وسام على صدر أحمد الشرع
04.05.2025
ياسر أبو هلالة
وسام على صدر أحمد الشرع
ياسر أبو هلالة
الجزيرة
السبت 3/5/2025
عنوان صحيفة النهار اللبنانية، وهي خصم تاريخي للوجود السوري في لبنان، لرحيل الطاغية حافظ الأسد "مات ولم يوقّع". هذه سردية الأسد الأب، وتنطبق عملياً على الابن الساقط الهارب، إذ "رحل ولم يوقّع"، رغم أنه ابتعد، في آخر حكمه، من محور إيران واقترب من محور الإمارات، وتسرّب أنه أعطى وعوداً بالانضمام إلى الاتفاقات الإبراهيمية، لكنّه لم يوقّع، ولم ينضمّ لتلك الاتفاقات، تماماً كما لم ينضمّ إلى محور المقاومة بعد "7 أكتوبر"، رغم ما قيل عن ضغوط إيرانية عليه.
ارتبطت شرعية الحاكم العربي بالصراع مع العدو الصهيوني، ولذلك كان آخر ما قاله صدّام حسين، وهو يواجه حبل المشنقة، "عاشت فلسطين". من حسن حظّ أول رئيس لسورية الثورة، أحمد الشرع، أن عهده بدأ بوابل نيرانٍ إسرائيلية لم يتوقّف سرّاً وعلانية، وبلغ ذروته في قصف محيط قصر الشعب، وبحسب الناطق باسم جيش العدو "قبل قليل استهدفت طائرات حربية منطقة قصر أحمد حسين الشرع في دمشق. لم يُعرف وقوع ضحايا"، وعلّقت القناة 13 العبرية: "وهذه، بالطبع، إشارة تحذيرية بارزة أخرى من إسرائيل إلى الرئيس السوري بشأن التطوّرات في المناطق الدرزية"، في أول عدوان من نوعه منذ بداية الصراع العربي الإسرائيلي، وبمعزلٍ عن ردّة الفعل العربي والإسلامي والدولي على هذا العدوان، فهو جائزة تستحقّها سورية الجديدة، ووسامُ على صدر الشرع. فكما قيل: قل لي من عدوّك أقل لك من أنت. ... هذا العدوان كلّه في وقتٍ لم يدّخر الشرع رسمياً وُسعاً في طمأنة العدو، وامتصاص العدوان، ومقاومته بـ"سلاح الصمت" وإظهار "حسن النيات" سرّاً وعلانيةً، وليس آخرها خطاب وزير الخارجية اسعد الشيباني في الأمم المتحدة.
يخفي العدوان الظاهر على سورية بذريعة حماية الدروز مرّة، والكرد مرّة أخرى، والعلويين ثالثةً، عدواناً استخبارياً خفياً
يخفي العدوان الظاهر على سورية بذريعة حماية الدروز مرّة، والكرد مرّة أخرى، والعلويين ثالثةً، عدواناً استخبارياً خفياً، يتآمر واقعاً وفي منصّات التواصل افتراضاً (مثل التسريب الذي تسبّب بالفتنة أخيراً مع الدروز). فبحسب مسؤول سوري رفيع، اعتقلت الاستخبارات ضبّاطاً يتبعون أحمد العودة بعد اجتماع مع الإسرائليين في الحدود، وكانت هذه القشّة التي قصمت ظهر الفيلق الثامن. وهذا الفيلق عرب سنّة من حوران (بمنطق الطائفة)، لكن أهل حوران قدّموا الوطن والمبدأ على المنطقة والعشيرة، ونبذوا العودة وجنده فتبخّروا كأن لم يكونوا فيها. وتلك كانت ضربة قاصمة للمشروع التقسيمي الصهيوني، فالدروز معزولون في السويداء، وحتى يتواصلون مع فلسطين المحتلة يحتاجون سهل حوران. والضربة الثانية كانت الهزيمة العسكرية التي لقيها الخطّ الصهيوني الدرزي في صحنايا وجرمانا، وهو ما قوّى الخطّ الوطني الغالب، ومهّد لاتفاق السويداء.
قبل العدوان الإسرائيلي، مرّ أنصار الثورة السورية باخبتار قاسٍ، عندما اكتسبت سردية الشبّيحة زخماً مع تسريبات عضو الكونغرس، كةري ميلز، عن لقائه مع الرئيس السوري أحمد الشرع، التي وعد فيها بالتطبيع مع إسرائيل بوجود الظروف المناسبة، والانضمام للاتفاقات الإبراهيمية، فالثورة السورية (بحسب الشبّيحة) لم تكن أكثر من مؤامرةٍ صهيونيةٍ ضدّ نظام المقاومة والممانعة، وأسرة الأسد أباً وابناً، كسردية الإسلاميين عن السلطان عبد الحميد؛ تخّلى عن عرشه ولم يتنازل للصهاينة. والأسوأ من ذلك أن الأسد الأب حصل على وديعة رابين التي تعيد الجولان وتوصل سورية إلى مياه طبرية، ورفض التوقيع. واليوم، يقوم عرض التطبيع الإبراهيمي على أساس التطبيع قبل التوقيع. وقد شكلّ ما سرّبه النائب الأميركي صدمةً لأنصار الثورة السورية، وكاتب هذه السطور واحد منهم، ورأى المتشائمون فيها نهايةً مأساوية للثورة التي انتصرت وهُزمت قيمها، في مقابل متفائلين يأملون أن يكون الخطأ في النقل أو التفسير أو التقدير.
يعتقد المتشائمون أن الرئيس السوري الشرع مثل من سبقه من قادة النضال الذين أرهقتهم الطريق، وتحوّلوا مشاريع سلطة، والسلطة هي الثابت الوحيد وما دونها تفاصيل ومتغيّرات، فقادة ثوريون، مثل معمّر القذّافي وعمر البشير، ومحمد دحلان وياسر عبد ربه (فلسطينياً)، اعتقدوا أن البوابة الإسرائيلية هي المنفذ الوحيد من الحصار الأميركي، وبشّار الأسد نفسه لو بقي معه متّسعٌ لولج تلك البوابة.
من حسن حظّ أول رئيس لسورية الثورة، أحمد الشرع، أن عهده بدأ بوابل نيرانٍ إسرائيلية لم يتوقّف سرّاً وعلانية، وبلغ ذروته في قصف محيط قصر الشعب
انتهى كابوس التطبيع قبل توقيع جوهر الاتفاقات الإبراهيمية، بقصف صحنايا، واستشهاد عناصر أمن وقصف محيط قصر الشعب. وقبلها بذلت شرارة الثورة درعا فلذات أكبادها في التصدّي للعدوان بقليل السلاح وعظيم العزيمة والإقدام، عندما تصدّى بضع فتيةٍ من كويا قضوا جميعاً في رسالة بالدم "لن تمرّوا"، وخرجت سورية كلّها في موكب وداعهم، في إجماعٍ يحدّد من العدو. وهذا ليس خطّ الدفاع الوحيد عن سورية، العدو، إيرانياً كان أم صهيونياً، ينفذ من خلال شقوق الطائفية، ولا يكون ردم هذه الشقوق بنجاح أمني وعسكري فقط، بل أيضاً ببناء سور المواطنة العظيم، فلا فضل لسوريٍّ على غيره إلا بما قدّم للثورة، من قبل، وللدولة من بعد.
أمام هيئة تحرير الشام بخاصّة، والحكم الجديد بعامّة، فرصة تاريخية، ليس لتخرج من العقوبات الأميركية، بل لتدخل التاريخ جامعةً وطناً ممزّقاً وبانيةً دولةً مدمّرةً. لقد تمكّنت الهيئة من تجاوز كثيرٍ من أدبياتها الإقصائية، وتصرّفت باعتبارها قوة جامعة، لكنّ ذلك كلّه تعرّض لاهتزازٍ في أحداث الساحل السوري في مارس/ آذار الماضي، وعلت وقتها أصواتٌ متطرّفة تجاوزتها الهيئة، مثل الزبير الغزّي الذي كان معتقلاً عندها أصلاً، وهو صاحب مقولة "لا تستفتِ أحداً في قتل العلوي". ليست دولة المواطنة هي طوق الدفاع الأخير، لا بدّ من توسيع دائرة الحلفاء إقليمياً وعربياً ودولياً، وهي تعين في التصدي لهذا العدو الذي يعيش أعلى درجات الغطرسة، تستطيع سورية أن تتحرّك بسقف الجامعة العربية، لا سلام من دون سلام شامل وحلّ الدولتَين، وهذا يحرج العدو ولا يقبله، والسعودية اليوم تقود حراكاً دولياً لإحياء مبادرة السلام العربية تحت عنوان "حلّ الدولتَين"، ولدى قطر دبلوماسية فاعلة مع العدو، تجلّت في حرب غزّة وما سبقها. ومع إن تركيا تشكّل نقطةِ الاستفزاز الرئيسة لإسرائيل، إلا إن قوتها الوازنة إقليميا، وفي أوروبا وحلف شمال الأطلسي (ناتو)، وعلاقة ترامب المميّزة بأردوغان، تجعلها حاجز صدٍّ آخر دفاعاً عن سورية. وللأردن خبرة واسعة في التعامل مع العدو الذي وقّع معه اتفاقية سلام منذ 1994، وتشكّل سورية المستقرّة عمقاً له ومتنفسّاً اقتصادياً. ثمّة خطّ دفاع آخر مهم جدّاً، هو العراق، وقد بنى رئيس الوزراء العراقي، محمد شيّاع السوداني، جسراً مع سورية الجديدة من أول يوم عندما منع جماعة الحشد الولائي من دخول سورية لحماية نظام الأسد في أيّامه الأخيرة، وتوّجهاً نحو لقاء الرئيس السوري أحمد الشرع في الدوحة، بوساطة أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني. وبحسب "رويترز"، أرسل السوداني وفداً إلى سورية لدراسة إمكانية إعادة تشغيل أنبوب النفط العراقي عبر سورية إلى موانئ البحر المتوسّط. هذا تحوّل استراتيجي يساهم في إنقاذ الاقتصاد السوري، ويوسّع الاقتصاد العراقي. ففي حال استُئنف التصدير من الموانئ السورية سيزيد تصدير العراق من أربعة ملايين برميل يومياً إلى خمسة ملايين، وممكن أن يرتفع إلى ستة ملايين برميل. يعني أننا نتحدّث عن رقم ثوري في الاقتصاد يزيد على 20 ملياراً، بعودة علاقات البلدَين اللذين يشكّلان ركني المشرق العربي، وهو ما يجعلهما ندّين، ليس أمام العدو الصهوني فقط، ب أمام الجوارين الإيراني والتركي أيضاً. أيّ رسالة تاريخية يوصلها السوداني والشرع باستئناف تصدير النفط الذي توقف منذ عام 1982 أمام مصالح اقتصادية كبرى، لا تكامل بين شعبَين فقط، بل تطفئ نار فتنة طائفية فتكت بالأمة ودمّرت مقدّراتها؟
القضية الفلسطينية جزء من نضال الشعب السوري، الذي لا يزال أكثر من مليون من أبنائه نازحين من الجولان، ومنهم رئيس سورية الجديدة
القضية الفلسطينية جزء من نضال الشعب السوري، الذي لا يزال أكثر من مليون من أبنائه نازحين من الجولان، ومنهم رئيس سورية الجديدة. لا يوجد عاقل يطالب القيادة السورية الجديدة بفتح جبهة مع العدو الصهيوني. توجد منطقة آمنة للقيادة السورية الجديدة في تعاملها مع العدوان الصهيوني، وهي تقديم المطالب السورية، التي لا تقلّ عما حصله حافظ الأسد، وأصرّ عليها الابن، فيما عرف بـ"وديعة رابين". هذا شرطٌ يمثّل الحدّ الأخلاقي الأدنى، حتى لا نقول الشرعي، في منطق الشرع، فأنت لا تتخلّى عن بيتك وعودة أهلك، وفي الوقت نفسه، لا تشنّ حرباً لتحقيق مطالبك. وهذا الموقف الذي عبّر عنه الشرع في خطابه أمام القمة العربية في القاهرة، حدّ أدنى لا يتنازل عنه، وهو مدعومٌ من الشارع السوري، تماماً كما يجد دعماً من حلفاء سورية الجديدة، ويحرج هذا الموقف أعداء سورية، سواء العدو الإسرائيلي أم إيران، ومن حالفهما.
قدّم الشرع، في لقائه أخيراً مع "نيويورك تايمز"، مقاربةً معقولة للوصول إلى المنطقة الآمنة، بلا صِدام ولا استسلام، من خلال إسناد الملفّ إلى الحليف التركي. ونقل عن الشرع أن حكومته "تتفاوض حالياً مع تركيا وروسيا بشأن وجودهما العسكري في سورية"، وألمح إلى إمكانية أن يقدّم كلاهما الدعم العسكري لحكومته". بالنسبة لتركيا، الحليف السياسي القديم لجماعة الشرع المتمرّدة، يمكن أن يساعد الاتفاق العسكري مع السلطات السورية الجديدة في توسيع نفوذها أقرب إلى حدود إسرائيل، وتقليص قوة الجماعات المسلّحة الكردية في الشمال، وإبقاء إيران تحت السيطرة. أبدي الشعب السوري، بعد انتصار ثورته المجيدة، وفي غضون التحرير، إلتزاماً بالقضية الفلسطينية، يفوق التزام نظام الشعارات البعثية، وقدّم أهل المخيّمات السورية تبرّعات من قوت يومهم إلى أبناء غزّة. وبعد الانتصار، خفقت راية فلسطين في شوارع سورية من حلب إلى إدلب إلى درعا، وهتف المتظاهرون لغزّة وصمودها، وقد تجلّى الموقف الشعبي في تصدّي أبناء سورية للعدوان الإسرائيلي، وهو موقفٌ ساندته الحكومة، بدا من خلال ممثّليها الذين شاركوا في العزاء والجنازات، وعبّر الشعب السوري عن إجماعٍ قلّ نظيره في التضامن مع درعا. ولقد جرّبت الأنظمة الثورية المصنّفة إرهابية (في التصنيفات الأميركية) البوابة الإسرائيلية للخروج من العقوبات. للتذكير بشّار الأسد نفسه، وقبله القذافي وعمر البشير، حاولوا. لكنّ تلك البوابة كانت تقود إلى الهاوية. البوابة الحقيقية للخروج من العقوبات هي بناء الدولة السورية الجامعة المواطنين والمصالحة معهم جميعاً من دون استثناء. المؤكّد أن الشرع يتعرّض لمؤامرة صهيونية تُواجَه بمناورة ذكية، لا بصدام غبي.
السوريين قادرون على إحباط المؤامرة، ومن انتصر على أعتى الطغاة لن يرضخ لأعتى الغزاة
في مقال مهم نشره زميل أبحاث في معهد دراسات الأمن القومي في تلّ، داني سيترينوفيتش، وهو متخصّص في الشؤون الإيرانية والأمن الإقليمي، وشغل سابقاً مناصب في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية تختص بإيران وحزب الله وسورية، ومعه شيرا إيفرون، وهي مديرة الأبحاث في منتدى السياسة الإسرائيلية، وزميلة أبحاث أولى في معهد دراسات الأمن القومي، وزميلة مشاركة في مؤسّسة RAND... كشفا كلاهما حجم العدوان الإسرائيلي على سورية بعد التحرير، وحذّرا من تكرار نموذج احتلال جنوب لبنان الذي أوجد حزب الله. يقول الكاتبان إن إسرائيل اتخذت، بعد سقوط نظام بشّار الأسد، موقفاً أكثر عدوانية في سورية، فسيطرت على مناطق كانت تحت مراقبة الأمم المتحدة، ووسّعت عملياتها العسكرية لتشمل ضربات على البنية التحتية السورية، بما في ذلك الدفاعات الجوية ومستودعات الأسلحة، وأقامت تسعة مواقع عسكرية جديدة. وفي نظرهما، فوّتَت إسرائيل فرصةً للتقارب مع النظام السوري الجديد، الذي "أبدى رغبةً في تجنّب الصراع مع إسرائيل، بل وطرح إمكانية تطبيع العلاقات. ومع ذلك، قد تدفع التصرّفات الإسرائيلية العدوانية هذا النظام اتخاذ موقف عدائي، ما يُفقد إسرائيل فرصةً استراتيجيةً لعزل إيران وتقليل نفوذها في المنطقة. وتسبّبت التحرّكات الإسرائيلية في توتير العلاقات مع تركيا، إذ أحبطت إسرائيل محاولات تركية لإعادة بناء قدرات الجيش السوري، ما زاد من احتمالية مواجهة عسكرية بين البلدَين. وحذّر الكاتبان من تكرار تجربة حزب الله في لبنان، فإسرائيل تصنع أعداءها، واستمرار النهج العدواني قد يؤدّي إلى "تصعيد داخلي في سورية، إذ بدأت تظهر مقاومة مسلّحة ضدّ القوات الإسرائيلية، ما قد يُغرق إسرائيل في صراع طويل الأمد، ويزيد من التوتّرات مع جيرانها". ودعا الباحثان بلدهما "إلى إعادة تقييم استراتيجيته في سورية، والتواصل مع النظام الجديد بشكل دبلوماسي، وتقديم المساعدة الإنسانية، والتأكيد على أن الوجود العسكري مؤقّت، وذلك لتجنّب إيجاد عدو جديد واستغلال الفرصة لتعزيز الاستقرار الإقليمي".
بمعزل عمّا يخطّط له الصهاينة (متطرّفين وعقلاء)، السوريين قادرون على إحباط المؤامرة، ومن انتصر على أعتى الطغاة لن يرضخ لأعتى الغزاة.