة 1919
ما أحوجنا فى مصر والعالم العربى، فى ظل وباء التطبيع الرسمى العربى الذى ضرب المنطقة فى السنوات الاخيرة، الى احياء وتطوير حركة المقاطعة الشعبية فى مواجهة كل أعداء الأمة ووكلائهم فى بلادنا، بدءا بالولايات المتحدة و(اسرائيل) وكل من يدعمها أو يطبع ويتعامل معها، من شركات البترول والغاز والكويز والهايتك والسياحة والرياضة والزراعة واى مجال آخر.
ولقد كان لنا تجارب ناجحة فى ذلك، فى مراحل سابقة خاصة فى الفترة من 1948 حتى 1973 حين كان النظام الرسمى العربى وجامعته العربية يتبنى المقاطعة ويديرها، قبل ان تسقط غالبية الانظمة العربية فى مستنقع التبعية للولايات المتحدة، وتخضع لشروطها فى حظر مقاطعة (اسرائيل) او الشركات المتعاملة معها.
ثم ظهرت حركة مقاطعة شعبية قوية مع الانتفاضة الفلسطينية عام 2000، ووجهت ضربات موجعة للمصالح والبضائع الامريكية فى مصر والوطن العربى، الى ان اخذت فى الضعف بالتدريج الى ان كادت ان تتلاشى تماما فى آخر عشر سنوات.
لتحل محلها حركة BDS (حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات) التى تأسست عام 2005 والتى استهدفت مقاطعة الشركات العالمية التى تتعاقد مع الجيش الاسرائيلى او مع المستوطنات الاسرائيلية.
وفى ذات السياق وبمناسبة الذكرى المئوية لثورة 1919، من المهم على كل من يبتغى احياء حركة المقاطعة الشعبية أو تطويرها ان يتعرف على تجربة ثوار 1919 فى مقاطعة الاحتلال البريطانى الذى كان لها بالغ الاثر فى تراجع الاحتلال، واتخاذه قرار بمهادنة الثورة واصداره تصريح 28 فبراير 1922، بعد ان كان يرفض فيما سبق اى ذكر لاستقلال مصر على الاطلاق.
وفيما يلى "نص" الدعوة التى وجهها قادة الثورة الى عموم الشعب المصرى فى 23 يناير 1922 بعد اعتقال ونفى سعد زغلول للمرة الثانية، من اجل مقاطعة الاحتلال وكل من يتعاون معه فى كافة المجالات: بدءا بالمعاملات الاجتماعية والفردية مرورا بتشكيل الوزارات وبالمصالح الحكومية والمحاكم، وصولا الى البنوك والسفن وشركات التأمين وكافة انواع التجارة..الخ
ولقد تضمنت الدعوة تحديد لآلية تنظيم وادارة ومراقبة حركة المقاطعة على مستوى القطر المصرى كله، وقسمتها الى لجنة مركزية ولجان فرعية، ونشرت دعوتها فى كل مكان: فى الجوامع والكنائس والنقابات والقرى والعائلات مع قيامها بالتركيز على اهمية دور النساء فى هذه المعركة. مما عكس درجة عالية من الوعى والنضوج الفكرى والسياسى والتنظيمى تعادل ان لم تتفوق على نظيرتها من الحركات الوطنية فى زمننا المعاصر وفيما يلى نص الدعوة كما هو منشور فى كتاب الاستاذ عبد الرحمن الرافعى (فى أعقاب الثورة المصرية 1919):
((غضب الشعب المصرى بعد أن مد يد الصداقة للشعب الإنجليزي الحر، فرفضتها حكومته ورمته بمشروع کیرزون ومذكرته الإيضاحية، ذلك إلى بيانات الجالية البريطانية في مصر وتصرفات الموظفين الإنجليز الذين يقاومون كل اتفاق عادل بين الشعبين، ولقد أظهر الشعب المصرى ذلك الغضب بكل الوسائل التي في وسع شعب حى شاعر بكرامته محب للسلام، والوفد المصرى المعبر عن إرادة الأمة يرى من واجبه أن ينظم المقاومة السلبية بجميع الوسائل المشروعة.
والمقاومة السلبية تشمل مسألتين على أعظم جانب من الأهمية: الأولى عدم المعاونة، والثانية المقاطعة.
عدم المعاونة
 1- في معاملات الأفراد :
يجب على كل مصري أن يقطع العلاقات الاجتماعية مع الإنجليز وهذه العلاقات لا يمكن حصرها ولكل إنسان أن يجد فيها كل يوم شيئا جديدا وفكرة صائبة، والغرض أن يشعر الإنجليز بعزلتهم عن جميع عناصر الأمة.
وليس لعامل أن يخدم إنجليزيا ولا لمصري أن يستخدم إنجليزيا، أو يوكله عنه أو يساعده وليس لمصري أن يستشير طبيبا إنجليزيا، على أن مكارم الأخلاق تقضي على الأطباء المصريين أن يعالجوا الإنجليز إذا طلب منهم ذلك كما أنها تقضي على المصريين أن لا يمتنعوا من الاشتراك في الأعمال الإنسانية والخيرية ولو كانت إنجليزية.
۲ - في الوزارات ومصالح الحكومة والمحاكم :
من أجلى مظاهر عدم المعاونة إعراض السياسيين المصريين عن تشکیل الوزارة مادامت السياسة الحاضرة قائمة، وبذلك يتحمل الإنجليز وحدهم مسئولية السياسة المعتمدة على القوة، وأن سياسة القوة لا تدوم طويلا في حكم شعب تاریخی هذا مبلغ شعوره القومي وهذا مركزه في وسط العالم المتمدين، ولقد أجمعت الأمة على وجوب سلوك هذا المنهج فليس المصري ذي كرامة أن يخرج على هذا الإجماع، لا فرق في ذلك بين وزارة سياسية ووزارة تتستر وراء زعم أنها إدارية.
وليذكر الموظفون أنهم إنما يعملون لمصلحة بلادهم دون غيرها وأنه ليس الإنسان كائنا من كان أن يطالبهم بمعاونة في أي عمل يصادر عواطف أمتهم البريئة ويناقض أمانيها القومية المشروعة؛ لأن المبادئ العصرية والروح الدستورية السائدة في العالم تقضي بأن الموظفين ليسوا إلا منفذين لإرادة الأمة.
واجب الأهالى أن يتجاهلوا وجود الموظفين الإنجليز وأن يرفعوا أعمالهم إلى الموظفين المصريين.
وواجب المحامين أن يعملوا على فض المنازعات المدنية المنظورة أمام جلسات بها قضاة إنجليز بطريق التحكيم، وأما في المواد الجنائية فيترافعون أمام المحاكم حرصا على مصلحة المتهمين ومحافظة على الأمن العام.
المقاطعة
١- مقاطعة البنوك الإنجليزية :
على المصريين أن يسحبوا ودائعهم من المصارف الإنجليزية.
وإذا أودعوها في بنك مصر فليكن إيداع المبالغ لمدد معينة بقدر الإمكان حتى تأتي بالثمرة المرجوة كما أن الواجب على جميع المصريين أن يقبلوا على شراء أسهم بنك مصر حتى يبلغ رأس ماله مبلغا يتناسب مع حالة البلاد الاقتصادية وبذلك يتسنى له أن يساعد في إحياء المشروعات الوطنية وتنشيط الصناعة والتجارة المصرية.
 ۲ - مقاطعة السفن :
على التاجر المصري أن يحتم على عملائه في الخارج أن لا يشحنوا بضائعه على سفن إنجليزية. وليس المصري أن يسافر على مركب إنجليزي، وعلى الحمالين المصريين أن يرفضوا تفريغ السفن الإنجليزية وإدخال بضائعها إلى الجمارك وتموينها بالفحم.
3 - مقاطعة شركات التأمين الإنجليزية :
على كل مصري أن لا يعامل هذه الشركات معاملة جديدة، ومتى انتهت مدة عقود التأمين التي تكون مددها قصيرة جدا كالتأمين ضد السرقة أو الحريق والإتلاف لا يجوز المصرى تجديدها إلا في شركات غير إنجليزية.
4- مقاطعة التجارة :
يجب تفضيل المصنوعات الوطنية (المصرية) والإعلان عنها وتشجيع الإقبال عليها في كل مجلس وفي كل مكان، ويلزم تفضيل التعامل مع التاجر المصرى لأن أرباحه تبقى في البلاد ولا تتسرب إلى الخارج وبذلك تزيد ثروة البلاد العامة، أما التاجر الإنجليزي فتجب مقاطعته مقاطعة تامة، وكذلك مقاطعة كل بضاعة من أصل إنجليزي أو مستوردة بمعرفة وسطاء إنجليز مهما كانت جنسية المتاجر بها ولو كان مصريا، ولكن لأجل عدم الإضرار بالتجار المصريين ومراعاة لدور الانتقال من الحالة التي نرى فيها معظم البضائع التي في أسواقنا من أصل إنجليزي إلى الدور الجديد الذي نريد فيه ألا يكون في أسواقنا شيء من هذه البضائع يجب أن تعطى للتجار المصريين مهلة لتصريف ما عندهم من البضائع الإنجليزية وقد رؤى أن تكون المهلة ستة شهور للمنسوجات ومواد البناء وما شاكلها وثلاثة شهور للمواد الغذائية ومواد الوقود وما في حكمها.
إنما يجب على التجار المصريين أن يكفوا من الآن عن كل توصية جديدة على أي بضاعة من جنس إنجليزي.
وعلى التجار المصريين والأجانب من غير الإنجليز أن يتعهدوا بما يضمن مقاطعة البضائع الإنجليزية على هذه الصورة حتى إذا خالف التعهد أحدهم يكون هو نفسه عرضة للمقاطعة، وستنظم طريقة مراقبة التجار للتحقق من مصادر بضائعهم وستؤلف لجنة الإرشاد التجار عن المصادر غير الإنجليزية التي يمكن أن يستوردوا منها ما يلزمهم من البضائع، وستكون مهمة اللجنة.
أولا: عمل نشرات دورية عن الأصناف الجديدة ومحال وجودها.
ثانيا: الاتصال بالغرف التجارية في الخارج (غير الإنجليزية) وإرسال مندوبين إليها لتشجيعها على عمل معارض في القطر المصري تعرض فيها مصنوعات بلادها.
ثالثا: تعضيد الشبان المصريين على التمرن داخل القطر وخارجه على أعمال الوسطاء : المصدرين منهم والموردين.
نشر الدعوة
 يجب أن يبشر بهذا النظام الجديد ويذاع في الجوامع والكنائس وجميع النقابات والهيئات المنظمة وفي كل عائلة وفي كل قرية وفي جميع الجهات.
ومن أكبر العاملين في نجاح هذه المقاطعة السيدات، فاشتراکهن ومجهوداتهن أعظم أثره في هذا الوقت الخطير إنقاذا للوطن. .
ولتنفيذ المقاطعة وعدم التعاون تشكل لجنة مركزية في القاهرة ولجان مثلها في الإسكندرية وفي كل عاصمة من عواصم المديريات، وكل لجنة مركزية تشكل بمعرفتها لجانا فرعية في الأقسام والمراكز وغيرها حسب مقتضيات الأحوال وتكون مهمة هذه اللجان الاشتغال بأمور المقاطعة ودعم المعاونة وكل ما يتعلق بها من نشر الدعوة والإرشاد، وتكون كلها تابعة في المسائل الرئيسية للجنة مصر المركزية.
أيها المصريون. إن المقاطعة وعدم التعاون أمضى سلاح تملكونه اليوم، فأحكموا استعماله ولا تدعوه يسقط من أيديكم فيضرب به عدوكم وجوهكم، وذودوا به عن أنفسكم إلى النهاية يسلمكم إلى النصر، وليكن ذلك عقيدة متغلغلة في أعماق نفوسكم، ودينا يملك عليكم مشاعركم، أثبتوا به أنكم شعب متحد في غايته، منظم في خطواته ذو عزيمة صلبة ومجهودات مستمرة، وتضحيات متوالية، وحرام أن تمس أجسادكم صناعة إنجليزية بعد اليوم، وحرام أن تمتد أيديكم لمعاونة إنجليزي، وأعلموا أنه بقدر ما يكون إحكامكم في استعمال سلاحكم وإجماعكم على تنفيذ إرادتكم يكون احترامه لعظيم وطنيتكم وانحناؤه أمام قوة إيمانكم ومتين اجماعكم واعترافه بحقوقكم ورغبته في مودتكم وتقديره لسمو أغراضكم. .
أيها المصريون - اذكروا على الدوام أن الله معنا والحق في جانبنا والتضامن في صفوفنا وأن النصر آت لا ريب فيه.))
***
ولقد وقع على هذا النداء ثمانية من قادة الوفد هم: حمد الباسل، ويصا واصف، على ماهر، جورج خیاط، مرقس حنا، علوى الجزار، مراد الشریعین واصف بطرس غالى.
*****
القاهرة فى 14 مارس 2019
من يجرؤ اليوم ـ مواجهة 13 نوفمبر 1918
من يجرؤ فى مصر اليوم على الذهاب الى القصر الجمهورى لإعلان رفضه للوضع القائم وتقديم مطالب بالحقوق والحريات او بالعزة والكرامة او بالعدل والعدالة الاجتماعية، على غرار ما فعله سعد زغلول ورفاقه فى ذهابهم الى دار الحماية البريطانية فى 13 نوفمبر 1918 ؟
غالبية الناس لن تفعلها، ومن فعلها فانه يقبع الآن فى السجون والمعتقلات.
ليس هذا تقليلا من شأن رجال هذا الجيل، وانما هو حديث عن عمق الجرح والقهر الضارب فى اعماق مصر اليوم.
***
الحكاية:
• نخبة من قيادات مصر السياسية تتفق مع الحكومة والقصر ومع امراء العائلة المالكة، على مطالبة بريطانيا بالاستقلال بعد نهاية الحرب العالمية الاولى مباشرة، فتختار سعد زغلول وعبد العزيز فهمى وعلى شعراوى، لمقابلة المندوب السامى البريطانى "ريجنالد ونجت"، الذى حدد لهم موعدا 13 نوفمبر 1918 بعد يومين من اعلان الهدنة فى الحرب العالمية الاولى. وهى المقابلة التى تحول تاريخها فيما بعد الى ذكرى "كان" يتم احيائها والاحتفال بها سنويا باسم "عيد الجهاد".
• انها المقابلة الشهيرة التى كانت هى الخطوة الاولى فى سلسلة متتالية ومتصاعدة من الاحداث شكلت فى مجملها حكاية ثورة 1919. احداث توالت وتصاعدت على امتداد ست سنوات من 13/11/1918 حتى 23/11/1924 تاريخ استقالة سعد زغلول من الوزارة بعد اغتيال السردار الانجليزى "لى ستاك"، وتوظيف الانجليز والقصر ورجالهم هذا الاغتيال لاجهاض الثورة والارتداد على مكتسابتها.
• ست سنوات فى القلب منها اربعة شهور ونصف من 13/11/1918 الى 7/4/1919 تاريخ الافراج عن سعد زغلول ورفاقه من المنفى بعد تراجع الاحتلال امام حالة الغضب والضغط الشعبى، وقراره بمهادنة الثورة، كانت هى الشهور الاكثر اشتعالا وتوهجا، والتى تعادل لدينا فى ثورة يناير، الثمانية عشر يوما فى ميدان التحرير واخواته من 25 يناير الى 11 فبراير 2011.
***
• فى هذه المقابلة سنرى المواجهة وجها لوجه بين مصر الضعيفة المحتلة ممثلة فى افراد معدودين يصرون على الاستقلال بدون ان يظهر للرائى لاول وهلة ان فى جعبتهم اى اوراق للضغط والتفاوض او اى من مقومات القوة، وبين دولة الاحتلال، اقوى دولة فى العالم، الدولة المنتصرة فى الحرب العالمية الاولى ممثلة فى شخص "ونجت" المندوب السامى ممثل الاحتلال فى مصر.
• شخصيات وطنية قليلة العدد والعدة قررت مواجهة الاحتلال بكل سلطته وسطوته وقوته الباطشة، غير مبالية بالمخاطر أو انتقالها من شرائح المجتمع العليا التى تحظى بهامش من الامتيازات والحريات والقدرة على المشاركة السياسية بموجب شرعية ممنوحة لهم من القصر ومن الانجليز، الى قائمة الاحتلال السوداء الذى بدأ منذ هذه اللحظة فى حظرهم وحصارهم والتضييق عليهم ثم اعتقالهم ونفيهم، ليضعون اسماءهم بجوار اسم محمد فريد زعيم الحزب الوطنى الذى كان الانجليز يكرهونه كرها عميقا ويعتبرونه من الغلاة والمتطرفين، والذى نقل كفاحه للاحتلال الى الخارج منذ عام 1912، تحررا من قبضة الاحتلال وسجونه.
***
• نخبة استطاعت ان تقرأ اللحظة التاريخية، وتدرك ما يكمن فيها من فرصة استثنائية لم تتوفر من قبل وقد لا تتوفر مرة أخرى فى القريب العاجل، للمطالبة بالاستقلال وبامكانية تحقيقه، فلم تتردد ولم تعبأ بالعواقب واخذت المبادرة فاجتمعت بالمندوب السامى البريطانى وطالبته بالاستقلال وبالغاء الاحكام العرفية وبرفع الرقابة على الصحف وبالسفر الى انجلترا للتفاوض مع الحكومة هناك، ثم بعد ذلك الى باريس للمشاركة فى مؤتمر الصلح وعرض المطالب المصرية.
• ولم تتراجع امام رفض الخواجة الانجليزى ولم تردعها وقاحته، بل قارعته الحجة بالحجة، ودحضت كل افتراءاته وادعاءاته، الى ان عجز عن الرد والايجاب على مطالبهم العادلة ومنطقهم المتماسك، فانهى الاجتماع.
***
• بدأوا بمطالب متواضعة وبخطاب تغلب عليه لغة المجاملة والدبلوماسية والتحسس والتحسب، فلما وجدوا جموع الشعب تؤيدهم وتثق فيهم وتعتمد عليهم وتقف فى ظهورهم وتوكلهم لتمثيل الامة وقيادتها، قاموا بتطوير خطابهم وتصعيد مطالبهم، وأصبحوا اكثر جذرية وصلابة من الجميع.
***
• نخبة لم تطلب مقابلة ممثل الاحتلال لابراء ذمتها؛ فلم يكن فى نيتها ان تلملم اوراقها وتنسحب امام اول عقبة، ولم تخشَ التهديدات أو تلتزم بالمحظورات والخطوط الحمراء، وانما اخذت مبادرتها وهى تنتوى ان تكمل المعركة الى آخر مدى، فتحدت الرفض والاستعلاء البريطانى وشرعت فى جمع توكيلات من كل اطياف الامة واخذت فى حشد الناس وتحريضهم وتعبئتهم وتنظيمهم، ونجحت فى ادارة الصراع والمواجهة.
***
• وحين جاء الرد بالرفض وقام المعتمد البريطانى بكيل السباب والاتهامات للمصريين؛ ((فوصمهم بأنهم متعجلون لا يقدرون العواقب، ومتطرفون كالأطفال ليس لديهم عقل ولا روية ولا بصيرة، لا يمكنهم حكم أنفسهم، اميون لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، عبيد للأتراك فلماذا لا يكونوا عبيدا لبريطانيا.)) انقلبت مصر فوق رأسه هو والاحتلال، مما اجبر بريطانيا على استدعائه بعد هذه المقابلة بشهرين تقريبا واستبداله بالجنرال اللنبى بعد ذلك بقليل.
***
• واخيرا من المهم فى تصورى ان يحتفظ كل مصرى بنص هذه المقابلة التاريخية التى كانت هى لحظة البداية لما تلى ذلك من وقائع واحداث كبرى كان لها بالغ الاثر على الحياة فى مصر لعقود طويلة تالية. وفيما يلى ما دار من حديث كما ورد فى كتاب الاستاذ عبد الرحمن الرافعى فى كتابه "ثورة 1919 ـ تاريخ مصر القومى من سنة 1914 الى سنة 1921"
***
حدیث ۱۳ نوفمبر سنة ۱۹۱۸
بدأ السير ونجت الحديث بقوله: إن الصلح اقترب موعده، وإن العالم يفيق بعد غمرات الحرب التي شغلته زمنا طويلا، وإن مصر سينالها خير كثير، وإن الله مع الصابرين، وان المصريين هم أقل الأمم تألما من أضرار الحرب، وإنهم مع ذلك استفادوا منها أموالا طائلة، وإن عليهم أن يشكروا دولة بريطانيا العظمى التي كانت سببا في قلة ضررهم وكثرة فائدتهم
فأجابه سعد باشا: ما تكون إنجلترا فعلته خيرا لمصر فإن المصريين بالبداهة يذكرونه لها مع الشكر، وخرج من ذلك إلى القول بأن الحرب كانت کحريق انطفأ ولم يبق إلا تنظيف آثاره وأنه يظن أن لا محل لدوام الأحكام العرفية ولا لمراقبة الجرائد والمطبوعات، وأن الناس ينتظرون بفروغ صبر زوال هذه المراقبة كى ينفسوا عن أنفسهم ويخففوا عن صدورهم الضيق الذى تولاهم اكثر من اربع سنين.
فقال السير ونجت: حقا أنه میال لإزالة المراقبة المذكورة، وأنه تخابر فعلا مع القائد العام للجيوش البريطانية في هذا الصدد، ولما كانت هذه المسألة عسكرية فإنه بعد تمام المخابرة والاتفاق مع القائد سيكتب للحكومة البريطانية، ويأمل الوصول إلى ما يرضي، ثم استمر قائلا: يجب على المصريين أن يطمئنوا ويصبروا ويعلموا أنه منذ فرغت إنجلترا من مؤتمر الصلح فإنها تلتفت لمصر وما يلزمها ولن يكون الأمر إلا خيرا.
فقال سعد باشا: إن الهدنة قد عقدت، والمصريون لهم الحق أن يكونوا قلقين على مستقبلهم، ولا مانع يمنع الآن من أن يعرفوا ما هو الخير الذي تريده إنجلترا لهم.
فقال وينجت: يجب ألا تتعجلوا وأن تكونوا متبصرين في سلوككم، فإن المصريين في الحقيقة لا ينظرون للعواقب البعيدة.
فقال سعد باشا: إن هذه العبارة مبهمة المعني ولا أفهم المراد منها. فقال: أريد أن أقول إن المصريين ليس لهم رأي عام بعيد النظر.
فقال سعد باشا: لا أستطيع الموافقة على ذلك فإني إن وافقت أنكرت صفتي، فإني منتخب في الجمعية التشريعية عن قسمين من أقسام القاهرة، وكان انتخابی بمحض إرادة الرأي العام مع معارضة الحكومة واللورد كتشنر في انتخابي، وكذلك كان الأمر مع زميلي على شعراوي باشا وعبد العزيز بك فهمی.
فقال السير ونجت: إنه قبل الحرب كثيرا ما حصل من الحركات والكتابات من محمد فريد وأمثاله من الحزب الوطني، وكان ذلك بلا تعقل ولا روية، فأضرت مصر ولم تنفعها فما هي أغراض المصريين؟
فقال على شعراوي باشا: إننا نريد أن نكون أصدقاء للإنجليز صداقة الحر للحر لا العبد للحر.
فقال السير ونجت: إذا أنتم تطلبون الاستقلال؟
فقال سعد باشا: ونحن له أهل، وماذا ينقصنا ليكون لنا الاستقلال كباقی الأمم المستقلة؟
فقال السير ونجت: ولكن الطفل إذا أعطى من الغذاء أزيد مما يلزم تخم (من التخمة).
فقال عبد العزيز بك فهمي: نحن نطلب الاستقلال التام وقد ذكرتم جنابكم إن الحزب الوطني أتي من الحركات والكتابات بما أضر ولم يفد، فأقول لجنابكم إن الحزب الوطني كان يطلب الاستقلال، وكل البلد كانت تطلب الاستقلال، وغاية الأمر إن طريقة الطلب التي سار عليها الحزب الوطني ربما كان فيها ما يؤخذ علينا، وذلك راجع إلى طبيعة الشبان في كل جهة فلأجل إزالة الاعتراض الوارد على طريقة الحزب الوطني في تنفيذ مبدئه الأساسي الذي هو مبدأ كل الأمم، وهو الاستقلال التام، قام جماعة من الشيوخ الذين لا يظن فيهم التطرف في الإجراءات وأسسوا حزب الأمة وأنشأوا صحيفة «الجريدة »، وكان مقصدهم هم أيضا الاستقلال التام، وطريقتهم أخف في الحدة من طريقة الحزب الوطني، وذلك معروف عند الجميع، والغرض منه خدمة نفس المبدأ المشترك بطريقة تمنع الاعتراض، ونحن في طلبنا الاستقلال التام لسنا مبالغين فيه فإن أمتنا أرقى من البلغار والصرب والجبل الأسود وغيرها من نالوا الاستقلال قديما وحديثا.
فقال السير ونجت: ولكن نسبة الأميين في مصر كبيرة لا كما في البلاد التي ذكرتها إلا الجبل الأسود والألبان على ما أظن.
فقال عبد العزيز بك فهمي: إن هذه النسبة مسألة ثانوية فيما يتعلق باستقلال الأمم، فإن لمصر تاريخا قديما باهرا وسوابق في الاستقلال التام وهی قائمة بذاتها وسكانها عنصر واحد ذو لغة واحدة وهم كثيرو العدد وبلادهم غنية، وبالجملة فشروط الاستقلال التام متوفرة في مصر، ومن جهة نسبة الأميين للمتعلمين، فهذه مسألة لا دخل لها في الاستقلال کا قدمت، لأن الذين يقودون الأمم في كل البلاد أفراد قلائل، فإني أعرف أن لإنجلترا وهي بلاد العظمة والحرية عند أهلها ثقة كبرى بحكومتها فأرباب الحكومة وهم أفراد قلائل هم الذين يقودونها وهي تتبعهم بلا مناقشة في كثير من الأحوال لشدة ثقتها بهم وتسليمها لهم، ولذلك فمجلس نوابها ليس كل أفرادهم العاملين، وإنما العامل منهم فئة قليلة، فبلاد مصر يكفي أن يكون فيها ألف متعلم، ليقوموا بإدارتها كما ينبغي وهي مستقلة استقلالا تاما - ونحن عندنا كثير من المتعلمين، بدليل أن أولى الحل والعقد نسمع منهم في كثير من الأحيان أن التعليم زاد في البلد حتى صار فيها طائفة من المتعلمين العاطلين، وأما من جهة تشبيهنا بالطفل يتخم إذا غذي بأزيد من اللازم فاسمحوا لي أن أقول إن حالنا ليست مما ينطبق عليها هذا الشبه، بل الواقع أننا كالمريض مها أتيت له من نطس الأطباء (الأطباء الحذاق) استحال عليهم أن يعرفوا من أنفسهم موقع دائه، بل هو نفسه الذي يحس بألم الداء ويرشد إليه، فالمصرى وحده هو الذي يشعر بما ينقصه من أنواع المعارف وما يفيده في الأشغال العمومية وفي القضاء، وغير ذلك، فالاستقلال التام ضروری لرقينا.
فقال السير ونجت: أتظنون أن بلاد العرب وقد أخذت استقلالها ستعرف كيف تسير بنفسها؟
فقال عبد العزيز بك: إن معرفة ذلك راجع إلى المستقبل، ومع ذلك فإذا كانت بلاد العرب وهي دون مصر بمراحل أخذت استقلالها فمصر أجدر بذلك.
فقال السير ونجت: قد كانت مصر عبدا لتركيا، أفتكون أحط منها لو كانت عبدا لإنجلترا؟ (منتهى والوقاحة)
فقال شعراوي باشا: قد أكون عبدا لرجل من الجعليين وقد أكون عبدا للسير ونجت الذي لا مناسبة بينه وبين الرجل الجعلي، ومع ذلك لا تسرني كلتا الحالتين، لأن العبودية لا أرضاها ولا تحب نفسي أن تبقى تحت ذلها ونحن كما قدمت نريد أن نكون أصدقاء لإنجلترا صداقة الأحرار لا صداقة العبيد.
فقال السير ونجت: ولكن مرکز مصر حربيا وجغرافيا يجعلها عرضة الاستيلاء كل دولة قوية عليها وقد تكون غير إنجلترا.
فقال سعد باشا: متي ساعدتنا إنجلترا على استقلالنا التام، فإننا نعطيها ضمانة معقولة على عدم تمكين أي دولة من استقلالنا والمساس بمصلحة إنجلترا فنعطيها ضمانة في طريقها للهند وهي قناة السويس، بأن نجعل لها دون غيرها حق احتلالها عند الاقتضاء، بل نحالفها على غيرها ونقدم لها عند الاقتضاء ما تستلزمه المحالفة من الجنود.
ثم قال شعراوي باشا: يبقى أمر آخر عند هذا الحد وهو حقوق أرباب الديون من الأجانب، فيمكن بقاء المستشار الإنجليزي بحيث تكون سلطته هي سلطة صندوق الدين العمومی.
فقال سعد باشا: نحن نعترف الآن أن إنجلترا أقوى دولة في العالم وأوسعها حرية وإنا نعترف لها بالأعمال الجليلة التي باشرتها في مصر، فنطلب باسم هذه المبادئ أن تجعلنا أصدقاءها وحلفاءها صداقة الحر للحر، وإننا نتكلم بهذه المطالب هنا معك بصفتك مشخصا لهذه الدولة العظيمة، وعند الاقتضاء نسافر للتكلم في شأنها مع ولاة الأمور في إنجلترا، ولا نلتجئ هنا لسواك ولا في الخارج لغير رجال الدولة الإنجليزية، ونطلب منك بصفتی عارفا لمصر مطلعا على أحوالها أن تساعدنا للحصول على هذه المطالب.
فقال السير ونجت: قد سمعت أقوالكم وإني أعتبر محادثتنا محادثة غير رسمية، بل بصفة حبية فإني لا أعرف شيئا عن أفكار الحكومة البريطانية في هذا الصدد وعلى كل فإنى شاكر زيارتكم وأحب لكم الخير.
فشكره الثلاثة على حسن مقابلته، وانصرفوا.
*****
القاهرة فى 11 مارس 2019
ثورة 1919 بعيون ثورة يناير 2011
لا أتصور ان هناك من يمكن ان يفكر او يشارك اليوم فى احياء الذكرى المئوية لثورة 1919، بدون ان يقارن بوعي أو بدون وعى بينها وبين ثورة يناير التى لم تجف دماء شهدائها بعد، خاصة وان كلتاهما قد تعرضتا للهزيمة والاجهاض على ايدى قوى الثورة المضادة، لعلنا نتمكن من استخلاص سنن ونواميس عامة للنجاح والفشل فى الثورات الشعبية المصرية.
وفيما يلى بعض العناصر التى قد يكون من المفيد تسجيل انطباعات اولية أو لمحات سريعة عنها فيما يخص اهم الفروق بين الثورتين:
1) أسباب الثورة.
2) أهداف الثورة.
3) الوضع الدولى وتأثيره.
4) شرارة الثورة.
5) القيادة والتنظيم.
6) زعيم الثورة.
7) الوحدة والانقسام.
8) المشاركة الشعبية.
9) المجتمع المدنى.
10) الشهداء والمحاكمات.
11) انكار الثورة.
12) نتائج الثورة وآثارها.
***
1) أسباب الثورة
ثار الناس فى 1919 ضد الاحتلال والقصر والاستبداد والنهب والاستغلال والفقر والافقار والفساد والافساد، وفى 2011 كان فى مصر ذات الظروف مع اختلاف الدرجة، فيما عدا الاحتلال الذى حلت محله التبعية للولايات المتحدة الامريكية والخوف من اسرائيل.
***
2) أهداف الثورة
فى 1919 كان الهدف واضحا وصحيحا ومجمعا عليه وهو الاستقلال.
وفى 2011 تعددت الاهداف واختلفت حسب كل فصيل من فصائل الثورة. فلم يتفق الناس الا على رحيل مبارك، اما ما بعد ذلك فكان محل اختلاف شديد. وحتى شعارات الثورة حول العيش والحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، فلم تكن اكثر من كلمات عامة مرسلة بدون امتلاك اى تصور واضح حول سبل وخطط وأدوات وآليات تنفيذها.
ورغم ان نظام مبارك كان كما تقدم نظاما تابعا وطبقيا ومستغلا ومفقرا ومستبدا وفاسدا، الا ان الثورة قامت فى مواجهة جزئية واحدة من سوءاته وهى قضايا الحريات والاصلاحات السياسية والدستورية، وقررت باجماع الاراء تجنب الاقتراب من اصل الخلل المتمثل فى التبعية للامريكان وكامب ديفيد واقتصاد صندوق النقد وسيطرة رؤوس الاموال.
***
3) الوضع الدولى وتأثيره
فى 1919 كان للوضع الدولى تاثيرا كبيرا على مجرى الاحداث وتطوراتها، بدءا باعلان الهدنة ومؤتمر الصلح ومبادئ الرئيس الامريكى ويلسون ثم تراجعه عنها واعترافه ومؤتمر الصلح بالحماية البريطانية على مصر.
وفى 2011 كان للوضع الدولى ايضا تاثيرا كبيرا، بدءا بالحالة التى سادت فى المنطقة بعد الغزو الامريكى للعراق والادعاءات الامريكية الزائفة بالرغبة فى دقرطة الدول العربية، وما اتاحه ذلك من توسيع للهامش الديمقراطى الذى منحه مبارك مكرها للمعارضة المصرية، ثم زيارة اوباما وخطابه فى جامعة القاهرة، ثم انفجار الثورة فى تونس وهروب بن على.
 وايضا كان للخارج الدولى والاقليمى الدور الاكبر فى مجريات الأمور حيث تم اجهاض الثورة والقضاء عليها تحت قيادة وبدعم من حلف امريكي اسرائيلي سعودي خليجي.
الى هذه الدرجة كان ولا يزال للوضع الدولى هذا التاثير الفارق على مجريات ما يدور فى مصر.
***
4) شرارة الثورة
اما عن شرارة الثورة التى كان يبحث عنها سعد زغلول وينتظرها حين قال "لابد من قارعة"، قاصدا انه لابد ان يحدث حدثا كبيرا يحرك الموقف ويقلب موازين القوى ويكره الانجليز على الاستجابة لمطالب المصريين فى الاستقلال، فكان اعتقال سعد زغلول ورفاقه يوم 8/3/1919 هو هذه القارعة التى كان ينتظرها "سعد" والتى ادت بالفعل الى انفجار الثورة فى اليوم التالى مباشرة فى 9/3/1919.
اما فى ثورة يناير فلقد كانت هناك سلسلة من "القوارع" ان جاز التعبير، العامل الرئيسى بطبيعة الحال كان هو تأبيد حكم عائلة مبارك ومشروع التوريث، ثم جاءت حادثة خالد سعيد لتزيد المشهد اشتعالا، وكان لتزوير انتخابات 2010 بهذه الطريقة الفجة والصادمة، الضربة ما قبل القاضية لمبارك، والتى اكملها انفجار الثورة فى تونس ثم دعوة الشباب الى مظاهرات 25 يناير.
***
5) القيادة والتنظيم
فى 1919 كان هناك قيادة موحدة للثورة وتنظيما واحدا لها؛ علنيا وسريا.
اما ثورة 2011 فلقد افتقدت الى وحدة القيادة وتفرقت الى عشرات الاحزاب والتنظيمات والجماعات والائتلافات بالاضافة الى مئات الشخصيات العامة التى كان لكل منها مشروعه واهدافه الخاصة.
***
6) زعيم الثورة
كان سعد زغلول هو زعيم ثورة 1919 المجمع عليه بلا منازع. اما فى 2011 فلم ينجح احد فى ان ينال هذه المكانة وهذه الثقة وهذا الاجماع. حتى محاولة جمع التوقيعات لمحمد البرادعى ما لبثت ان تعثرت. وحين رحل مبارك ودخلنا مرحلة الاستحقاقات الانتخابية، زاد الانقسام حدة كما تقدم، وانشقت القوى السياسية الى نصفين او جناحين؛ مدنيين واسلاميين. وكان احد اسباب ما حدث لاحقا فى 30 يونيو 2013 هو عدم قبول التيار المدنى ان يكون هناك رئيسا اسلاميا. واتصور انه لو كان قد نجح رئيس مدني، لنال من التيار الاسلامى ذات الرفض والمواجهة التى لقيها محمد مرسى من جبهة الانقاذ.
اننا فى حقيقة الامر امام ظاهرة "الزعيم المستحيل"؛ فيستحيل ان تتفق قوى الثورة او قوى المعارضة على زعيما واحدا فى المنظور القريب. وهذه الحالة لا تقتصر على مصر، بل تمتد الى عديد من الاقطار العربية الاخرى كتونس ولبنان وغيرهما. وهى ظاهرة وثيقة الصلة بحالة الانقسام الفكرى والايديولوجى التى ضربت الامة منذ عقود طويلة ماضية كما تقدم.
وهى الاشكالية التى يكمن مخرجها الوحيد فى التخلى والابتعاد عن ظاهرة الزعيم الفرد، واستبدالها بالقيادة الجماعية والعمل الجبهوى والمؤسسى.
***
7) الوحدة والانقسام
فى 1919 توحد الجميع على اهداف الثورة، ولم يجرؤ أحد على الخروج عن حالة الاجماع فى مرحلتها الاولى على الأقل، وحتى حين حدث الانقسام فى مرحلة التفاوض فانه تم فى صفوف شريحة صغيرة من نخبة ساسة ووزراء السلطة، بتحريض من الانجليز ومن القصر، وبقى جسد الشعب المصرى موحدا يستعصى على الشق.
اما فى 2011 فلم تتوحد قوى الثورة سوى فى الـ 18 يوم الاولى، ثم بدأ الانقسام وتفجر مع استفتاء 19 مارس. وفى الانتخابات البرلمانية انقسم فرقاء الثورة الى عشرات القوائم بدلا من المشاركة بقائمة ثورية واحدة، وكانت الطامة الكبرى فى الانتخابات الرئاسية حيث نافست قوى الثورة بعضها البعض بعديد من المرشحين حتى كاد مرشح الدولة ان يفوز بها. وكان هذا كاشفا عن الخلل الرئيسى فى جسد الثورة الذي سيتم اختراقها والقضاء عليها فيما بعد من خلاله. قارنوا ذلك بانتخابات 1924 التى دخلتها كل الاحزاب المصرية بائتلاف وطنى جامع وبقائمة انتخابية موحدة شملت كل الاحزاب.
لقد وصل الانقسام بنا اليوم الى حالة من الكراهية والتخوين والتكفير. وكشفت لنا السنوات الماضية كيف ان بيننا انقساما عميقا وقديما تعود جذوره الى عشرات العقود الماضية، وهو عرضة للاستفحال والتدمير ما لم يتم احتوائه والتصدى لاسبابه.
***
8) المشاركة الشعبية
فى 1919 اشتبكت الجماهير وشاركت فى احداث الثورة ومعاركها منذ الايام الاولى واستمرت فى حالة استنفار وتعبئة على امتداد الست سنوات من 1918 الى 1924، وقدمت ملاحم نضالية فى التظاهر والتضامن والاضراب والعصيان والمقاطعة. والرائع انه فعلت كل ذلك بدون فيسبوك ولا اى وسائل للتواصل الاجتماعى المتوفرة فى عصرنا اليوم.
اما فى 2011 فلم تشارك الجماهير سوى فى الـ 18 يوما الاولى فى اعتصام ميدان التحرير واخواته، بل ان عديد منها لم يتجرأ على النزول الى التحرير الا بعد أن اطمأن الى ان الثوار قد انتصروا ونجحوا فى تأمين اعتصاماتهم ضد محاولات قوات الامن وبلطجيتهم و"جمالهم" اقتحام الاعتصام وفضه. وكانت مشاركة كثير من اطياف الشعب فى الايام الاخيرة فى ميدان التحرير، تتم من باب الفضول او الزيارة أو السياحة للميدان "للفرجة" على هذ الحدث الاستثنائى.
وبعد رحيل مبارك وانفضاض جموع المعتصمين وعودتهم الى منازلهم، توقفت تقريبا حركة تشكيل اللجان الشعبية، وتم استبعاد الجماهير تماما من المشاركة فى الثورة الا فى الاستحقاقات التصويتية والانتخابية. وانفردت النخب بالمشهد وهرولت غالبيتها من اسلاميين ومدنيين للتسابق على جمع الغنائم البرلمانية والسياسية والاعلامية، وعادت جموع الشعب المصرى مرة اخرى لتراقب عن بعد من مقاعد المتفرجين، وتنتقل بين القنوات الفضائية لتبحث عن اى مكاسب اقتصادية او معيشية من وراء الثورة فلا تجد. ولذلك حين تآمرت قوى الثورة المضادة على ثورة يناير وانقضت عليها لتجهضها، لم يجد الثوار من يدافع عنهم من بين غالبية الناس الذين نجحت روايات النظام الزائفة عن "الثورة والفوضى" فى اختراق قناعاتهم.
***
9) المجتمع المدنى
كان المجتمع المدنى مجتمعا قويا ابان ثورة 1919، وربما تكون الثورة الوحيدة فى كل ثورات مصر التى لم يشارك فيها الجيش المصرى على حد قول الاستاذ طارق البشرى بسبب وجوده حينذاك فى السودان. وهو على العكس تماما مما حدث فى ثورة عرابى 1881 وثورة 1952 على سبيل المثال.
اما فى 2011 فلقد مهد لها مجتمعا مدنيا قويا نمى وقويت شوكته فى السنوات السبع قبل قيام الثورة (2004-2011)، ولكنه لم يكن يملك من القوة ما يكفى لاستلام السلطة بعد ان نجح فى تفجيرها، فسلمها الى المجلس العسكرى، الذى سرعان ما قرر اعادة انتاج النظام القديم والقضاء على الثورة وعلى الحياة السياسية والمجتمع المدنى.
ويمكن التعرف على حقيقة الموقف الرسمى الحالى من القوى السياسية والمدنية من خلال مراجعة ما قاله عبد الفتاح السيسى عن المدنيين فى الحديث الذى ادلى به الى ياسر رزق عام 2013، حين قال ما معناه: ان المدنيين ايام الثورة، كادوا ان يقضوا على الدولة بجهلهم وقلة خبرتهم على عكس القوات المسلحة التى تدرس قراراتها جيدا ولذلك ستظل فى المشهد 15 عاما قادمة على الاقل، وانه خلال هذه المدة على المدنيين ان يتدربوا ويتعلموا حتى يكونوا قادرين على المشاركة فى حكم البلاد فى يوم من الايام.
***
10) الشهداء والمحاكمات
فى 1919 قدر الاستاذ عبد الرحمن الرافعى اعداد الشهداء بحوالى 3000 شهيد غير المصابين، اما فى 2011 فلا يزال "العداد شغال."
وفى 1919 انعقدت محاكمات الثورة منذ الايام الاولى وصدرت فيها احكام شديدة القسوة كالاعدام والسجن المؤبد والمشدد التى تم تنفيذ بعضها قبل ان يتولى سعد زغلول الوزارة ويقوم بالافراج والعفو عن كثير من المعتقلين.
اما 2011 فلا تزال محاكمة كل من تجرأ على المشاركة فى ثورة يناير دائرة، لا فرق فى ذلك بين اسلاميين ومدنيين.
***
11) انكار الثورة
ومن المفارقات الملفتة كيف ان الانجليز بغالبية ساستهم وكتابهم ومؤرخيهم رفضوا على الدوام الاعتراف بالثورة المصرية وانبروا فى الهجوم عليها وتشويهها ووصفها بشتى الاوصاف الا كونها ثورة؛ فهى تمردا او مؤامرة او تخريب او خروج على النظام والقانون ..الخ.
وكم هو قريب الشبه بما يحدث اليوم من جماعة الثورة المضادة حين يصفون ثورة يناير بالفوضى وبالكارثة التى كادت ان تقضى على الدولة المصرية.
***
12) نتائج الثورة وآثارها
أما عن النتائج، فلقد تعرضت كلتا الثورتين للهزيمة على ايدى قوى الثورة المضادة من داخل النظام القديم وشبكات المصالح المرتبطة به، وما تلى ذلك من عواقب معروفة ومحفوظة تطال اى ثورة مهزومة، فلقد فتحت السجون وعقدت المحاكمات وصدرت احكام اعدام بالجملة وبالسجن المؤبد والمشدد وتم مد الاحكام العرفية وحظر التظاهر ومنع الاجتماع وحل البرلمان والرقابة على الصحف وتكميم للافواه ...الخ.
أما عن الآثار، فان ثورة 1919 رغم هزيمتها وعجزها عن تحقيق اهدافها، قد استمرت آثارها وامتدت الى عقود طويلة تالية، وصلت الى ثورة 1952 وما بعدها.
فهل ستستمر آثار ثورة يناير؟ وهل بالامكان استعادتها واسترداد مكتسباتها فى وقت قريب؟ أم ان القضاء عليها كان قضاء مبرما؟
***
ان كل الثورات قد تنهزم وقد تفشل، ولكن ذلك لا يمثل على اى وجه نهاية العالم، فالجيل الذى عاصر ثورة 1919 وشهد بأم عينيه اغتيالها واجهاض مكتسباتها وبقاء الانجليز فى مصر، لم يكن يخطر بباله حينذاك بانهم سيغادرونها مهزومين ومجبرين عام 956 وهكذا ...
فلا محل لليأس.
*****
القاهرة فى 5 مارس 2019
محمد سيف الدولة
Seif_eldawla@hotmail.com