الرئيسة \  تقارير  \  وانتهت الحرب ولكن ماذا عن مستقبل المنطقة؟

وانتهت الحرب ولكن ماذا عن مستقبل المنطقة؟

30.06.2025
عبد الباسط سيدا



وانتهت الحرب ولكن ماذا عن مستقبل المنطقة؟
 عبد الباسط سيدا
القدس العربي
الاحد 29/6/2025
السمة الأبرز في الحرب الإسرائيلية الإيرانية العنيفة التي استمرت 12 يوماً، أنها اندلعت بقوة من دون توقعات أكيدة، وانتهت فجأة لتجعل المحللين في حيرة من أمرهم بخصوص البواعث الحقيقية للحرب ونتائجها؛ وحول امكانية استمرارية الهدنة، وتحولها مستقبلاً إلى اتفاق تطبيع دائم، أو شبه دائم على الأقل، أو أنها قد تنهار، وتعود الحرب مجدداً ضمن إطار مساع إسرائيلية أمريكية لبلوغ الأهداف التي ارجئت في المرحلة الراهنة في انتظار معرفة نوايا إيران، ومدى التزامها بما تم الاتفاق عليه شفوياً أم كتابياً. فحتى الآن لا يوجد اتفاق معلن مكتوب، يوثق الشروط والآليات التي تم التوافق عليها قبل الإعلان عن الهدنة من قبل الرئيس الأمريكي ترامب، وهي الهدنة التي من المفروض أنها ستمهد للمفاوضات بين الأطراف المعنية بصورة غير مباشرة عبر الوسطاء، أو حتى مباشرة إذا ما لزم الأمر.
واللافت في هذا السياق هو استعداد الجانب الإيراني للعودة إلى مائدة المفاوضات رغم خسارته لمعظم أوراقه التفاوضية تقريباً، وانكشاف نقاط ضعفه القاتلة. فقد كانت السماء الإيرانية مفتوحة أمام الطائرات الإسرائيلية لتقصف الأهداف التي كانت تختارها وفق الأولويات المحددة لها. كما أن الحرب الاستخباراتية النوعية مكّنت إسرائيل من الوصول إلى القيادات العسكرية والكوادر العلمية الإيرانية من الصف الأول، وذلك منذ الساعات الأولى للهجوم الإسرائيلي المباغت على إيران.
وحدها الصواريخ الباليستية هي التي مكّنت إيران من الرد؛ هذا مع أن الأهداف التي تم قصفها في إسرائيل لم تكن بالأهمية الاستراتيجية عسكرياً أو حتى اقتصادياً مقارنة بالأهداف التي قصفتها إسرائيل في إيران. فقد اقتصرت الأهداف الإيرانية على قصف المدن الإسرائيلية والأماكن السكنية؛ وشكل ذلك عبئاً ثقيلاً على الحكومة الإسرائيلية التي كان من الواضح أنها ليست مستعدة لحرب استنزاف طويلة الأمد. وهذا ما أُستشف من اعتمادها أسلوب القصف المكثف للأهداف الاستراتيجية في العمق الإيراني؛ وذلك لتدميرها أو تعطيلها وإخراجها من المعركة.
أما الجانب الإيراني، فقد أدرك من ناحيته أن المجابهة جدية؛ وأدرك أن الحرب إذا ما استمرت على الوتيرة ذاتها، وتفاقمت الخسائر، وانكشف المزيد من نقاط ضعف النظام، فهذا قد يؤدي إلى تداعيات ضمن النظام نفسه، وربما سقوطه. رغم ضعف هذا الاحتمال لسببين رئيسيين: الأول عدم وجود معارضة داخلية متماسكة متفقة على برنامج عام يحظى بإجماع الإيرانيين على اختلاف انتماءاتهم وتوجهاتهم. أما السبب الثاني فهو يتشخص في عدم وجود إرادة أمريكية بشأن تغيير النظام في إيران حالياً؛ وذلك تحاشياً لمآلات الفوضى التي قد تحصل في منطقة هامة بالنسبة للعالم من جهة الموقع والامكانيات الاقتصادية والأطماع الدولية فيها.
وعلى صعيد آخر، يبدو أن وجود نظام إيراني مشاغب، ولكن هش، ما زال جزءاً من لعبة ضبط المعادلات الإقليمية، رغم كل التحولات والمتغيرات التي طرأت في المنطقة منذ عملية طوفان الأقصى 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وهي العملية التي ما زالت الأسئلة حول توقيتها وأهدافها وتطوراتها ونتائجها الراهنة والمستقبلية، قائمة. ومن بين هذه الأسئلة: ما هو الدور الإيراني في تلك العملية؟ وهل كانت ثمة وعود إيرانية بالفعل لقيادة حماس بأن العملية ستكون بوابة نصر كبير يحققه الدعم الحاسم المتزامن للشعب الفلسطيني من جانب “محور المقاومة والممانعة” بقيادة النظام الإيراني؟
فبعد الحرب الإسرائيلية على غزة بذريعة الانتقام من حماس، والتخلص منها تحسبا لتهديدات مستقبلية، وهي حرب ما زالت مستمرة، يدفع المدنيون الغزيون أطفالاً ونساء وشيوخاً ضريبتها في المقام الأول؛ كانت الحملة الإسرائيلية على حزب الله الذي تحوّل خلال أيام معدودات من قوة مهيمنة على الدولة والمجتمع في لبنان إلى قوة غير مرغوب فيها لبنانياً وعربياً وغربياً. ولكنه مع ذلك ظل رغم كل ما حل به، ورغم غياب الدعم الإيراني له ينتظر الأوامر القادمة من الحرس الثوري وفيلق القدس، ولم يتمكن بعد من إجراء المراجعات الجريئة، ليصبح بموجبها قوة لبنانية فعلية تساهم إلى جانب القوى اللبنانية الأخرى، المؤمنة بمشروع الدولة الوطنية اللبنانية في بناء دولة قوية عادلة، تكون على مسافة إيجابية واحدة من سائر مواطنيها بغض النظر عن انتماءاتهم وتوجهاتهم وجهاتهم.
أما الضربة القاصمة التي تلقاها مشروع النظام الإيراني التوسعي في المنطقة فقد تجسّدت في سقوط سلطة آل الأسد في سوريا، وهروب بشار مع بطانته. وقد أثر ذلك، وسيؤثر مستقبلاً من دون أي شك، على النفوذ الإيراني الواسع المتغلغل في الدولة والمجتمع العراقيين، لا سيما في المؤسسات والأجهزة العسكرية والأمنية، وضمن الأحزاب والميليشيات المرتبطة بالمشروع الإيراني في العراق وفي المنطقة. ومع متابعة النظام الإيراني لكل هذه المتغيرات المتلاحقة المتسارعة، ورغم إدراكه المؤكد بأن ما يجري إنما هو في سياق ترتيبات جديدة للمعادلات الإقليمية بغية ضبط العلاقات بين القوى الإقليمية الأساسية، وبينها وبين التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية؛ ورغم تعرض النظام المعني نفسه، قبل الحرب الأخيرة، لعمليات نوعية غير مسبوقة شملت اغتيال شخصيات قيادية وعلماء، وهجمات سيبرانية، وتفجيرات مريبة؛ رغم كل ذلك لم يحاول النظام الإيراني تعديل سياساته وتغيير سلوكياته في التعامل مع الواقع الإيراني الداخلي، ولا مع الجوار الإقليمي الذي ظل باستمرار على استعداد للانفتاح على النظام الإيراني، شرط أن يكف عن نهج التدخل في الشؤون الداخلية للدول، ويقطع مع استراتيجية استغلال المذهب لغايات سياسية بغية التمكن من التمدد ضمن مجتمعات المنطقة، وبناء الميليشيات والأجهزة الأمنية والمؤسسات الإعلامية، لتكون موازية لمؤسسات وأجهزة الدولة بغية اضعاف الأخيرة، والتحكم فيها، لتصبح مع الوقت أسيرة القرار الإيراني.
وبالعودة إلى الحرب الإسرائيلية الإيرانية ومفاجآتها، كان من الغريب إعلان الرئيس الأمريكي عن انتهائها من دون مقدمات واضحة، وهو الأمر الذي أثار الكثير من التساؤلات من جانب المتابعين. فقد أشاد بطريقة دراماتيكية بالقبول الإسرائيلي والإيراني بالهدنة التي كان ينتظرها الطرفان؛ كل طرف بناء على حساباته بطبيعة الحال. ولكن الأمر الذي أثار الاستغراب هو الحرص الإيراني، بالاتفاق مع الجانب الأمريكي، ربما عن طريق وسطاء، على القيام بعملية رد اعتبرت شكلية على الضربة الأمريكية التي وجهت إلى المنشآت النووية الإيرانية في فوردو ونطنز وأصفهان؛ وقد ذكّرت هذه الخطوة العالم بتخريجة قصف قاعدة عين الأسد 2020 في العراق على إثر اغتيال قاسم سليمان بناء على أمر مباشر من ترامب نفسه. فالعملية الأخيرة أكدت مجدداً أن المهم بالنسبة للنظام الإيراني هو أن يظهر أمام الداخل الإيراني في مظهر النظام القوي الممانع المقاوم. فالبقاء في السلطة هو الهدف الأساس الذي يعتبره النظام المعني أولوية الأولويات. ولكن هذا النهج بات هو الآخر مكشوفاً هزيلاً ولم يعد قادراً على إقناع الإيرانيين بصوابية سياسات النظام، وبقدراته في ميدان تحقيق الانتصارات التي غالباً ما تكون في إعلام النظام مجرد شعارات أو أسماء كبيرة، لا تعكس ما جرى، ويجري، على أرض الواقع بالفعل.
ولكن مع ذلك كله، فإن المنطقة على مستوى الشعوب والحكومات تنفست الصعداء بعد الإعلان عن وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران. والجميع الآن في انتظار المفاوضات ونتائجها التي ستكون لها آثارها الواضحة على واقع منطقتنا وتوجهات القوى الإقليمية والعلاقات في ما بينها. والجدير بالذكر في هذا السياق هو أن الخطاب السائد اليوم في المنطقة، خاصة من قبل دول مجلس التعاون الخليجي هو الخطاب الداعي إلى التركيز على التنمية، وتشجيع الاستثمارات والمشاريع الاقتصادية المشتركة، وذلك مقابل تراجع الخطاب الأيديولوجي بأشكاله وألوانه المختلفة، وهو الخطاب الذي لم يحقق نهضة في المنطقة، ولم يضمن حقوقاً، بل أسهم في تعميق الشروخ، وإثارة النزاعات التي تصاعدت لتتحوّل إلى صراعات وحروب أنهكت شعوب المنطقة ودولها.
إلا أن الاستثمارات التنموية والمشاريع الاقتصادية الكبرى المشتركة، والتعاون الاقتصادي بأوسع معانيه بين دول المنطقة؛ كل ذلك يستوجب بيئة آمنة لن تتوفر من دون مجتمعات مستقرة يشعر الناس فيها على مستوى الأفراد والجماعات بأن حقوقهم مصانة دستورياً، وأن آراءهم واقتراحاتهم وانتقاداتهم لها قيمة؛ وهناك من يحاول أن يفهمها ويأخذها بعين الاعتبار ضمن حدود الممكن والمناسب. وعلى صعيد الجماعات، سواء القومية أم الدينية أو المذهبية؛ يشعر الجميع بأن الدولة تحميهم، وتعاملهم بوصفهم مواطنين لهم حقوق، وعليهم واجبات؛ كما تراعي الدولة الخصوصيات المجتمعية والثقافية لمكوناتها المجتمعية ضمن إطار الانتماء الوطني العام. أما أن تستمر عقلية الاستئثار والإبعاد، وتسود عقلية الأكثرية والأقلية، ويصنف المواطنون وفق مقياس: “نحن وهم”؛ وتنتعش عقلية الحارات و”الزواريب”؛ فهذا معناه أن مقوّمات عملية بناء المجتمع والدولة على أسس سليمة، تضمن شروط الأمن والاستقرار المستدامين والنهضة المطلوبة، ما زالت بعيدة المنال.
٭ كاتب وأكاديمي سوري