الرئيسة \  تقارير  \  نظرة في نماذج العدالة الانتقالية ومعضلاتها

نظرة في نماذج العدالة الانتقالية ومعضلاتها

18.06.2025
مصطفى إبراهيم المصطفى



نظرة في نماذج العدالة الانتقالية ومعضلاتها
مصطفى إبراهيم المصطفى
سوريا تي في
الثلاثاء 17/6/2025
يُقال إن معركة الاستحواذ على السلطة أيسر من تشكيل الدولة وإقامة العدل بعد ذلك بالنسبة إلى النظام الجديد، فغالبًا ما تواجه الأنظمة الناشئة معضلة التغلب على موروث ضخم من الجرائم السابقة. ولم يكن من السهولة الوصول إلى إجابات شافية لمتطلبات العدالة في مرحلة انتقال السلطة، حيث تطفو على السطح قضايا جوهرية؛ أخلاقيًا وقانونيًا وسياسيًا.
وغالبًا ما تتنازع الرغبة الأخلاقية في معاقبة المذنب مع معطيات الواقع السياسي الذي يفرض إرساء دعائم الوحدة الوطنية. وتشير التجارب إلى ثلاث مقاربات عامة يمكن للنظام الجديد اختيار واحدة منها عند تسوية جرائم النظام السابق.
أولًا: القصاص العنيف
يُعدّ القصاص العنيف أحد سُبل تحقيق العدالة والإنصاف من الجرائم الشنيعة. حين يستولي الناس على السلطة في غمرة العواصف السياسية الهوجاء التي تعقب معاناة طويلة مع القمع والاستبداد، فإنهم ينتهزون الفرصة لمعاقبة الطغاة السابقين واجتثاث كل من يدّعي الحق في تَسَلّم زمام حكمهم الجديد. غالبًا ما ينظر الناس إلى الجزاء كمرحلة من مراحل التغيير الثوري، حيث تنتفض الجماهير الغاضبة لتزلزل أركان النظام القديم الذي أذاقها مرارة القهر والإجرام، ولتفرض عقوبات خارج نطاق القانون تطال لائحة طويلة من الآثام التي اقترفها رموزه في الماضي. وبذلك يُطيح الزعماء الجدد بالحرس القديم في النظام السابق.
يخدم العقاب الصارم مصالح سياسية بالغة الأهمية، تتمثل في القضاء على خصومهم السياسيين. إلى جانب ذلك، تُعدّ مرحلة الجزاء العنيف بمثابة تطهير عاطفي يمنح الناس شعورًا بقيام العدل، كما أن الرضا الشعبي الناجم عن رؤية الطغاة السابقين مغلوبين على أمرهم قد يُظلل النظام الجديد بشرعية واسعة. بيد أن الانتقام العنيف وسيلة مكلفة لتحقيق الرضا الشعبي، فالعنف يتحول – في أغلب الأحيان – إلى دوامة رهيبة تجرّ مزيدًا من أعمال العنف. وقد يُسبب العنف انقسامات حادة في المجتمع عوضًا عن توفير الشرعية، ولربما يُثير حمّام الدم المرافق للثورة اشمئزاز المواطنين الصالحين، فيعاني النظام الجديد من ضعف في الشرعية بعدما شكّل بارقة أمل لانتصار السلطة الأخلاقية.
تُقدّم العقيدة الديمقراطية حزمة من الأسس لاستخدامها في تقويم سلوك الدولة، فانتهاكات النظام السابق لحقوق الإنسان تستحق شجبًا شديد اللهجة، لكنها في الوقت ذاته تُقيّد سياسة الحكومة الجديدة لدى تعاملها مع آثام النظام السابق.
ثانيًا: نسيان الماضي
لتجنب دوامة الانتقام العنيف، يُعد نسيان الماضي حلًا مناسبًا لمجتمع خائر القوى، ولا سيما إن كان قد خرج لتوه من حالة حرب. يعتقد بعض الزعماء السياسيين أن النسيان هو السبيل لتحاشي الخلاف حول الماضي، ويساعد في الحفاظ على السلام الاجتماعي وإرساء دعائم الوحدة الوطنية. ولدى الزعماء السياسيين أيضًا حوافز قوية لمحو قضية الجرائم السابقة ونسيانها وشطبها من الأجندة السياسية؛ إن لم يكن ثمة خوف يُذكر من احتمال استعار نيران العنف نتيجة الخلاف حولها. من تلك الحوافز مثلًا: تجنب دفع مبالغ مالية طائلة تعويضًا لضحايا الجرائم السابقة. إلى جانب ذلك، يفيد النسيان في إزالة قضية عاطفية ومثيرة للجدل من على الأجندة السياسية المكتظة بأولويات خطيرة أخرى في مرحلة انتقال السلطة. مثلًا، على المستوى السوري، تُعدّ إزالة العقوبات عن سوريا وتصحيح علاقاتها مع محيطها الإقليمي والدولي أولوية قصوى.
في كثير من الحالات لا يدوم نسيان الماضي إلى الأبد، فغالبًا ما يظهر لاعبون جدد على مسرح السياسة – من جيل أصغر سنًا على الأرجح – ليطرحوا قضايا اعتُبرت من المحرمات فيما مضى. ومن مزايا التأجيل هنا أن طرح هذه القضايا الحساسة من قبل أشخاص ليس لهم صلة مباشرة بالجرائم قد يُسهّل إمكانية معالجتها بموضوعية بعيدًا عن الحساسيات الشخصية. من ناحية أخرى، كثيرًا ما سمعنا تحذيرات تؤكد أن من ينسى ماضيه سيُحكم عليه بتكراره. تلك ببساطة هي النظرية المعهودة التي تُسوّغ العقوبات الجنائية: العقوبة تردع الجريمة وتفصل المجرمين عن المجتمع وتحميه من أفعالهم مستقبلًا.
ثالثًا: سياسات الحق والعدل
تُقدّم العقيدة الديمقراطية حزمة من الأسس لاستخدامها في تقويم سلوك الدولة، فانتهاكات النظام السابق لحقوق الإنسان تستحق شجبًا شديد اللهجة، لكنها في الوقت ذاته تُقيّد سياسة الحكومة الجديدة لدى تعاملها مع آثام النظام السابق، فتحظر العقوبة خارج نطاق القانون وتدين العنف المخالف له. ولقد أبدعت الديمقراطيات الناشئة سياسات من شأنها إظهار الحق وإقامة العدل، وذلك بالتركيز على مزيج من الإنصاف المحدود بضوابط قانونية والاعتراف الرسمي بالحقيقة. تُبشّر سياسات الحق والعدل بأن تكون البديل لنقيضين لا يجتمعان: العقاب العنيف ونسيان الماضي. وهذا الحل ليس متكاملًا (إذ إنه أمر يتعذر تطبيقه بأي حال من الأحوال على أرض الواقع في عالم السياسة الذي لا يعرف الرحمة)، لكنه قابل للتطبيق من المنظور السياسي ومعقول أخلاقيًا.
1- الإنصاف القانوني:
مع دنوّ نهاية القرن العشرين، لم تكتفِ الدول التي نشأت بعد انهيار النظام الشيوعي بمحاكمة حفنة من الشخصيات البارزة لتكون كبش الفداء، بل تبنّت باقة متنوعة من استراتيجيات الإنصاف القانوني بهدف تحديد الملام في جرائم الدولة.
أ- المحاكمات – القانون الجنائي/الجاني:
تُعد المحاكمات الجنائية لمن استغل السلطة أو ارتكب انتهاكات شنيعة لحقوق الإنسان تحت مظلة النظام السابق من أبرز الأمثلة على الإنصاف القانوني. لكن محاكمات كهذه نادرة نسبيًا في طور الانتقال إلى الديمقراطية، نظرًا لما يترتب عليها من مشكلات سياسية وقانونية شائكة. مثلًا: من المسؤول الحقيقي في الهرم العسكري أو السياسي عن ارتكاب الجرائم السابقة؟ إلى جانب ذلك، يتمتع الجناة بأنماط جديدة من الحماية المدنية تضمن لهم الحق في محاكمة عادلة، كما يواجه الادعاء العام صعوبات في جمع الأدلة التي تُثبت وقوع جرم عفا عليه الزمان. من هنا، كان مستبعدًا نجاح الأنظمة الديمقراطية الناشئة التي تستخدم الإنصاف القانوني كوسيلة للمصالحة مع الماضي في تنظيم عدد كبير من المحاكمات الجنائية.
ب- التطهير – القانون المدني/الجاني:
يُصنف التطهير، أي تسريح الجاني من وظيفته أو تجريده من بعض حقوقه السياسية، ضمن أنماط الجزاء المخفف. ولما كان هذا الإجراء القانوني ينضوي تحت مظلة القانون المدني؛ تتدنى عتبة أدوات الحماية الإجرائية التي تُطبق عليه، فتقل بذلك تعقيداته القانونية مقارنة بالمحاكمات. لكنه، بالمقابل، قد يشعل سجالًا سياسيًا حاميًا إن طال حفنة من المسؤولين ذوي النفوذ.
تستخدم الدولة سلطتها لفضح جرائم النظام السابق، وتتخذ هذه السياسة أشكالًا شتّى: المساءلة النيابية، أو تشكيل لجنة تقصي الحقائق، أو فتح المحفوظات لأغراض الاستعمال الخاص والمهني.
ج- التعويض المادي – القانون المدني/الضحية:
قد يحدث أن يقرر النظام الجديد تعويض ضحايا النظام السابق (جبر الضرر). والتعويض هو استرداد شيء ما أو مستوى من الرفاهية ربما يتمتع به الفرد لو لم يتأثر سلبًا بظلم وقع عليه من قبل فرد آخر. تبخل بعض البلدان بالتعويض على الأفراد، في حين يمكن أن يصل السخاء في العطاء ببلدان أخرى إلى حدّ إحداث نقلة نوعية في مستوى رفاهية الفرد. لكن الصعوبة هنا تكمن في إيجاد آلية لتحديد فئات الأفراد التي تستحق التعويض فعلًا. فمع انقضاء ليل الاستبداد، يستطيع الشعب بغالبيته التظلّم، وبذلك يفقد التعويض العام معناه، كما أنه يستنزف الموارد الاقتصادية للبلاد.
د- إعادة التأهيل – القانون الجنائي/الضحية:
والمقصود هنا من اعتقلهم النظام السابق، ويندرج ضمن هذه الفئة نقض الأحكام الجنائية التي صدرت بحق الضحايا، أي إعادة تأهيلهم. إن إعادة تأهيل الأفراد بصورة تامة معناها تمكينهم من المطالبة بحقوقهم المدنية والسياسية كاملة. لكن هذه العملية لا تشمل أي نوع من العقوبات. وعلى الرغم من أن قيمة إعادة التأهيل رمزية في المقام الأول، إلا أنها توفر للضحية سجلًا عدليًا نظيفًا، هذا إلى جانب ارتباطها في بلدان كثيرة بالتعويض المادي.
2- المصارحة (البوح بالحقيقة):
تستخدم الدولة سلطتها لفضح جرائم النظام السابق، وتتخذ هذه السياسة أشكالًا شتّى: المساءلة النيابية، أو تشكيل لجنة تقصي الحقائق، أو فتح المحفوظات لأغراض الاستعمال الخاص والمهني. إن الكشف عن حقيقة الجرائم التي اقترفتها الدولة في الماضي بمثابة اعتراف من الحكومة الناشئة بحقوق الضحايا، ولربما مهّد ذلك لتقديم اعتذار رسمي من قبل الحكومة لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان.
مما سبق، يمكن القول: إن تطبيق العدالة الانتقالية مسألة غاية في التعقيد، كما أن الحكومات المحلية ليست حرة في تطبيق الأسلوب الذي تراه مناسبًا، إذ يخضع اتخاذ القرار في هذا الشأن لكثير من الاعتبارات الداخلية والخارجية.
ملاحظة: مادة المقال مأخوذة من كتاب معضلات العدالة الانتقالية لـ"نويل كالهون".