الرئيسة \  تقارير  \  هل ستكون هناك عدالة انتقالية في سوريا؟

هل ستكون هناك عدالة انتقالية في سوريا؟

28.04.2025
حسان الأسود



هل ستكون هناك عدالة انتقالية في سوريا؟
حسان الأسود
سوريا تي في
الاحد 27/4/2025
لطالما شكل مفهوم العدالة الانتقالية ركيزة أساسية في مراحل التحول من الحكم الاستبدادي أو الصراعات الداخلية إلى أنظمة ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان والقانون. وفي الحالة السورية، تبرز العدالة الانتقالية كأحد أبرز التحديات وأعمقها تعقيدًا في طريق إعادة بناء الدولة والمجتمع بعد أكثر من ستة عقود من الاستبداد ودمار هائل خلفته سنوات الثورة والحرب.
منذ انقلاب حزب البعث في 8 آذار 1963، دخلت سوريا نفقًا مظلمًا من القمع والهيمنة الأمنية والعسكرة الشاملة للدولة والمجتمع. ثم جاء حكم حافظ الأسد في عام 1970 ليرسّخ ديكتاتورية مطلقة قائمة على حكم الفرد، واستمر ذلك الغصب السياسي من خلال التوريث إلى ابنه بشار عام 2000. هذه العقود الطوال من الحكم الشمولي تميزت بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، كمجزرة حماة في الثمانينات، واعتقال وتعذيب المعارضين، والقمع المنهجي للحريات.
ومع انطلاق الثورة السورية عام 2011، انفجرت كل التراكمات المجتمعية والسياسية، وتحوّلت البلاد إلى مسرح دموي لصراع معقّد شاركت فيه أطراف داخلية وخارجية. ارتُكبت خلالها جرائم ضد الإنسانية، بما فيها القتل الجماعي، التهجير القسري، استخدام الأسلحة الكيميائية، والاعتقال التعسفي الممنهج. لا شكّ بأنّ الثورة لا تتحمّل وزر هذه الجرائم والانتهاكات، لكن لم يبق فصيلٌ عسكري إلا وانغمس فيها بدرجة أو بأخرى. ومن أنواع الانتهاكات الجسيمة غير الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، ثمّة انتهاكات هائلة مسّت اقتصاد البلاد والبيئة ومؤسسات الدولة. هذا كله يجعل من ملف العدالة الانتقالية أكبر ملف يجب العمل عليه، خاصّة وأنّه يرتبط بملفات شائكة أخرى مثل إعادة الإعمار والتعافي المبكر.
إنّ حجم ملف الانتهاكات في سوريا هائل، لدرجة تجعل من أي مشروع للعدالة الانتقالية مهمة تاريخية واستثنائية. ملايين الضحايا، سواء من الشهداء والقتلى أو المفقودين أو المهجرين أو المعتقلين عند سلطات الأمر الواقع التي ما زال بعضها موجودًا مع الأسف، يحتاجون إلى الاعتراف، والجبر، والمحاسبة. وما يزيد من تعقيد هذا الملف هو انخراط أجهزة الدولة جميعها، من القضاء إلى الأجهزة الأمنية إلى الإعلام إلى البنوك والمصارف وحتى مؤسسات التعليم والصحة، في التغطية على هذه الجرائم أو المشاركة فيها.
إن مؤسسات الدولة السورية، التي بقيت تحت سيطرة النظام طوال العقود الماضية، لم تعد مؤهلة قانونيًا ولا أخلاقيًا لأداء أي دور في مرحلة العدالة الانتقالية. فهي مؤسسات فاسدة، غير محايدة، وفاقدة للمصداقية، وتعاني من تآكل كلي في بنيتها وفعاليتها. إن إعادة تأهيل هذه المؤسسات يتطلب مراجعة شاملة للكادر البشري، وفحصًا دقيقًا لخلفيات الموظفين، خصوصًا في القضاء والأمن والإدارة بكل مستوياتها. لم تسلم مؤسسات المجتمع المدني من هذا الدمار، فالنقابات والاتحادات نالت نصيبها من الفساد أيضًا ومن احتكار السلطة والمنافع. حتى المؤسسات الأهلية والجمعيات الخيرية تلوّثت بشكل أو بآخر.
العدالة الانتقالية ليست انتقامًا، بل هي مسارٌ يضع الضحايا في الصميم منه. يجب أن تكون مصالح الضحايا، وحقوقهم، وكرامتهم، هي المحور الأساسي لأي مقاربة سورية للعدالة. لا يتحقق هذا الأمر بمجرد محاسبة بعض المسؤولين، بل بإصلاح عميق للمنظومة السياسية والقانونية، وضمان عدم التكرار، والتعويض المعنوي والمادي، وكتابة التاريخ الحقيقي لما حدث.
العدالة الانتقالية ليست انتقامًا، بل هي مسارٌ يضع الضحايا في الصميم منه. يجب أن تكون مصالح الضحايا، وحقوقهم، وكرامتهم، هي المحور الأساسي لأي مقاربة سورية للعدالة. لا يتحقق هذا الأمر بمجرد محاسبة بعض المسؤولين، بل بإصلاح عميق للمنظومة السياسية والقانونية، وضمان عدم التكرار، والتعويض المعنوي والمادي، وكتابة التاريخ الحقيقي لما حدث. من أخطر المؤشرات التي تثير القلق حاليًا هو سلوك السلطة الجديدة في التعامل مع رموز النظام السابق. فقد ظهرت تسوياتٌ صادمة مع عددٍ من كبار الضباط، والشبيحة، والفاسدين، بل ووفّرت لهم الحماية وبعضهم يعيش بحرية كاملة من دون أي ملاحقة حقيقية، بل إنّ بعضهم يشغلون مناصب جديدة، ما يرسل رسالة مقلقة بأن الفساد والإجرام لا يُحاسب، بل يُكافأ. هذا النمط من التسويات يُجهض أي أمل في عدالة انتقالية حقيقية، ويُشعر الضحايا بالإهانة، ويقوّض فكرة المحاسبة من جذورها. رأينا تبعات هذا الأمر من خلال إعلانات لم نتأكد بعد من صدقيتها عن تشكيل كتائب أمنية لتنفيذ القصاص بالفلول ورموز النظام وشبيحته، وهذا مؤشر خطير على نفاد صبر المواطنين الذين يرون الحق والعدل يفلت من بين أصابعهم.
في 29 كانون الأول 2024، عقدت الفصائل العسكرية "مؤتمر إعلان النصر" الذي نصب السيد أحمد الشرع رئيسًا مؤقتًا للبلاد. السلطة الراهنة بالعموم، آتية من خلفية إسلامية سلفية جهادية، تمثل بشكل أو بآخر امتدادًا لمنطق الغلبة لا التوافق، وهو ما يثير مخاوف عميقة من أن تتحول المرحلة الانتقالية إلى إعادة إنتاج للسلطوية بلبوس ديني أو فصائلي. لقد حذرت كثيرٌ من القوى السياسية من هذا التفرّد ومن الاتجاه الصريح نحو حكم الجماعة الواحدة وربّما الأسرة ولاحقًا الفرد، بما يعيد إنتاج النظام السلطوي الفردي. هذه السلطة، وإن فرضت نفسها كأمر واقع، لا يمكن أن تُمنح شرعية كاملة إذا لم تلتزم بعملية شاملة للعدالة والمحاسبة وبناء الدولة على أسس المواطنة والتشاركية. بقاء السلطة بشكلها الراهن أحد التحديات الماثلة أمام مسار حقيقي للعدالة الانتقالية.
على صعيد آخر، وبدلًا من أن يكون مؤتمر الحوار الوطني محطة جامعة لإعادة بناء العقد الاجتماعي، جاء هزيلًا ومحدود التمثيل، مستبعدًا طيفًا واسعًا من القوى السياسية والمجتمعية والثورية. كذلك فإن الإعلان الدستوري الذي صدر لاحقًا مثّل خيبة أمل كبيرة، حيث حصَر المحاسبة بجرائم النظام البائد، متجاهلًا الجرائم والانتهاكات التي ارتكبتها فصائل معارضة أو جهات جديدة بعد سقوط النظام. العدالة الانتقالية لا تعني الاقتصار على طرف واحد، بل تقتضي الشمول والحياد، وإلا فإنها تتحول إلى أداة سياسية للانتقام وليس للعدالة. أمّا الحكومة الانتقالية التي تشكلت بعد الإعلان الدستوري فلم تتبنَّ أيًا من المبادئ التشاركية أو التمثيل العادل لمكونات الشعب السوري. إنها أشبه بهيكل إداري مركزي موروث من عقلية النظام السابق، مع غطاء شرعي جديد، من دون تغيير جوهري في طريقة الحكم أو توزيع السلطة. هذا يهدد بتحويل المرحلة الانتقالية من فرصة لإعادة بناء الدولة إلى مرحلة "تقاسم غنائم" بين المنتصرين، ما قد يزرع بذور صراع قادم.
ما الذي نحتاجه فعلًا لتحقيق عدالة انتقالية ذات معنى في سوريا؟ الجواب بسيط ويكمن فيما يلي:
إطار وطني جامع يتضمن مشاركة جميع مكونات المجتمع، من أحزاب وتيارات سياسية، منظمات مجتمع مدني، ممثلي الضحايا، والعاملين في حقوق الإنسان، دون إقصاء أو احتكار.
كشف الحقيقة من خلال لجان وطنية، تعمل على توثيق الجرائم والانتهاكات من كافة الأطراف، ونشرها بشفافية أمام الرأي العام.
آلية محاسبة مستقلة لا تخضع للسلطات الجديدة، بل ترتبط بهيئات دولية أو لجان محايدة تضمن النزاهة والحياد.
إصلاح المؤسسات عبر إعادة هيكلة القضاء والأمن والإدارة، والتأكد من نظافة سجل من يشغلون المناصب العامة.
تعويض الضحايا معنويًا وماديًا، وإعادتهم إلى الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الكريمة.
ضمان عدم التكرار عبر وضع ضمانات دستورية وقانونية لحماية الحريات وحقوق الإنسان.
إعادة كتابة التاريخ من خلال نشر السرديات المختلفة وتخليد الذكرى.
العدالة الانتقالية في سوريا ليست مجرد أمنية، بل ضرورة حيوية لضمان الاستقرار والمصالحة وبناء دولة المواطنة. لكن الطريق إليها محفوف بالمخاطر، خصوصًا في ظل سلطة الأمر الواقع الحالية التي تبدو غير جادة في تبني معايير العدالة الشاملة. إن لم تتغير هذه المقاربة، فإنّ سوريا ستجد نفسها مرة أخرى أمام دوامة انتقام وعنف، بدلًا من التأسيس لمستقبل يستحقه الشعب السوري بعد كل ما عاناه.