الرئيسة \  دراسات  \  نحو ثقافة حديثية ميسرة – 12

نحو ثقافة حديثية ميسرة – 12

16.04.2022
زهير سالم



زهير سالم*

علم الجرح والتعديل
التعديل...
ونبدأ بعلم التعديل لأنه الأصل، والجرح هو الطارئ. ورأيت أكثر كتب أهل العلم تركز على علم الجرح. مع أهمية علم التعديل في حقيقة الأمر.
ودائما يجب أن نركز على أن التعديل تعديل : "صلاح " وتعديل "ضبط" وأنه إذا انخرم أحدهما فقدت الأهلية لنقل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذه حقيقة مهمة جدا في حياتنا العملية اليومية، وفي طرائق تلقينا للعلم والفهم والموقف. تروى عبارة ملهمة موحية لعلها تفي بالمطلوب فهمه: يقول أحدهم "كنا نطلب دعاءهم ونرد حديثهم" بمعنى أن الصلاح الفردي حقيقة أو مظهرا، إذا لم يقترن بالضبط الاصطلاحي لا تكون عدالة. وكل الرموز التي ترمز إلى الصلاح- جبة وعمامة ولحية وسبحة ومنبر وعرندس وشهادة معهدية، لا تكفي للحكم بالعدالة. وكم نعايش في خريج المعهد الواحد من مصلح ومفسد؟ ومن عاقل وغافل، ومن معتدل وغالٍ..
هناك نوع من الغفلة والطيبة والسذاجة يشتمل عليها بعض الناس، يسمونها "غفلة الصالحين" الرجل الصالح ليس خبا بالتأكيد، ولكن ليس كل الصالحين لا يخدعهم الخبُّ، فتأمل هذا في حياتنا اليومية فإنه نفيس جدا. عمر وأمثال عمر هو الذي كان يقول بحق "لست بالخب ولا الخب يخدعني" وإلا فكم خدع أهل الخبابة حولنا من رجال!!
قلنا إن التعديل هو منح شهادة أهلية خاصة لرواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. والعدالة هذه من حيث الضبط تتعلق بحال الراوي في ثلاث مراحل، عند التحمل، وعند الأداء ، وفيما بينهما.
والعدالة عند التحمل: أن يكون الراوي ممن إذا سمع وعى.. وهو مطلب فيما نظن عزيز، وليس يسيرا إلا على من يسره الله عليه...!!
قال حكيم العرب: أيها الناس اسمعوا وعوا..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نضّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها. ضع ثلاثة خطوط تحت قوله صلى الله عليه وسلم "فوعاها"
عدالة الوعي أمر أشد ما نفتقده في هذا العصر، فتأمل ..
 لو أخذنا شريحة عشوائية، من عشرة رجال خارجين من خطبة جمعة، أو من محاضرة، أو إذا أعطينا مقالا لكل واحد منهم، ثم سألنا كل واحد من العشرة، ماذا سمعت؟؟ أو فهمت؟؟ أو قرأت، آنفا ؟؟ سيتبين لنا بدقة معنى عدالة التحمل!! سندرك كم هي رتبة عزيزة أن يكون الإنسان بحيث إذا سمع وعى، وهذا قسيم في عملية تعديل الراوي.
 الوعي بما يسمع الراوي، يتمثل في الفهم أو الاستيعاب، ثم الحفظ ثم استصحاب الذاكرة عندما يطلب منه أداء!!
قد نفجأ أنفسنا أننا إذا عرضنا مائة منا على هذا المعيار الدقيق كم سينجح منا فيه؟؟؟ كم الناس يعي بحق ماذا قال الخطيب أو المحاضر آنفا.. جربوا تعجبوا... واستعيذوا بالله من أصحاب الفهم المقلوب، ومن الذين يسمعون الكلام بنفوسهم أو بعصبيتهم...
كثير من يتخيل عملية التعديل تتعلق بالسلوك أو الأخلاق فقط، نعم شطرها يتعلق بذلك، والشطر الآخر يتعلق بالقدرة العقلية، فتمسك بهذا، واجعله معيارا في حياتك فيما تقبل وفيما تردّ
العدالة الضبطية عند التحمل تعني الإدراك العام لفحوى الكلام الذي قيل، ثم حفظه في القلب والذاكرة على مدى سنوات التحمل، ثم القدرة التامة على استحضاره كما سمعه، عند الأداء، استحضار ألفاظه كما سمعها، أو ربما يكون فيها تصرف يسير، لا يضر بالمعنى، وهو ما نلمسه في اختلاف الروايات.
فائدة: علماء اللغة والنحو لا يستشهدون بالحديث الشريف...
ويعللون ذلك، إن الحديث الشريف روي بشكل عام بمعناه. ويقولون: نحن جوهر عملنا على الألفاظ وليس على المعاني، ولما كان رواة الحديث قد ترخصوا في قبول المروي بالمعنى، فلم يعد لفظ الحديث ولا صيغته، مسعفة في تثبيت قواعد النحو ومعاجم اللغة. وهو رأي يدور حوله كثير من الحوار أو إذا شئت الجدل.
 ما زلنا في بحث العدالة، وأكدنا أولا في الإقرار بالعدالة أن يكون الراوي مع أمانته، قادرا على الوعي والحفظ والأداء، وكل ذلك تفقده في الراوي علماءُ الجرح والتعديل.
وقلنا إن العدالة العامة هي الأصل في المسلمين، وأكدنا أن ذلك لا يعني رواية كل من روى. ولذا فقد توقفوا في الرواية عن مجهول الحال، فالرجل إما أن يكون معروفا مشهورا بين الناس بأمانته وضبطه وتوازنه، وإما أن يكون مغمورا لا يعرف عنه أحد شيئا، فالمشهور بأمانة وصلاح وعقل وضبط تمر عدالته كأمر واقع، مالم يذكره أحد بسوء، وهذا سيدخل بنا إلى علم الجرح. وإما أن يكون مغمورا مستورا لا يعرف عنه أحد شيئا، فهذا الذي يسمى الراوي المجهول، الذي تحجب عنه شهادة العدالة، حتى يتم التبين والتبيين. فإذا لم يحصل التبيين تم تضعيف الحديث بوجود المجهول في رواته، إلا أن يسعفه شاهد أو متابع من المعروفين.
الجرح والتعديل: علم تقديري اجتهادي..
وهذا يجب أن يكون مستحضرا في كل مراحل السير في رحاب علم الرواية. علم الجرح والتعديل علم اجتهادي. وبالتالي تكثر فيه الآراء. وتختلف تقديرات الناس للناس. فرب أمر يعرفه رجل، ويغيب عن آخر، ورب أمر يستعظمه رجل ويستصغره آخر، وكذا تختلف تقديرات الناس تشددا أو تساهلا، ولا نستطيع أن نغفل ونحن نتحدث عن عملية الجرح والتعديل، عن تدخل العوامل غير الموضوعية، في قرار المحدث صاحب القرار أحيانا، فنحن في النهاية نتحدث عن بشر ...فيكون للاختلافات بشتى خلفياتها أثر في الحكم الاجتهادي لكل إنسان.
ولكن وما بعد ولكن هنا مهم جدا، يبقى العقل الجمعي أو القرار الجمعي لرجال الجرح والتعديل أقرب إلى الصواب والسداد بإذن الله. فقد استطاع المحدثون من رجال الجرح والتعديل أن ينفوا عن خلاصة أحكامهم البغي والحيف، وأشكالا من التشدد أو التساهل واللين عرفوا بها بعضهم فراعوها.
في علم التعديل يستخدم العلماء مصطلحات خاصة في توثيق الرواة فيصفون الراوي بالأوصاف التالية ومن الأعلى إلى الأدنى
مثل قولهم : أوثق الناس -أضبط الناس – اثبت الناس – لا نظير له وهكذا..
ويليه قولهم
حجة – ثقة ثقة- أو - ثبت ثقة – أو -ثبت ثبت- و ثقة – أو ثبت- أو- صالح الحديث-
ويليه قولهم: ثقة – ثبت – متقن –
ويليه قولهم صدوق – لا بأس به – مأمون - ..
ويليه قولهم: جيد الحديث – صالح الحديث – حسن الحديث
ويليه قولهم: لا بأس به – قريب من الصواب – أرجو أنه .. يُكتب حديثه
المهم أن نعرف أيضا مع معرفتنا أن هذه الأوصاف اجتهادية، أنها في الوقت نفسه مصطلحات تكاد تكون فردية، اختص كل محدث تقريبا ببعض وخصها بدلالة، وكل ذلك من العلم الذي يتداوله المحدثون بينهم.
أسأل الله لي ولكم مقام العدول الضابطين...
اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وعقولنا وذاكرتنا أبدا ما أحييتنا واجعله الوارث منا...

لندن: 13 / رمضان/ 1443
14 / 4/ 2022

____________
*مدير مركز الشرق العربي