وجهة نظر :
وهذا دلو في صميم البئر الذي تكاثرت عليه الدلاء..
في حقيقة مصيبتنا بفقد نبينا
زهير سالم*
وفي التأكيد على أنه- صلى الله عليه وسلم- بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمة، وتركنا على الواضحة ليلها كنهارها..كاملة تامة غير منقوصة، ولا يدعي ذلك عليه إلا من في قلبه أو لسانه عوج..
وقد كانت رسالته- صلى الله عليه وسلم- تبيانا لكل شيء، يستحق البيان الرباني، وسكت ربنا جلت قدرته، ووسعت رحمته، عن أشياء من أمرنا، رحمة بنا، من غير نسيان منه، أو تقصير من رسوله صلى الله عليه وسلم، فأبى بعض المتنطعين منا إلا ما ترون وتسمعون وتدرسون وتدرَِّسون..
ترك عاما وأوكل إليها تخصيصه. وترك مجملا وأوكل إلينا تفصيله. وقال الشوكاني في إرشاد الفحول: ما من عام إلا وقد خص، فإن لم يكن مخصص فالعقل مخصص. ولم يفلح قوم جعلوا العقل نقيضا للشرع فذموه ونحّوه واستصغروه. وقد علموا أنه لم يكلف بالشريعة غير العقلاء، ولم يخاطب بها غير العالمين الذين يستنبطون منهم فيردون فرعا إلى أصل، ويلحقون مسألة بأصولها، ويجعلون القاعدة الواحدة مثل الأساس المتين فيبنون عليها ويعلون البناء..
ولو سئلت لقلت: ونحن في قرننا الذي نعيش في الدور الخامس عشر، من عمارة الإسلام، وما نبالي أن فينا أقواما ما زالوا يعحبهم العيش في الخيام، أو يحبون التخلي في الهواء الطلق، والتطهر بالمسح بالجمار. فإن اعتبروا ذلك من جميل العادات، فهم وذاك، وإن اعتبروه من السنن الماضيات فقدوا أساؤوا لمن قعّد القواعد، وأرسى الأسس، وجعل كل ذلك من الكلمات الباقيات.
في قواعد اللباس في الإسلام أنه يكون سترا وزينة. بل اعتبر الشرع الحنيف السترَ من الزينة، لعلنا نعقل. ومقصد الستر في أمر الشريعة مدرك ومحدود، ومطلب الزينة مفتوح لأهل القرون بما يحقق أمر الأول ولا يجافيه.
كان لباس عامة الناس يوم تأسس هذا البناء قطعتين من قماش تكون إحداهن إزارا تستر بالنسبة للرجال ما بين وبين، وبالنسبة للنساء جلابيب، لم يحفظ لنا التاريخ كثيرا من حالها وكيف كانت تفصل وتخاط. إلا أنها سابغات.وحين حظر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرجال، أن يزيدوا في الإزار إلى ما دون الكعبين، وعد ذلك من الكبر، ولا سيما وأن سواد الرجال في المجتمع لا يجدون ما يستر سائر الساقين، رخص للنساء في الإزار، أن يجررن خلفهن نحو سبعة أذرع..
تخيلوا أو تصوروا ثم ارجعوا إليّ، قلن يا رسول الله نخاف الانكشاف.
أتصور اليوم أي غنى في تاريخ "الأنثربولوجيا" الإسلامية لو ملكنا إزياء عملية لما كان يلبس المسلمون والمسلمات أيضا في ثلاث عشرة طبعة، من ثلاثة عشر قرنا خلت من قرون الإسلام.
منّ الله علي في تاريخ غربتي بجلسات مفيدات بين يدي الفقيه العلامة الشيخ مصطفى الزرقا، رحمه الله تعالى، وسمعت منه أشياء في أمر هذا الباب، لا أستطيع أن أحكيها لكم، فقد كان الشيخ مصطفى رحمه الله تعالى، ويضيق علي القول أن أصفه بالحلبي.. من القوة على تحمل مسؤولية الفتوى ما تخور عنده همم الرجال. في أكثر من مجلس حدثنا عن انفراده أمام جمهور الخمسينات من العلماء بفتوى التشريع للتأمين، ويذكر متحسرا متأوها، كيف خالفه من فقهاء ذاك الزمان فلان وفلان.. لا أطيق ولا أستطيع..
إذا تجاوزنا أمر اللباس..
وانطلقنا إلى قاعدة الشورى بوصفها اساسا، لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يستكمل أطر الشورى وهو يسوس مجتمعا بالألاف، وإن زدت قلت مجتمعا بعشرات الآلاف…
هل أستطيع أن أقول في زي الشورى، كما قلت في زي الثياب..؟؟
تجدهم حائرين بائرين في كل عصر لأنهم يريدون دينا يجيبهم بالحرف عند كل ثنية وحرف!!
وليس لهذا نزل الدين الخاتم. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لهم وهو بين ظهرانيهم: "ذروني ما ترَكتُكم فإنَّما هلَك الَّذينَ من قبلِكم بِكثرةِ مسائلِهم واختلافِهم على أنبيائِهم ، ما نَهيتُكم عنهُ فاجتَنبوهُ وما أمرتُكم بِه فافعلوا منهُ ما استطعتُم"
حكم المحدثون على الحديث بالتواتر.. يعني أنه في أعلى درجات الصحة.
أين نحن اليوم من هذا يا علماء الإسلام.
صاحب الشريعة أرادها ميسرة قريبة رفيفة: قال له أحد أصحابه يوما يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ فقل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك!!
أجابه بكلمتين: "قل آمنت بالله ثم استقم." تأملوا ما أرشق وما أخف وما أيسر وما أقرب وما أجمع وما أصلح…؟؟!! وما استوفيت بعدها.
كان أحد الأخفشين من علماء اللغة يعقّد العبارة حتى يقصده التلاميذ فيقرؤا عليه الكتاب.
هل من هنا نشأت فكرة المتن والحاشية..
صاحبكم قرأ من السرخسي أصوله ومبسوطه، ومن الكاساني بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، بعد أن أحكم متن التحفة للسمرقندي. يا أهل حلب من حقكم أن تفخروا أن الكاساني نزيل مدينتكم، وقرأت الحاشية لابن عابدين، وألممت بالمجموع للنووي، طبعا من ألم بالمجموع لا يذكر كفاية الأخيار..ولا متن أبي شجاع ولا مراقي الفلاح…
وأعلم في خزائن النور تلك من الفقه المسطور من القرون الرابع والخامس وما تلاهما مما أعلم أنه قد غيب عن أهل هذا الزمان!!
أختم بالقول: هل تعلمون أن السروايل لم تكن من لباس القرن الأول وربما وليس الثاني، أيضا!! وعلى زعم بعضهم لبسها بدعة.
فما لبسها سيدنا رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم، ولا الصحابة الأولون. وتجدون من خب فيها ووضع الحكايات والأحاديث…!!
حتى لفظها ليس من لغة العرب ولا يقربها ولو رجعت للجواليقي في المعرب لرأيته يذكرها..
وأظرف ما سيمر بك من أمرها قول المتنبي
في تظرف ممجوج:
إِنّي عَلى شَغَفي بِما في خُمرِها
لَأَعِفُّ عَمّا في سَـــــــراويلاتِها..
وقد علق القاضي أبو الحسن الجرجاني صاحب الوساطة على هذا البيت بقوله:
"ليته لم يعف ولم يقل هذا البيت"
والكلام في مثل هذا الأمر كثير…
أما أن مصاب الأمة في نبيها صلى الله عليه وسلم هو المصاب الذي يهون علينا كل مصاب بعده.. فهو الحق الذي لا مرية فيه!!
وإذا أصابتك مصيبة تشجى لها
فاذكــــــر مصابــــــــك بالنبي محمد..
إلى جبريل نعته من نادت أبتاه.. أبتاه..
نزل القرآن الكريم خطابا لقوم يعقلون ولقوم يتفكرون ولقوم يتدبرون..
فأبى بعض الناس إلا ما نرى وترون..
لندن: 2/ ربيع الثاني/ 1447
27/ 9/ 2025
____________
*مدير مركز الشرق العربي