الرئيسة \  مواقف  \  وجهة نظر : وجيز التفسير (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ..)

وجهة نظر : وجيز التفسير (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ..)

28.03.2024
زهير سالم




وجهة نظر :
وجيز التفسير
(إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُون)
(30)- فصلت

زهير سالم*
آية عجيبة..
عندي اعتقاد في أن كل آية من آيات القرآن الكريم خزانة من خزائن النور الرباني..
خزائن القرآن نور لا يأفل، ولا يغيب، بل يظل هاديا..
وتتراءى لي آيات القرآن الكريم أحيانا أخرى، نبعا صافيا عذبا دفاقا وكل من ورد شرب، بعض الناس يحسون مثل حسو الطير، وبعضهم رشفا، وبعضهم يغترف اغترافا وكلٌ منهم على سعة كأسه..
ويتمادى بي الاعتقاد لأقول إن عطاءات القرآن الكريم لا تنفد..
بحر جود يروي كل من يرد
مهما قال الأولون يبقى للواردون فضاء يرتقون فيه.
قوله تعالى:
(إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ)
خزانة نور، كنز معرفة، معرفة جوانية للقلوب، ومعرفة هادية لأصحاب العقول.
وبينما شُغل أكثر المفسرين العاملين على هذه الآية، في معنى "الاستقامة" وحقيقتها، وكيف يكون المسلم مستقيما؟؟ وكيف أن الاستقامة في أصل الدين شطر، كما أن الإيمان أصل وشطر؛ وحين سأله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك، أجابه: "قل آمنت بالله ثم استقم"
كلمتان: إيمان واستقامة. اهدنا الصراط المستقيم.
أقول وبينما تعلق أكثر المفسرين بتفسير حقيقة الاستقامة، ظللت حياتي متعلقا بحقيقة هذا التنزل المبشر الجميل، ألتمسه، وأستمد منه، وأفيء إليه
وأقتضيه وعدا ربانيا؛ كلما اجتاحني خوف، أو عمني يأس، أو نال مني كيد، أو تكسرت على صدري السهام، ولعبت في ظهري الخناجر، أو تكاثرت في جسدي أو فلبي الجراح، ألتمسه وأقتضيه فأجد وعد الله تعالى في هذه الآية حقيقة ناجزة، وإني لأرجوها أوفر ما تكون في اللحظة التي قصرها عليها المفسرون، البشارة عند الاحتضار أو النزع في مقابلة ما يلقاه الآخرون..
ولا أدري لماذا قصر عموم المفسرين، هذا التنزل أو هذه البشارة، أو هذا التثبيت، عند النزع، وأضاف بعضهم وعند الدفن، وعند القيام للحشر..؟؟!!
الكريم وعد وأعطى ووسع وأطلق وعم، والعبد حظر وضيق وخص!!
(قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنفَاقِ ۚ وَكَانَ الْإِنسَانُ قَتُورًا)
فهل في الآية ما يمنع أن يكون التنزل بطرق لا يعلمها إلا الله دائما، والتبشير قائما، والتثبيت الذي أمر به الملائكة في يوم بدر مهمة مستدامة لفريق منهم (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا)
يشكل علينا أحيانا تصور حقيقية الملائكة (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) فكلمة الجنود تجذبنا إلى الزي العسكري واللأمة والسيف والترس!! ويحنا كم هي طفولية تصوراتنا!!
ولفظة التنزل تأخذنا إلى عالم محدود لصيغة ألفناها، أو كررناها.
في القرآن الكريم آيات عن الشياطين يوحون إلى أوليائهم، ويوحي بعضهم إلى بعض …
لا شك هذا وحي شيطاني خبيث، ويمكن أن يقابله بشارات ربانية منيفة، يتنعم بها من ذاق، وهي تختلف نوعا وجنسا عن الوحي الذي ينزل به الروح الأمين على صدور المرسلين…
تمعن معي في هذا الحديث حتى آخر كلمة فيه، واقرأه بعقلك وقلبك:
عن عبد الرحمن بن خنيس رضي الله عنه عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض، ومن شر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن." ورواه النسائي في الكبرى، والطبراني في الدعاء، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة.
تأمل استعاذة الرسول صلى الله عليه وسلم من شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يخرج من الأرض، ومن طوارق الليل والنهار، نحتاج إلى "كونسلتو" من الأطباء النفسيين، لنطرح عليهم ونسمع منهم عن الطوارق التي تتسلل إلى القلوب والعقول والنفوس فتنشر فيها "الهم والحزن" "والبؤس والكآبة واليأس والإحباط" والشعور "بالعبثية والعدمية واللاجدوى" ثم اسمع إلى المريض يحدثك عن أنه لا سبب مادي يدفعه إلى الاعتقاد في ذلك..هو لا يعني من فقر ولا من مرض، ولا من تهديد؛ ولكن الهم والحزن والكآبة تملأ كيانه، حتى تدفعه إلى الانتحار…
في كتب علم النفس، يقولون إن جميع الناس يعيشون هواجسهم؛ ولا يعرفون مبعثها، ويظلون يداورونها والمريض النفسي هو فقط من يصل إلى العيادة.
لماذا يضحك ذانك الرجلان؟؟ وعن أي شيء يتحدثان؟؟
في الحديث الذي أوردته يتعوذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من "شر كل طارق" تأمل الصيغة، أنا أحب أن تكون شريكي في التأمل، وفي رواية أخرى "من شر طوارق الليل والنهار" إلا طارقا يطرق بخير، مفهوم المخالفة يقضي أن الطوارق أو كل طارق يطرقون بالشر، ولا يطرقون بخير!! ولا يبشرون به، بل ربما وسوسة وتسلل وتدسس، "وصاحبهم يكتئب كلما أشرقت الشمس، وكلما غابت، ولا يعرف لذلك سببا!!
وأعوذ بك من كل طارق..وأعوذ بك من طوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بالبشرى يتنزل على النفوس الإنسانية التي آمنت واستقامت (أَلَّا تَخَافُوا) (لَا تَحْزَنُوا) (وَأَبْشِرُوا)
وهذا يمكن أن يحدث في كل وقت وكل حين، وهناك قوم يتذوقون "عسيلته" ويتنعمون، بل يزيدهم إيمانا ويقينا وثباتا وتسليما..
لعلك فعلت ذلك يوما!!
وإن قلتَ؛ إنك لم!! فسأقول لك حاول، وإن قلتَ إنك قد مررت بمثله كثيرا فسأكتب لك يالهناك
وأدعو: اللهم أذق كل من ينكرون علينا ذواقنا كما أذقت عبادك الصالحين..
إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن…
وسماه أهل المعرفة الواردات..
والوردات كما تكون رحمانية مؤمّنة مطمنة مبشرة…
يمكن أن نستعيذ بالله منها طوارق تطرق أعماقنا بالخوف واليأس…
في رحلتي، بين بضعة كتب تفسير أبحث عن حقيقة هذا التنزل، وحقيقة هذه البشرى، لم أجد من ذهب في هذا الطريق غير الألوسي في "روح المعاني"
تقرأ معي (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ)
تذوق معي معني تغشية النعاس لبث الأمن والثقة والثبات..
يقولون: القرآن يفسر بعضه، وأقول هنا لو كنت خليا لكتبت في تفسير قوله تعالى (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا ……) كتابا ثم سأقول؛ لم أستوف بعد.
كانوا يحفّظوننا:
إذا لم تر الهلال.. فسلم لأناس رأوه بالأبصار
لندن: ١٥ رمضان/ ١٤٤٥
٢٥/ ٣/ ٢٠٢٤
____________
*مدير مركز الشرق العربي