الرئيسة \  قطوف وتأملات  \  نوع من النيران

نوع من النيران

23.08.2020
إبراهيم عاصي


بقلم : إبراهيم عاصي *
هذه القطعة الأدبية الرفيعة في فقه المحنة، ثمرة معاناة في بعض سجون الطغمة الحاكمة في سورية.
عندما تـُذكر كلمة (( نار )) ينصرف الذهن – أول ما ينصرف- إلى اللهب الذي يتراقص في موقد ، أو داخل مدفأة أو فرن فم تنور .
و عندما تـُذكر كلمة ((نار)) ينصرف الذهن إلى بعض الأصول المولدة لها مثل الحطب أو الفحم أو النفط ، و ربما شرر الكهرباء !!
ولدى ذكر كلمة ((نار)) ، و تصور ما لها من لهب أو جمر ، و قوة إتلاف و إحراق – فيما لو وقع فيها إنسان أو اكتوى بها – يقشعر البدن ، و يضطرب القلب ، و يخشع البصر هولا ً و فرقا ً .
هذه  حال الناس جميعا ً ، و خاصة أولئك الذين تعرضت جلودهم لأية نار فاحترقت في جانب منها أو جوانب في يوم من الأيام ... وهم معذورون في مشاعرهم تلك . فقد يطاق كل شيء إلا النار . و لهذه كانت النار هي العذاب الذي توعد الله بها الكفرة و الظلمة و المجرمين في الدار الآخرة ... و كانت جهنم (( نار الله الموقدة)) هي المثوى الأخير لأولئك جميعا ًً .
غير أن هناك نوعاً من النار قلـّما يفطن إليه الناس ... إنه جهنم الدنيا بلا منازع  و أين منه لهيب المواقد و الأفران ، و شرر الكهرباء و حمم البراكين ؟!!
و لا تعجب إذا قلت لك : إنه ( الصبر ) أو ( نار الصبر) !!
ميزة هذه النار أنها بلا لهب و بلا جمر و بلا حسيس ،  إنها لا تحرق جلدا ً  و لا تشوي لحما ً و لا تحول عظما ً إلى رماد...
و لكنها تفعل ما هو أشد من ذلك بكثير !!!
و ميزة هذه النار أنها لا تنال من مخلوقات الله جميعا ً سوى الإنسان . فلا سلطان لها على الجماد أو الشجر أو الوحش .
و ميزتها أنها لا يعجبها من الإنسان إلا ثلاثة مواضع : قلبه ، و كبده ، و أعصابه . فعلى هذه المواضع تسلط ألسنتها ، و تركز فحيحها ، و لا يستهويها مِن بقية جوارحه شيء !
و ميزتها أنها كالأشعة السينية ، تترك أثرها ، دون أن تمكنك من رؤيتها أو القبض على جمرها أو رمادها .
وميزتها أنها لا تؤثر على بني الإنسان جميعا ً بلا تمييز ، بل تخص ذوي الضمائر الحية  ، و المشاعر الرهيفة ، و القلوب المسكونة بالحب ، حب الخير و الحق و الجمال .أما المنافقون و الأغبياء و البلداء و الكافرون فلا يحسون بها .
فالمنافقون قلـّما يتعرضون لمواقف تقتضيهم معاناة الصبر .
فهم دائما ً في تقلب مع الظروف أو تهرب من المسؤوليات ، أو التململ من العهود .
و الأغبياء و البلداء لا يملكون الشعور الذي يهتز لأي حدث .
فمشاعرهم حيادية من كل الأحداث ، إن لم نقل إنهم (سعداء) ناعمون مع الأحداث حتى المزعج منها . فهم إخوان الجهالة الذين عناهم الشاعر بقوله : (و أخو الجهالةِ بالشقاوةِ يَـنعمُ ).
و الكافرون لا يؤمنون ابتداءً بشيء اسمه (( الصبر )) بل إنهم يعتبرونه – بحكم كفرهم و عقليتهم المادية الملحدة – نوعا ً من الذلة و الاستكانة ، و ضربا ً من الاستسلام الجبان لما يواجهه الإنسان من صعوبات الحياة ، أو يتعرض له من محن و شدائد . فإذا ما وضعتهم الأيام في الزاوية الحادة ، و عصرتهم أيما عصرة ، ضاقت بهم الحياة ، و ضاقت بهم أنفسهم ،و اعتراهم اليأس القاتل الذي لا يكون معه إلا الضجر و العربدة و الشتم و الصراخ ...و إلا ... فالانتحار .
و لعله من الضروري أن نتساءل الآن : ما الصبر ؟ ما تعريفه ، ما حقيقته ، ما فلسفته ؟
لم يسبق لي أن قرأت تعريفا ً للصبر . غير أن هذا لا يمنع من التماس طريق مناسبة إلى ذلك بقدر ما تواتي التجربة – على محدوديتها و تواضعها – و بقدر ما يواتي التأمل و الملاحظة على قلة نفوذهما – و بقدر ما  يوفق الله إليها ، و هو الذي من أسمائه الحسنى (( الصبور )) .
تعريفه :
الصبر طاقة من الاحتمال  خاصة  ، يواجه بها  بعض الناس ما يعتريهم من أرزاء الحياة ، أو يكرهون بها أنفسهم على فعل ما لا تكاد تطيقه ، ابتغاء إدراك معالي الأمور أو يكبحون بها شهواتهم من الولوغ في ما تجمح إليه من لذائذ الحياة الهابطة  التي تنزل بهم عن مستوى الإنسان إلى درك الحيوان.
خصائصه :
و هذه الطاقة ذاتية واعية هادفة .
• ذاتية : لأنها إشعاع أخضر يتوهج من ذات الإنسان الصابر ، يستولي على أعصابه و مشاعره فيهدهدها و يسكب عليها البرد و السلام .
• واعية : لأنها تفرق بين (( الشدة)) التي هي بعض معاني الصبر ، و (( الذلة )) التي هي بعض معاني الانهزام .
فالشدة هي القدرة على ضبط النفس في لحظات التحدي و الغضب، ترفعا ً عن موقف تافه ، أو التفافا ً على أمر لم يئن بعد أوان مواجهته و اقتحامه ... أو : هي التصرف تجاه الأحداث بعيدا ًَ عن ردود الأفعال الآنية الرعناء ، مع القدرة عليها .
بينما الذلة شيء آخر تماما ً . إنها التلاشي و الذوبان . و هي الانهيار و الاستسلام .
• هادفة : لأنها ليست اعتباطية أو عمياء . بل ترمي إلى دفع ضر أو ادخار أجر ماثلين في الذهن ،  حاضرين في البال سلفا ً .
منابعه :
و الصبر  لا ينطلق من فراغ ، و لا يصدر عن عدم . بل ينطلق من  ( مولد ) دائم الخفق ، سرمدي العطاء ، اسمه (القلب) . و لكن أي قلب ؟! إنه قلب المؤمن المضاء بنور الله، المطمئن لقضائه ، الراضي بقدره ، المعتقد بعظيم  أجره الذي وعد به الصابرين إيمانا به و احتسابا لأجره . و هيهات لغير المؤمنين أن يصبروا لِغِيـَرِ الدهر و حوادث الأيام !!
و الصبر لا يعتمد على ( الإرادة) القوية الفاعلة ، مثلما يعتمد على الإيمان القويم العميق . و من هنا نفهم قول النبي صلى الله عليه و سلم : (( و من يتصبـَّر يصبـّـرُهُ الله )) متفق عليه .
و التصبر ،  كما هو واضح – حمل النفس على الصبر ، و هذا لا يكون إلا بالإرادة . بل من هنا كانت الآيات القرآنية تترى بصيغة الأمر عندما تدعو إلى الصبر : (( يا بُـنيَّ أقم الصلاة و أمر بالمعروف و انه عن المنكر و اصبر على ما أصابك * إن ذلك من عزم الأمور )). (( واصبر و ما صبرك إلا بالله )) (( يا أيها الذين آمنوا اصبروا و صابروا و رابطوا و اتقوا الله لعلكم تفلحون )) .
فالمنبع الأول للصبر هو قلب المؤمن .و المنبع الثاني هو الإرادة الصلبة التي تكبح النفس و تلجمها عن الهوى و الاستجابة للمؤثرات فعلا ً و رد فعل .
و الحديث عن منابع الصبر يقودنا إلى التفريق بينه و بين ( الجَلَد) . ذلك أن الصبر شيء و الجَلـَـد الذي نجده عند بعض غير المؤمنين شيء آخر . قد يلتقيان في نقطة و لكنهما يختلفان في نقط .
أما نقطة الالتقاء في أن كلا ً منهما يعتمد على الإرادة ، أي على قدر كبير من ضبط النفس و قوة الشكيمة و متانة الأعصاب في مواجهة التحديات و الأعاصير ؟ و على هذا فقد تجد أحيانا ً جَـلـْـدا ً غير مؤمن ،  و مؤمنا ً غير جَـلد .
و أما نقاط الاختلاف فمنها :
أن الصبر مقترن بالإيمان لا ينفك عنه . بينما الجـَـلـَد ليس كذلك (( ربنا أفرغ علينا صبرا و توفنا مسلمين )) بهذا الدعاء القرآني يدعو المؤمن ربه ، و يستعين به على التحلي بالصبر. و الحديث الشريف يقول : (( عجبا ً لأمر المؤمن ، إن أمره كله له خير  ، و ليس ذلك لأحد إلا للمؤمن . إن أصابته سرّاء شكر فكان خيرا ً له ، و إن أصابته ضرّاء صبر فكان خيرا ًَ  له )) رواه مسلم.
و منها أن الباعث على الصبر هو الرغبة في الأجر و المثوبة من الله . هو (( الأمل )) الذي يبدأ في الأرض  ، و ينتهي  في السماء .بينما الباعث على الجلد هو ( العناد ) الذي يبدأ في الأرض و في الأرض ينتهي . فهتلر زعيم النازية كان جلدا ً ، يحركه العناد و حبُّ إثبات الذات ، فقامت سياسته مع أعدائه على الإحراق و الإغراق و الإفناء .... و لهذا فإنه عندما انكسرت جيوشه انتحر !!
و بعض الزعماء العرب المعاصرين عندما انكسر بكى و استبكى !! فلننظر إلى القادة المسلمين  في غزوة مؤتة تعاقب على راية القيادة قادة قتلوا على التتابع و انسحب جيشهم في إطار خطة خالدية بارعة ، غيرأن أحدا ً من القادة لم ينتحر و لم يتباك ، بل إن أحدهم نقل الراية من يده التي بـُـترت إلى التي لم تبتر بعد ، و بقي صابرا ً ثابتا ً في أرض المعركة لا يبرح . لماذا ؟ لأنه موصول الأمل بالسماء ... بالشهادة ..
بالله جل جلاله !!  لقد كان شعار الجميع و هم يقاتلون ، مقالة نبيهم محمد صلى الله عليه و سلم : (( إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ))
و منها أن الجلد محدود الغرض قصير النفس بينما الصبر متنوع الأغراض  ، مديد النفس . يتجلى ذلك في أن الجَلود يثبت في وجه الشدائد ، و يتحمل الصعوبات التي تواجهه شخصيا ً  لكنه إنسان نفعي ، سرعان ما يتهاوي أمام المغريات ، أو يسقط لدى يأسه من بلوغ الهدف الذي تجلد من أجله . بينما الصبور لا يثبت في وجه الشدائد فحسب ، بل يقاوم المغريات أيضا ً ، و لا يني عن تحصيل الفضائل مهما كلفه ذلك من بذل و عناء ، ثم إنه كلما لاح أن الهدف أبعد ، و أن اليأس صار أقرب ، استيقن أن الفرج صار وشيكا ً و أن النصر يكاد يقع في يديه : (( فإن مع العسر يسرا ً إن مع  العسر يسرا ً )) ((حتى إذا استيأس الرسل و ظنوا أنهم قد  كذبوا جاءهم نصرنا )) ذلك قوله تعالى . أما قول رسوله الكريم فنذكر منه : (( و اعلم أن النصر مع الصبر ، و أن الفرج مع الكرب  ، و أن مع العسر يسرا ً )) رواه أحمد .(( و لن يغلب عسرا ً يسرين )) .
و لتوضيح أمثلة من معتقلنا ، أقول : دارت علينا شهور السنة جميعا  ، و لم يحدث أن حاول أي واحد منا خدش نفسه و لو بظفر تعبيرا عن ضيقه أو ضجره ...  بينما حاول أكثر من شيوعي  ، و هم قبالتنا في أحد العنابر أن ينتحر بقرط  زجاجة المصباح و ابتلاع حطامها ، إضافة إلى أن واحدا من رفاقهم  (اليمينيين)  قد أصيب منذ أول شهر دخل فيه السجن بمرض نفسي أخرجه من دائرة العقلاء نهائيا ً ، و من ثم من دائرة المعتقل . بعد أن أمضى فيه زهاء سنة  ، و بعد أن استيقن المسؤولون أن لا جدوى من الإبقاء عليه سجينا ، و لا ضرر منه طليقا ً !!
علما بأنهم يلوذون بكل أنواع المغيبات ، و لا سيما الدخان ، فعنابرهم من كثرة التدخين تلوح لرائيها و كأنها مغارات مسكونة بالهباب و الضباب ، و بأشباح أسطورية .لكل شبح منها ثلاث مداخن ، مدخنة أفقية في فمه . و اثنتان شاقوليتان في أنفه !! في حين أن عنابرنا ليس فيه مدخن واحد من بين نزلائه الذين ما نقص عددهم عن الثلاثين .
و لتبيان نوع أغراض الصبر نذكر ما تواضع عليه علماء الدين من تفريعات و تقسيمات لأنواع الصبر . فقد قالوا : إن الصبر ثلاثة : صبر على الطاعة ، و صبر عند المصيبة ، و صبر عن المعصية .
و إذا ما تذكرنا أن ما يقابل ( الصبر ) عند المؤمن هو (الجَلـَد) عند الملحد ، فلنذكر أيضا أن الملاحدة ليس عندهم ابتداء  و بداهة شيء اسمه جلد على الطاعة  ، أو جلد عن المعصية . فالطاعة لله عز و جل غير واردة عندهم أصلا ، و المعاصي هي المباحات عندهم عُـرفا ! و قد كنت أسأل نفسي قبل محنة السجن- و قد أخرجنا الله منها بسلام غير خزايا و لا مفتونين – أي أنواع الصبر أقسى ؟ أي نيران الصبر أشد ؟ و كان الجواب يأتي – غالبا – بشكل متأرجح غير يقيني.
فمرة أتصور أن الصبر على الطاعة هو الأصعب ، و مرة أقول : لا ، إن الصبر عند المصيبة هو الأقسى ، و سرعان ما أغير رأيي فأزعم أن الصبر عن المعصية هو الأمـرّ .
و هكذا إلى أن شاء ربي و أكرمني بهذا الامتحان . عندئذ فقط استقر رأيي على أن الصبر عند المصيبة هو الأقسى و الأصعب و الأمرّ .
آنئذ فقط أدركت بأن هناك نوعا من النيران كنت أجهل وجوده إلى حد كبير ، و كأني فتحت عليه عيني لأول مرة في حياتي.
إنه ( نار الصبر ) هذه النار (( ليس لها لهب و لا جمر  و لا حسيس . النار التي لا تحرق جلدا ً ، و لا تشوي لحما ً ، و لا تحول عظما إلى رماد ، و لكنها تفعل ما هو أشد من ذلك بكثير ... النار التي لا يعجبها من الإنسان إلا ثلاثة مواضع : قلبه ، و كبده ، و أعصابه ، فيها تسكن ، و حولها تدوم و تحوم ) .
نعم إن الصبر نار لا يطيقها إلا من أعانه الله و صبـّـره . و لا سيما إذا كان صبرا على محنة ، على سجن فيه ظلم ، كل الظلم... و فيه القهر ... و فيه اغتيال الحرية ، و الحجب عن المال و الأهل و الولد ... و فيه العيش في المجهول ! تعرف تاريخ دخولك ، و لكن تاريخ انعتاقك يظل غيبا في الغيب ،
 لا يدري به إلا الله ... إنه كالأجل لا تدري متى يأتيك !!
و كثيرا ً ما يوسوس لك شيطانك فتقول : قد يأتي الأجل و لا يأتي الفرج ، و ما أقرب الأول مني و ما أبعد الأخير !!
و مرد ُّ هذه النار إلى طبيعة الصراع العنيف بين طرفين :
أولهما  النفس البشرية ، و آخرهما :التحديات التي تحيط بهذه النفس و تعركها باستمرار .  و من هذا الصراع العنيف تنقدح الشرارة التي تؤجج النار التي عرفناها ... نار الصبر .
و لا بأس من وقفة نوازن فيها بين طرفي الصراع هذا .
هنالك جدلية قائمة بين ذينك الطرفين : النفس البشرية ، و التحديات التي تواجهها . و هي شبيهة بجدلية الصحة و المرض في الجسم الإنساني ، فكلما كان الجسم سليما و الوقاية متوفرة ، كانت المناعة أشد ، و المرض مستبعداً .
و كلما ضعف الجسم و قلت رعايته هجم المرض المتربص دائما به ، و استأسد عليه ، و ما يزال كذلك حتى يجهز عليه كما يجهز الوحش الجائع على فريسته . و هكذا النفس البشرية محفوفة دائما بالتحديات و الضغوط . فكلما توفرت لها أسباب المناعة و الوقاية كانت أقوى شكيمة في مواجهة تلك التحديات، و أقدر على التصدي لها ، و رفض الانحناء لها .
و كلما غابت تلك الأسباب كانت النفس أضعف احتمالا ً ، و أكثر هوانا ً أمام الابتلاء و المحن و إذا كانت مناعة الجسم و قوته تتحصلان بالغذاء الجيد و الرياضة المناسبة و المنام الكافي و الهواء الصافي .... فإن مناعة النفس و قوتها تتحصلان بالإيمان العميق بالله تعالى ، و التسليم بقضائه و قدره ، و الاعتقاد بأن العقل البشري مهما أوتي من نفاذ البصيرة قاصر عن إدراك موقع الخير على وجه اليقين ((فعسى أن تكرهوا شيئا ً و يجعل الله فيه خيرا ً كثيرا ً ))
فما قد يتراءى له شرا ً قد يكون هو الخير المحض ، و ما قد يبدو له محنة قد يكون له منحة ، و لو كانت المرض العضال (.... فإن المصيبات بعض النعم ) .
و في أقل الاحتمالات فألا ً ، يجد المؤمن في المصيبة نوعا ً من ابتلاء الله له ، و اختياره إياه أيثبت أم ينكص ؟ أيعبد الله على حرف ، أم يعبده على أرض صلبة مستقرة ؟!
قال تعالى : (( و من الناس من يعبد الله على حرف . فإن أصابه خيرٌ اطمأن به  ، و إن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا و الآخرة . ذلك هو الخسران المبين )) – الحج ، الآية 10 –   و قال سبحانه  : (( و لنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم و  الصابرين و نبلو أخباركم )) – محمد الآية 31 -
و قال   أيضا ً : (( و لتبلون في أموالكم و أنفسكم ، و لتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم و من  الذين أشركوا أذى كثيرا ً . و إن تصبروا و تتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ))  - آل عمران الآية 186 .
فالمؤمن يثبت أمام المصيبة و لا ينكص ، يتماسك و لا ينهار ، يؤمل من بعدها الخير الكثير : رضوان الله و أجره العظيم الذي أعده للصابرين :  (( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ))  - الزمر الآية 10 – و يرجو من ورائها الفرج القريب و اليسر العتيد  : (( فإن مع العسر يسرا ً ، إن مع العسر يسرا ً ))  و لا فرق في هذا أن تكون المصيبة مرضا ً شديدا ً ، أو فقدا ً لحبيب ، أو خسارة لتجارة و مال ، أو سجناً أو عذابا ً في سبيله تعالى .
و غير المؤمن ينكص و لا يثبت ... ينهار و لا يتماسك .. يفقد عقله .. يخرج عن طوره .. و ربما انتحر ليخرج من دائرة الحياة و الأحياء .
و كما أن وهج الحُـمّـى يزداد لهيبه اشتعالا ً في الجسم كلما احتدم الصراع بين الكريات البيض و الجراثيم المرضية ، فكذلك الصبر تتأجج ناره في النفس و يزداد ضرامها كلما زاد الصراع  حدة بين النفس ذاتها ، و التحديات المحدقة بها .
و من الطريف أن كلا النارين تخبو  في النهاية أو تنعدم !!
ففي نار الحمى إما أن ينتصر الجسم ( القوي المنيع ) على المرض فترجع الحرارة طبيعية .  و إما أن ينتصر المرض على الجسم ( الضعيف  الهزيل ) فيموت صاحبه و تنعدم الحرارة العضوية كليا ً .
و في نار الصبر إما أن تنتصر النفس  ( بإيمانها و إرداتها )  على التحديات فتطمئن و تسكن ، و تزول حرارة الصراع ، و إما أن تجتاح التحديات تلك النفس الخوّارة ( التي لا إيمان لها و لا إرادة ) فتموت يأسا ً و انهيارا ً .. و يموت الصبر بذلك ، و تنطفئ ناره .
و بعد . فإذا كانت النيران كلها تحمل النفع و الضر معا ً . فنفعها فيما تنضجه من طعام ، و تولده من طاقة .. و ضرها فيما تزهقه من أنفس في الحروب ، أو تأتي عليه من بنيان في الحرائق ، أو تخلفه وراءها عند جنونها من خرائب . فإن  نار الصبر لا تحمل في طيـّاتها إلا النفع الخالص و الخير المحض:  نار الصبر نار هادئة ، و اعية  ، نفاذة . إنها لا تطهو طعاما ً ، و لكنها تطهو رجالا ً فتنضج منهم الفكر ، و تورثهم الطمأنينة ، و تمنحهم التوازن في النفس ، و القدرة على تحمل الشدائد ، و الاستعداد لخوض غمرات الحياة ،و اقتحام ظلماتها مهما احلولكت لياليها ، أو بدت دروبها عسيرة ، صعبة المرتقى و المنال !!
إنها تربي أجيالا على التحكم في أزمة النفس ، و امتلاك الإرادة و قوة التصميم ، فضلا عن أنها تسكب السكن في قلوبهم ، و العلو في هممهم .
و تمنحهم التوافق و التناغم مع الحياة بسرائها وضرائها ، فهم أبدا متفائلون .... و دائما مستبشرون راضون .
و لا تسلني عن نار ( الجزع ) ، و الجزع  نقيض الصبر ، فكما أن للصبر ناره فإن للجزع ناره ، هو الآخر . غير أن هذه النار ضُـرٌّ  كلها ، و ليس لها نفع على الإطلاق .
إنها نار خبيثة هائجة ، تفتك في ضحاياها فتكا ً ... تتركهم صرعى متناثرين على دروب الحياة .. لا حراك .. لا مقاومة.. لا أمل .. لا أعصاب . إنها نار تدع فرائسها ركاما ً من اليأس ، و أشلاء ً من السخط و التبرم بالحياة و الأحياء جميعا ً لدى أية أزمة . أو أدنى امتحان .
و من حقك علي َّ – يا أخي الكريم – أن تسألني بعد ذلك كله ، و بعد صبرك الطويل علي َّ : و لماذا كان غرام نار الصبر بثلاثة مواضع من الإنسان فقط : قلبه و كبده و أعصابه ؟ و ما الدليل على ذلك ؟!
في ظني أن الأمر من الوضوح في مكان كبير ، فالإنسان إنما يتلقى الصدمات – أول ما يتلقاها – بشعوره الإنساني ، و بحسه البشري . و ليس من شبكة تتلقى المشاعر و الأحاسيس سوى الأعصاب . فالأعصاب هي التي تتفاعل مع التحديات و تلتهب بها .
أما عن الكبد .. فذلك يسعفنا به أولئك الذين اكتووا بنار الشوق من المحبين . و نار الشوق الحبيس – يا صاحبي – نار الهجران و الصد هي من جنس نار الصبر ، إن لم تكن هي هي!!
فهذا أحد الشعراء المُـبتلين المحبين يتذكر أيام الحمى و هو يعيش في البعد و الفراق فيحس لذعا ً في كبده وتفننا ً فيها ، فيحتضنها و هو يقول :
و أذكر أيام الحمى ثم أنثني          على كبدي من خشية أن تصدَّعا
و  أما عن القلب ، فلذلك ما نلقاه جمرا ً يتلظى لدى شاعر كالمتنبي ، توالت عليه مصائب الأيام و أرزاؤها ، و لم تجد سوى فؤاده مرتعا ً خصبا ً فانهالت عليه بسهامها طعنا ً و تجريحا ً فيقول :
رماني الدَّهرُ  بالأرزاءِ حتى            فؤادي  في  غِشاء  من  نِبالِ
فصِرتُ إذا أصابتْـني سِهامٌ            تكسَّرَتِ النِصال على النِصالِ
فهنيئا لمن عافاه الله من كل أنواع النيران : نار الصبر بحيث لا يبتليه و لا يمتحنه ، و نار الجزع بحيث لا يجعله في عداد الخوّارين أو ضعاف الإيمان المارقين ، و نار الشوق و الآهات . و من كل نيران الدنيا و الآخرة .
__________________
* أديب سوري معتقل منذ عام 1979