الرئيسة \  واحة اللقاء  \  هذه الفصائل السورية

هذه الفصائل السورية

14.02.2019
ابتسام تريسي


العربي الجديد
الاربعاء 13/2/2019
تساءل مؤيدو الثورة السّورية في بدايتها عمّن سيكون بديلاً لبشار الأسد، وخلصوا إلى أنّه لا يوجد في سورية من يصلح للرئاسة. حتّى الذين قاموا بالثورة، كانوا يتساءلون عن البديل، فلم تكن الشخصيات المعارضة التي كرّسها الإعلام، وقدّمت نفسها المدافعة عن حقوق الشّعب السّوري، نموذجيةً، يمكنها أن تحقّق حلم الحريّة، وتحكم البلد بديمقراطية.
مع مرور الوقت، ظهرت شخصيات "عسكرية" استقطبت الشباب المقاتل، كما استحوذت على محبة الناس، وشكّلت قاعدة شعبية، كان من المتوقع أن تكبر وتتسع، بما يؤهل هؤلاء للقيادة. وكان النظام فطناً وحذراً، قام بتصفية تلك الشّخصيات لقتل الفكرة، أُولاها المقدّم حسين هرموش الذي تمّ اختطافه من تركيا، وتم تسليمه للنظام بطريقة غامضة، ولم يعرف أحد مصيره. وثانيها رياض الأسعد، وهو من أوائل المنشقين عن الجيش، وقد تعرّض لعدّة عمليات اغتيال، فاضطر إلى العمل في الخفاء، وكان عبد القادر الصالح في الشّمال قد شكّل قاعدة شعبية كبيرة، بعد قيادته عدة معارك ضدّ النّظام، ومواقفه الأخلاقية. في الفترة نفسها التي استقطب حجي مارع الشباب المقاتل والمدنيين المؤمنين بحتمية انتصار الثورة وضرورتها، ظهر العقيد يوسف الجادر (القائد أبو فرات)، والذي لم تكن تصفية النظام له بسبب قتاله، بل لأنّه حمل مشروعاً وطنياً، وتحلّى بأخلاق عالية.
كان في وسع هذه الشخصيات القيادية تحويل مسار الثورة السّورية، ومنعها من الوصول إلى
"قد تتحوّل مقاومة الظلم إلى امتهان ظلم الآخرين، والحصول على الحريّة إلى عبوديةٍ للحريّة نفسها" ما آلت إليه، بعد تحكّم المهاجرين بالقيادة، كلٌ حسب البلد الدّاعم له مادياً، وحسب النّسق الفكري لقيادته الأساسية التابعة للقاعدة ورئيسها أيمن الظواهري. واشتهر في إدلب وريفها الشيخ المحيسني الذي صال وجال، وحكم وأفتى وتزوج من المدينة، ثمّ اختفى.
ما إن اندلعت الثورة حتّى سعى النظام السّوري لنسفها بالسعي إلى التّسليح، كانت تهمة المعتقل الذي يحمل أدوية أو يعمل في مستشفى ميداني تقوده إلى الموت تحت التعذيب، لكن حامل السلاح كان لديه الأمل في الخروج من أقبية النظام، ليعود إلى القتال ضدّ النظام. ولم تكن الفصائل المسلحة في الشّمال "المحرّر" أقلّ شراسة وعنفاً من النّظام السّوري في تعاملها مع المدنيين الأحرار الذين يرفضون وجودها بطرقهم السّلمية التي حاربوا بها بشّار الأسد، والتي تعتمد على الكلمة المكتوبة (اللافتات والمقالات) والمنطوقة (الأغاني والهتاف في المظاهرات والبرامج الإذاعية). لكنّ جبهة النصرة وباقي الفصائل فرضت نظامها وفكرها في تلك المناطق، ومنعت حمل علم الثورة في المظاهرات، والموسيقى، وعمل النّساء في الإذاعة، أو بث أصوات نسائية بحجة الحلال والحرام. قمع الحراك السّلمي الذي تشاركت فيه الفصائل المسلحة مع بشّار الأسد جعل الأمل بالتّغيير ونجاح الثورة في المحرّر شبه مستحيل.
وفي الأثناء، مات شباب الثورة الأوائل في معتقلات الأسد تحت التّعذيب، وهم الذين نفذوا من أيدي الأسد، ثم اعتقلتهم الفصائل المسلحة، قتل بعضهم تحت التّعذيب، وجديدهم الشّاب أحمد العتر الذي قتله "فيلق الشام" بعد تعذيبه 15 ساعة. واغتيل بعضهم في وضح النّهار أمام عيون المارّة، ومنهم رائد الفارس، صاحب أكبر مشروع تقدّمي في الشّمال.
كيف للناس أن يتحمّلوا كلّ تلك المشاهد المروعة من القتل والدمار وفقد الأحبة؟ وكيف تحولوا إلى الإسهام في الأعمال الوحشية (خطف وقتل وسرقة واحتيال). كأن الاعتياد، خلال السّنوات الثماني من عمر الثورة، جعل النّاس يتماهون مع العنف والشّر، بشكل أصبح أسلوب حياة. وقد تكون الحاجة أوّل مؤشّر للبشر لارتياد طريق الشّر في مواجهة الضغوط المادية التي لا تمنح الفرد أبسط مقومات الحياة، فتتحوّل مقاومة الظلم إلى امتهان ظلم الآخرين، والحصول على الحريّة إلى عبوديةٍ للحريّة نفسها، حين تصاغ بأشكال خاطئة، تفرضها المفاهيم المتطرّفة التي وجد الأفراد في المناطق المحرّرة أنفسهم وقد غرقوا فيها، ولم يعد أمامهم مجال للعودة.
وقد شكّلت جبهة النّصرة، منذ وجودها في الشمال، سيفاً مسلّطاً على رقاب المدنيين، بفرضها
"المقاتلون تحت ألوية الفصائل لا يدركون شيئاً مما يفعلونه، لانقيادهم التّام لقيادتهم التي تدفع رواتبهم" مفاهيم مؤسسيها من "القاعدة"، ومتطلبات دورها في ذلك الوقت كانت التّماهي مع النّاس الذين ينزعون بطبيعتهم إلى قبول السّلطة الدينية. هؤلاء الذين أيدوا وجود جبهة النّصرة والفصائل المسلّحة بدأوا يتململون من وجودها، واعتبروها منظمة إرهابية، حين أظهرت التطرف الذي أخفته في البداية، حين كانت تسعى إلى كسب قاعدة شعبية بين البسطاء. أمّا المقاتلون تحت ألوية الفصائل فلا يدركون شيئاً مما يفعلونه، لانقيادهم التّام لقيادتهم التي تدفع رواتبهم، وتؤمن لأسرهم سبل العيش، وحين يخفّ الدّعم تطلق أيديهم للسطو على أرزاق الناس، وفرض "الخوة" على أصحاب الأراضي والدكاكين والمهن الحرّة، بزعم حمايتهم من الخطف والقتل "اللذين يقومون بهما هم أنفسهم!".
اجتمعت الفصائل في الشّمال لمحاربة جبهة النصرة المصنفة دوليا منظمة إرهابية والقضاء عليها! استبشر الناس في المناطق المحرّرة خيراً بقرب حصولهم على حريتهم، لكن ما حدث هو تعويم جبهة النّصرة من جديد، ومصالحة مشبوهة بين الفصائل، بعد أن قُتل عدد لا بأس به من الطرفين، ومن المدنيين، الوقود الحقيقي لكلّ الصراعات القائمة على الأرض في المناطق المحرّرة، حتّى البسطاء في الشّمال اقتنعوا أخيراً بضرورة التّخلص من تلك الفصائل، وبأنّها الوجه الثاني للعملة التي سكّها بشّار الأسد منذ بداية تحوّل الثورة من السّلمية إلى التّسليح.