الرئيسة \  واحة اللقاء  \  هل استوعبنا دروس الثورة السورية؟

هل استوعبنا دروس الثورة السورية؟

16.04.2019
محمود الحمزة


جيرون
الاثنين 15/4/2019
نتابع باهتمام كبير مجريات الأحداث الثورية، في بلدين شقيقين هما السودان والجزائر، حيث تحقق الثورات الشعبية السلمية انتصارات ملموسة، من دون إراقة دماء، ومن دون شعارات غريبة عن مطالب الشعب. إنها تذكرنا بالأشهر الأولى للثورة السورية العظيمة التي قدمت مليون شهيد.
الشعب السوري ضحّى وصمد وعانى بشكل منقطع النظير. لكن الثورة السلمية انقلبت إلى مسلّحة، وشهدت أنهارًا من الدماء، وتزامنت مع انتشار ظواهر غريبة على الشعب السوري، مثل الطائفية والتطرف والإرهاب والأسلمة السياسية. باختصار: إن ما جرى في سورية يحتاج إلى مجلدات من التحليل والدراسة، لمعرفة حقيقة ما جرى، ولماذا كل هذا العنف الذي قام به النظام متمسكًا بالسلطة. فهذه الجزائر والسودان، حيث تخلى الحكام عن مناصبهم تحت ضغط الاحتجاجات الشعبية. فلماذا في سورية كل هذا الحقد والكراهية والاستهتار بإرادة الشعب؟!
هناك من يقول إن الطاغية بشار وعصابته صمدوا خلال 8 سنوات. وهذا انطباع ظاهري، ففي الحقيقة أن النظام سقط عدة مرات، ولكن النظام الشمولي الأوتوقراطي في طهران، وميليشياته الطائفية الطامحة إلى استعادة أمجاد الإمبراطورية الفارسية، وبعدها روسيا بعقلية قيادتها الشمولية الحالمة ببناء إمبراطورية روسية أرثوذكسية (أوراسية) اعتبروا أن معركة دمشق هي معركتهم، في وجه التوسع الغربي في العالم، أي أنه صراع حضارة وتاريخ وثقافات وقيم ومصالح جيوسياسية وجيواستراتيجية، والحلبة كانت هي الأرض السورية.
وهل كل ذلك صدفة؟ بالطبع إن لوجود “إسرائيل” بجوار سورية دورًا أساسيًا في اهتمام الجميع بسورية وما يجري فيها.
سورية مهد الحضارات والثقافات، منها انطلقت المسيحية إلى العالم على يد القديس بولس، ومنها ترسخت الدولة العربية الإسلامية على يد الأمويين، ومن هنا نفهم سبب اهتمام إيران وروسيا بسورية، إذ تريد إيران الثأر من العرب الذين حطموا إمبراطوريتهم في الفتح الإسلامي، وتريد روسيا بناء روما الثالثة، بعد انهيار الإمبراطورية البيزنطية (روما الثانية) وسقوط القسطنطينية على يد السلطان العثماني محمد الفاتح.
قد يقول قائل إنني أبالغ، لكن التعامل مع الأحداث الكبرى لا يكون بطريقة سريعة ووقتية، كما يصرح المسؤولون، حيث إن لدى الدول أجندات، وهي ليست “نظرية المؤامرة” بل أجندات مرتبطة بالتاريخ والثقافة والديانات. هذا واقع تاريخي.
انظروا إلى قرون طويلة من الحروب الصليبية، وإلى تاريخ الدولة الصفوية والحروب بين القياصرة الروس والإمبراطورية العثمانية، لقد كان محركها الرئيس يرتبط باختلاف الثقافات والديانات، وجوهرها مرتبط بالأجندات الجيوسياسية والعسكرية والاقتصادية والسياسية.
هناك من يعتقد واهمًا بأن الثورة السورية لو بقيت سلمية لانتصرت. لكن من يعرف طبيعة العصابة المجرمة في دمشق؛ يعلم أنهم قادرون على مسح سورية من وجه الأرض، كما مسحوا مدينة حماة عام 1982 من دون أن يتنازلوا أمام المطالب السلمية للشعب. وبعض أفراد عائلة الأسد صرحوا بذلك: “كانت سورية 5 ملايين، قبل استلام عائلة الأسد للسلطة، ويمكن أن نعيدها إلى هذا الرقم إن اضطر الأمر”، أي إذا أصرّ الناس على المطالبة بالتغيير السياسي!
ومع ذلك، يجب ألا نظلم الشعب السوري لأنه حمل السلاح. فالنظام هو من فرض هذه المعادلة لذكائه المفرط وخبثه وخبرته الطويلة في الاستبداد والعنف والحكم المخابراتي، ولا نبرئ بعض أطراف المعارضة، من سرعة لجوئها إلى التسلح لإسقاط النظام على الطراز الليبي، واستلام السلطة.
وازداد الطين بلة بظهور الأسلمة إلى جانب العسكرة. وهناك أيضًا لعب النظام لعبته. ولكن هناك قوًى حسبت نفسها على المعارضة، ساهمت بشكل أساسي في دعم هذه الأسلمة المصطنعة، ونشروها ظنًا منهم بأن ذلك سيكون ضمانة لهيمنة الإسلاميين على السلطة في سورية، باعتبار أن النظام -كما توهموا- ساقط بسرعة.
لم تكن لدى الثورة قيادة، أو خبراء يمتلكون بُعد نظر سياسي واستراتيجي لفهم مجرى الأحداث. ولم نكن نعرف طبيعة النظام وعلاقاته المتشعبة بعمق مع الدول والقوى العالمية والإقليمية. الثورة كانت بحاجة إلى عقول تحميها، وتدفعها بالاتجاه الصحيح وتجنبها الانتكاسات.
ومع الأسف، فإن الأحزاب السياسية التقليدية كانت شبه منتهية، على الأقل جماهيريًا، فضلًا عن الشيخوخة في الفكر والتنظيم وآليات العمل، التي تبلورت أساسًا في أوقات العهد السري، ولم تصبح غير مقبولة في مرحلة الثورة وحسب، بل معيقة للعمل الثوري، حسب نظرية الماركسية التي تربط بين شكل العمل ومضمونه. فما هو تقدمي في مرحلة يصبح معيقًا للتقدم في مرحلة لاحقة.
وقد مررنا، في إعلان دمشق وحزب الشعب الديمقراطي، بهذه التجربة، حين أصبحت القيادة التاريخية التي نشهد لها بالصمود عشرات السنين في السجون الأسدية والبعض كان ملاحقًا طوال تلك المرحلة، إلا أنهم استمروا بوتيرة بطيئة متخلفة عن وتيرة الزمن، ولم يستوعبوا دروس الثورة، واستمروا في التعامل معها بعقلية العهد السري والفكر الأيديولوجي والتنظيم الصارم الذي لا يتقبله الثائرون، حيث العفوية والحماس والاندفاع الذي يحتاج إلى دفع غير مباشر بالاتجاه الصحيح، وليس الوقوف في وجهه وعرقلة مسيرته.
في السودان، برزت مباشرة قوة أساسية تقود الثورة، هي “تجمع المهنيين السودانيين”، وهو تجمّع نابع من رحم الثورة. وقد انخرطت في الثورة قوى تقليدية مثل الحزب الشيوعي السوداني، وغيرها من الأحزاب السودانية العريقة كحزب المؤتمر الوطني وحزب الأمة. لكن القيادة بيد الثوار الشباب.
ومن دون شك، استفادت الثورتان في الجزائر والسودان من تجربة الثورة السورية. فرفعوا منذ البداية شعارات مهمة جدًا: لا للتدخل الخارجي في شؤون الثورة، ولا للأسلمة ولا للعسكرة. وهي المخاطر التي ألحقت بالثورة السورية كل هذه الانتكاسات.
الآن، أصبحت قصة الثورة ومسارها ومآلاتها، لدى أغلب السوريين، واضحة. ولكن أغلب القوى والنخب السياسية لم تستوعب دروس الثورة. فهي ما تزال متمترسة وراء أفكار وشعارات وأنماط عمل وتفكير، أكل الدهر عليها وشرب.
من واجبنا أن نعترف بأن الشباب السوري الثائر، بعفويته وتجربته السياسية المحدودة زمنيًا، أكد أنه أكثر فاعلية وإبداعًا، من أكبر المفكرين والمناضلين السياسيين في سورية. والسبب هو أن الظروف اختلفت، فلكل مرحلة رجالاتها وأفكارها. فجيل (فيسبوك) والإنترنت المنفتح على العالم والثقافة ومصادر المعرفة لا يمكن أن يفكر مثل جيل العهد السري الذي كان يتناقل أوراق التحليل السياسيين المكتوبة بخط اليد، دون أن يعرف الناس مصدر تلك المعلومات ومدى واقعيتها وموضوعيتها. ولكننا نتساءل ما هو أكبر درس لم نستوعبه من الثورة السورية؟
الثورة لا تكون ثورة، إن لم تقلب الفكر السياسي والثقافي والاجتماعي، قبل كل شيء في رؤوس الناس والنخب خاصة. فالثورة ليست إسقاط حاكم أو نظام فقط، بل هي تفكير جديد وسلوك جديد وأساليب عمل سياسية وحياتية جديدة، وإلا فإن القديم سيعود ويفسد آمال الناس ويفرط بتضحياتهم.
حتى اليوم، تقف النخب السورية المثقفة عاجزة عن إيجاد البديل والخروج من “عنق الزجاجة” الذي وُضعنا فيه، خلال 8 سنوات من عمر الثورة. وليس سرًا أن أشهر المعارضين السوريين من أفراد وقوى، تخبط وفشل علميًا في إيجاد مخارج وبدائل يلتف حولها الناس. لماذا؟ لأن تلك النخب لم تغير أساليب عملها وأنماط تفكيرها، بل حاولت معالجة المشكلات الجديدة، بأساليب وقوالب فكرية وسياسية وتنظيمية قديمة.
ما ينقصنا، برأيي المتواضع، هو أن نفكر بشكل جديد، ونعمل بأساليب عمل جديدة تتناسب مع القرن الحادي والعشرين. مثلًا أن نبدأ من الصفر في بناء هياكل سياسية جديدة بفكر جديد وأساليب عمل جديدة، تتفق مع متطلبات الثورة وما بعدها.
أدعو إلى ثورة في الفكر والسياسة والسلوك لدى الأفراد والنخب. هذا ما كان ينقصنا في الثورة، وما زلنا بحاجة إليه.