هل يخلع السوريون "الأعداء" قميص التوحش؟
27.04.2025
عبير نصر
هل يخلع السوريون "الأعداء" قميص التوحش؟
عبير نصر
العربي الجديد
السبت 26/4/2025
لم نكن بحاجةٍ لعرّافِين أو قارئِي الفنجان كي نتوقع مآل الشعب السوري المتعيّش أصلاً على طائفيةٍ عزّزت النزاعات وحيّدت المشتركات، والغاصّ بأجيالٍ لم تعرف إلاّ الخوف والإذلال، ولم ترَ شيئاً سوى صور الحاكم المقدّس وتماثيله، لذا لم تستطع أن تقلّل من تبعيتها لنظامٍ شكّل أقبح مستنقعات الاستبداد في الشرق الأوسط، وكلّ جيل يتساءل اليوم: من أنا حقيقة وإلى أين أنتمي؟ بالتالي، سياق السقوط المفاجئ لنظام الأسد سيُخرج، حكماً، أسوأ ما في السوريين، ويُفرز اضطراباً مفاهيمياً حول هويةٍ شبّت في مزرعةٍ وصفها الفرنسي ميشيل سورا بالدولة المتوحّشة، ودفع حياته ثمناً لهذا. هكذا غدت عصبية "التوحش الخاملة" شكلاً خالصاً من السلبية والانطواء لسوريين يعيشون عبودية قسرية تديرها سلسلة من السياسات الإكراهية أسهمت في إغراق المجتمع في أتون حربِ استنزافٍ ناعمة، فازدادت مؤشرات تفسخه الوطني وانقساماته الأفقية والعمودية. وضمن مربّعات أمنية محمية، تعاني من تداخلٍ غير قابل للفصل بين المليشوي والدولتي، كان ينمو عالمٌ سفلي من العنف المنظّم والعشوائي منه، لا يصلح لنمو إنسانية السوري، خزّنها على شكل مشاعر كراهية وريبة، وسلوكيات عدائية وإقصائية، سرعان ما تجلّت بأقبح مظاهرها اليوم ضد من تشارك معه السماء والأرض والماء، من تحريض وذبح ونهب وحرق وتنكيل...
هناك بالطبع أجوبة ميتافيزيقية كثيرة تتناول الكينونة السورية ومآلاتها الحاضرة، لكنها غير مقنعة، وسط تعقيداتٍ عزّزتها سياسة الأسد ومهدت الطريق لنمو انتماءات مشوّهة تسعى جميعها إلى التمايز والهيمنة عبر نهج إقصائي بقوالب نمطية وخلفيات أيديولوجية محدّدة. ظهرت هذه النزعات التي كانت موجودة في الظلّ إلى النور بعد عام 2011 عندما دقّت الحرب مسامير الشكّ في المفاهيم الوطنية الجامعة، وعملت على زعزعة الحالة الإيمانية بالآخر وتشويهه، فتغيّرت زاوية النظر إلى كلّ شيء بعد الانتقال الصاروخي من الظلمة الحالكة إلى النور المبهر وبشكل عبثي، خالقاً حالة أشبه بالعمى قادت إلى مستوياتٍ غير مسبوقة من التطرّف، لتتحقق قفزة نوعية وصلت إلى حدّ التوحش، وهكذا عرف السوريون أشكالاً من العنف السياسي لم يعرفوها أبداً.
لندخل صلب المأساة الراهنة دخولاً منطقياً تجنباً للالتباس، ونتفق أنه ومع أوّل تصدّع لنظام الأسد بداية الثورة السورية، تهشّم وجه المجتمع المتناغم ظاهرياً، جزءاً من حركة ارتداد أصولي نحو الهويات الضيقة التي تخاطب العواطف المكبوتة الغاضبة للسوريين، ومن ثم تبدّى الوحش داخل السوري جلياً بعد انهيار مملكة الرعب، فكان فرار بشّار الأسد بمنزلة زلزال مدمّر أحدث حالة من الإرباك، وفجوة قيمية وأخلاقية مروّعة، فصار القائد الرمز مجرّد حثالة شعاراتية، وتحوّل موالوه إلى أعداء يتوجب القصاص منهم، وهذا، ربما، يبرّر "انتقائية التعاطف" مع مجازر العلويين من محسوبين على "الأكثرية"، خاصة أنّ الكراهية استخدمها الأسد ضد الشعب لتفكيكه، مستثمراً في كلّ ما يفرّق قوى المجتمع ومكوّناته، فصارت كلّ طائفة تنظر بحذر إلى الطوائف الأخرى لتتعاظم مشاعر العداء والحقد بصمت، في وقتٍ جرى فيه تبادل الاستثمار في المظلوميات، المُعلن والمسكوت عنه. وفجأة، وجد السوريون أنفسهم في جبهات ملتهبة، يحملون هوياتٍ لم يختاروها، تحوّلت إلى جدران عازلة وشاهقة. في هذا، ترى حنّة أرندت أنّ إحداث العزلة بين الأفراد عبر قالب درامي متكامل الأركان يتكرّر في أولويات سياسات الأنظمة الشمولية، فتقول "إنّ العزلة بداية الإرهاب، وهي، بالتأكيد، الأرض الأكثر خصباً له".
خسائر سورية هائلة أفرزت مخلوقاتٍ تعاني خللاً في بنيتيها العقلية والنفسية
السؤال الجوهري الواجب طرحه هنا: هل كشف سقوط نظام الأسد عن الحيوان الذي ربّاه داخل كلّ سوري يعاني من عقدة "اللامنتمي"، والذي يزداد جبروتاً مع تصاعد خطاب التفرقة والكراهية، ليصبح التوحش قناة تفريغ مشروعة بذريعة تحميل حاضنة النظام مسؤولية كلّ الدمار الراهن؟ في المقابل، يُعيد مفهوم "التوحش" ضجيج أسئلة لا تنتهي كانت تُشعر الثائر السوري بالغربة والانسلاخ عن الآخرين "الصامتين". لذا تزيد الحلول التي تستثني تذويب المكونات السورية جميعها في سبيكةٍ واحدة من صعوبة استرداد دور الحامل الوطني الداعم للاستقرار، وهو التحدّي الأبرز أمام الحكومة الجديدة، فما يحدث اليوم ليس إلاّ الوجه المخيف لسوريين "مقهورين" أجبروا على أن يكونوا جلادين على عكس طبيعتهم، عندما أمكنهم ذلك.
في السياق، يأخذنا تناول الوحشية الاستثنائية لنظام الأسد والتي تتجاوز حدود الفهم باتجاه كتاب "حيونة الإنسان" للسوري ممدوح عدوان، الذي أبحر في عواصف النفس البشرية بلغةٍ معبرة ومشهدية أدبية متقنة، وهي بمثابة مشاغباتٍ ذكيةٍ لزعزعة المياه الراكدة في مستنقع الأسد، ليُعيد سبب توحّش السوري إلى ما عاشته بلاده من استباحةٍ فظّة للإنسانية، صنعت بشراً ممتلئين بالنقص، تستشري فيهم الأخلاق المقموعة التي تتغذّى على القهر والخوف. تجعلنا هذه الرؤية السبّاقة للكاتب نتلمس حجم الخسائر السورية الهائلة التي أفرزت مخلوقاتٍ تعاني خللاً في بنيتيها العقلية والنفسية. وعليه، إعطاء الصلاحيات باستخدام القوة المفرطة بلا رادع يُثبط منطق بناء الدولة اليوم، فلا تكون ثمّة مسافة بين حالة الغضب المشروع والفعل العنيف حدّ البربرية. مسافة تجعل السوري غير قادر على اقتلاع الغول الغاضب في أعماقه وهو ينفض عن أكتافه التركة الثقيلة لنظام الأسد، سجون ومقابر جماعية ودمار وجوع وظلم.
الامتحان السوري ثقيلٌ، والأزمة معقدة، يقود الصراعُ الطائفي فيها دفّة العنف الذي وضع حجر الزاوية لكلّ الأحداث الدامية في "سورية الأسد" سابقاً
في كتاب الصراع العربي الإسرائيلي في مرآة الأدب العربي، يكتب شموئيلي موريه: "في حالات الصراع بين شعبين، يحاول كلّ طرف أن يشوّه شخصية الطرف الآخر، وأن يحقق في سلبياته بواسطة عدسة مكبّرة، للتأكيد على اختلافه وغرابته وتسويغ علاقات الرفض والعداء له". وعلى خلفية الاستقطاب الطائفي الحادّ حالياً، يجب التساؤل ثانية: هل تحوّل أبناء الشعب السوري إلى أقوام غريبة تعادي بعضها بعضاً، بينما لا تعي أنّ عنفها هو مرآة الخوف المرتبط بمحدّدات قطعية ترفض عودة عهد الأسد البائد وميراث حقبته الفاشية؟ فلا شك أنّ غموضاً مفاهيمياً مزمناً وموجعاً عن معنى الانتماء إلى مزرعةٍ مسكونةٍ بدناوة الضباع طارد السوريين عقوداً. غموض كلما حاولوا الإجابة نه تجدّدت لرؤيويته ميادين جديدة تضليلية غامضة، تشوّش على مفهوم الوطن والمواطنة، ما يقودنا مجدّداً إلى كتاب عدوان الذي يستعرض الآلية التي تحوّل السوري إلى وحشٍ يتغوّل بالقدر الذي يتغذّى على ما مات داخله. موتٌ هو التجلّي الأخير لعدم الإيمان بالعدالة الكونية، بعد اليقين بأنّ الله تخلّى عنه، بالتالي لمَ لا يتخلّى عنه بدوره.
تأسيساً على ما سبق، الامتحان السوري ثقيلٌ، والأزمة معقدة يقود الصراعُ الطائفي فيها دفّة العنف الذي وضع حجر الزاوية لكلّ الأحداث الدامية في "سورية الأسد" سابقاً، ومن الأمثلة الصارخة والطازجة مجزرة حماة (1982)، التي أدّت إلى شروخٍ عميقة بين السوريين انتعشت حالياً وبشكل بديهي، لتأتي مجازر الساحل السوري في الشهر الماضي (مارس/ آذار)، ربما، محاكاة لها.
وكي لا ينحرف ما تقدّم الى سفسطةٍ لا جدوى منها سوى الخوض في وخم "التشبيح" المجاني، تؤكّد لنا الأحداث الراهنة معنى الدولة المتوحشة التي تحدّث عنها ميشيل سورا: إنها وهم العيش المشترك الذي كان تحكماً فجاً ومسخراً لتسويق شرعية نظام الأسد ومشروعه، دفع السوريون ثمنه غالياً بتحويلهم إلى كائناتٍ مشوهة، إنْ لم تخلع عنها قميص التوحش اليوم، فستبقى الطائفية المستثمرة سياسياً والمحصّنة بمباركةٍ دينية أخطرَ ما يهدّد المجتمع السوري على الإطلاق.