واشنطن تغازل دمشق وصورة للشرع في تل أبيب
29.06.2025
عمر قدور
واشنطن تغازل دمشق وصورة للشرع في تل أبيب
عمر قدور
المدن
السبت 28/6/2025
ما أن توقفت الحرب بين إسرائيل وإيران حتى انتشرت صورة لوحة إعلانية ضخمة في تل أبيب، يظهر فيها رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا أحمد الشرع، إلى جوار تسعة قادة عرب تحت شعار: فرصة جديدة لشرق أوسط جديد. الصور الإعلانية انتشرت في تل أبيب بأكثر من لغة، وهي من ضمن حملة أطلقها "التحالف من أجل الأمن الإقليمي" في إسرائيل، ليبدو الشرق الأوسط الجديد الذي تبشّر به الصورة تحالفاً إسرائيلياً-عربياً، أكثر من كونها دعوة إلى شرق أوسط جديد حقاً.
صورة الشرع في تل أبيب تم تجاهلها في دمشق، وكذلك تصريح توماس باراك (المبعوث الأميركي إلى سوريا) إلى قناة "الجزيرة"، وأكّد فيه وجود محادثات هادئة حول كل القضايا، بين الإدارة السورية وتل أبيب. مشيراً إلى أن "الإدارة السورية الحالية ليست على خلاف مع إسرائيل، أو أنها لا تريد القتال". ليعود باراك إلى القول إن إدارته غير معنية بأن تملي على دمشق شيئاً، بل معنية بأن تساعدها.
تفسير العبارة الأخيرة نجده فيما نقلته سانا، وكالة الأنباء السورية الحكومية، عن باراك أيضاً في حديثه إلى قناة "العربية" يوم الخميس، وجاء فيه: "عندما رفع الرئيس دونالد ترامب العقوبات عن سوريا بالتنسيق مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، كان الهدف إعطاء سوريا فرصة، وليس إملاء نظام جديد أو تصدير الديمقراطية أو حتى خلق دستور جديد". وكانت صفحة "الحدث السوري" على فايسبوك، التابعة لشبكة "العربية" التي نقلت تصريحات باراك، قد نشرت في اليوم نفسه على نحو منفصل خبراً عاجلاً عن البيت الأبيض، مفاده أن "سوريا إحدى الدول العربية التي قد تنضم إلى اتفاقية مع إسرائيل".
وقبل أيام قليلة كانت صحيفة "إسرائيل هيوم" قد سرّبت أقوالاً لرئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، أدلى بها في جلسة سرية للجنة الخارجية والدفاع في الكنيست. مما قاله تساحي هنغبي هو إشرافه شخصياً على التنسيق الأمني والسياسي مع دمشق، وأشار إلى أن الطرفين في مرحلة من المفاوضات يناقشان فيها ما يتعلق بالتطبيع، وأن سوريا مرشّحة لعقد اتفاقية لتطبيع العلاقات، على غرار اتفاقيات أبراهام.
من السهل على أي متابع الانتباه إلى ما يربط رزمة التطورات المذكورة أعلاه، ومنها تطورات اليومين الأخيرين اللذين شهدا تسريباً من البيت الأبيض عن إمكانية إبرام اتفاق بين دمشق وتل أبيب، وتكرار المبعوث السوري إلى سوريا أقواله مرتين خلال أقل من أربع وعشرين ساعة، خصوصاً تلك التي تنص على أن بلاده لن تُملي شيئاً على السلطة في دمشق، وتحديداً قوله إن هدف بلاده ليس "إملاء نظام جديد أو تصدير الديمقراطية أو حتى خلق دستور جديد".
صدور هذه التصريحات المتزامنة يشي بمقايضة صريحة بين إطلاق يد السلطة في سوريا مقابل التنازلات التي ستُقدَّم في الاتفاق مع إسرائيل، ومن ثم التطبيع معها. لا تلزم في هذا السياق حتى الإشارة إلى صدور التصريحات عن إدارة أميركية لا يخفي رئيسها غرامه الشديد بالصفقات والمقايضات من هذا القبيل، فالتزامن يشرح نفسه بنفسه، ودحض الرابط بين تقديم التنازلات في الخارج والاستئثار بالداخل يلزمه مسار من الشفافية والتشاركية غير متوفرين، ولا تظهر هناك نية للذهاب في اتجاههما.
من حيث المبدأ، إن رغبة واشنطن وتل أبيب في عقد اتفاق بين الأخيرة ودمشق تعني تعاملهما مع سلطة المرحلة الانتقالية كسلطة دائمة، لها الحق في إبرام اتفاقيات مستدامة ذات طابع شديد الأهمية والحساسية. التصريحات الأميركية الخاصة بعدم إملاء الديموقراطية على دمشق هي لمزيد من الشرح، ولبعث رسالة سياسية واضحة في هذا الاتجاه؛ رسالة لا يُستثنى من مقاصدها سوريون يطمحون إلى الشروع في انتقال ديموقراطي، ولو آجلاً.
ومن أوجه الخطورة في المقايضة كونها لا تحدث بين طرفين متكافئين، فحكومة تل أبيب (مهما كان رأينا في وحشيتها إزاء الفلسطينيين) هي حكومة منتخبة ديموقراطياً، والاتفاق الذي تسعى إليه هو لخدمة مواطنيها من اليهود، حتى إذا حقق في جانب منه اعتبارات انتخابية مفيدة لها. أما الثمن فهو على الضد تماماً، إذ يُلوَّح بعدم اكتراث واشنطن بسلوك السلطة في دمشق فيما يخص الانتقال الديموقراطي تحديداً، بل ليس من التجنّي النظر إلى تصريحات مبعوثها كتشجيع للسلطة الانتقالية على فعل ما يحلو لها داخلياً.
أبعد من ذلك، ستحيل المقايضة، إذا مشت فيها سلطة دمشق، إلى أسوأ ما في العهد الأسدي السابق. أي إلى الاستئثار بالسلطة مع دعم خارجي، وبحيث يكون الأخير هو مصدر "الشرعية" الأكبر، ويُستخدم ضمناً أو علناً لقهر الداخل. وكما نعلم لم يقصّر الكثير من السوريين، منذ آذار 2011 على الأقل، في تخوين حافظ الأسد بموجب رواية تقول إنه "اشترى" كرسي الرئاسة من إسرائيل عندما كان وزيراً للدفاع عام 1967، بسَحْبه القوات السورية من الجولان أمام الهجوم الإسرائيلي.
عطفاً على ذلك، كانت الرواية ذاتها تنصّ على بقاء بشار في السلطة، بعد الثورة عليه، لأنه محميٌّ إسرائيلياً حسب الصفقة آنفة الذكر. بل إن عدم ردّ بشار الأسد على الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة لطالما نُظر إليه من زاوية كونه لا يستطيع الرد على رُعاته في تل أبيب، لا لأنه ضعيف لا يملك القدرة على الرد. هذه النظرة المعمَّمة على نطاق واسع تستحق شيئاً من التدقيق، إذ قد يتفرّع عنها مثلاً أن لإسرائيل حصة في تقرير من يحكم دمشق، وهذا الاستنتاج له تبعاته لجهة فهم الماضي والحاضر والمستقبل المنظور.
واليوم لا يفعل مناصرو السلطة؛ بحماسة بعضهم المعلن للسلام مع إسرائيل، وبصمت بعضهم الآخر عن الأخبار، سوى أنهم جميعاً يعززون الربط بين السلام والسلطة. فلا يبدو السلام مطلباً سورياً وطنياً، بل هو من ضرورات السلطة ليس إلا. بل إن العلاقة مع الصراع في المنطقة بأكملها تتمحور أيضاً حول السلطة، فلا يخفى أن نسبة ساحقة من الذين كانوا يسخرون من بشار الأسد لصمته أثناء الجرائم الإسرائيلية في غزة هم من الصامتين عنها منذ حدث التغيير في سوريا. وأثناء الأحاديث المتواترة منذ مدة حول التواصل بين دمشق وتل أبيب لا تُذكر غزة، ولو على هامش بسيط مما يحدث، وكأنّ مآل ما يحدث فيها منفصل تماماً عن المسار السوري.
ما نعود للتأكيد عليه هو عدم وجود رؤية سورية للسلام مع إسرائيل، ونستبعد أن يكون لدى تل أبيب حالياً مشروع للسلام يختلف في الجوهر عن ميزان القوى المائل بشدة لصالحها. بالأحرى لا يوجد نقاش سوري حول السلام، وحدود التنازلات المقبولة لأجله. ولا يوجد أيضاً نقاش واتفاق سوريين على معنى الحكم الانتقالي، وعلى الصلاحيات الممنوحة لأهله خلال السنوات الخمس المنصوص عليها في الإعلان الدستوري. هذا "الغموض" السوري، المتعمّد جراء الإحجام العام عن المكاشفة، تأتي التصريحات الأميركية فلا تستثيره رغم خطورتها. وكما نعلم، فإن الذين كان سيستفزّهم تصريح أميركي يطالب بالانتقال الديموقراطي لن يستفزّهم العكس عن "عدم تصدير الديموقراطية"، وكأن الأخيرة منتجٌ أميركي، وليست في صميم ما ثار السوريون من أجله.