الرئيسة \  دراسات  \  نحو ثقافة حديثية ميسرة – 11

نحو ثقافة حديثية ميسرة – 11

13.04.2022
زهير سالم



زهير سالم*

علم الجرح والتعديل ..مقدمة
وهو علم منيف نفيس، كان عليه العمل في قاعدة البيانات، أو في معاجم الرجال ، التي تحدثنا عنها في المقال السابق. يُصنف اسم الرجل ثم يصدر عليه حكم إيجابي أو سلبي، بحسب قواعد هذا العلم، وبحسب رأي العلماء فيه. فيقال فيه ثقة... أو ضعيف..
ولأهمية هذا العلم ونفاسته سنيسره في ثلاث مقالات، مقدمة، ومقال لعلم التعديل وقواعده، وأخرى لعلم الجرح وما يكون فيه.
في المقدمة التي أراها ضرورية جدا سنعالج بضعة قضايا في غاية الأهمية، منها ما يتعلق بالعدالة الأصلية، ومنها ما يتعلق في بغي بعض الناس في الاحتماء بمظلة الجرح والتعديل والنصح والتحذير. ثم مفهوم الوصف بالبدعة عند السلف الصالح رضي الله عنهم أجمعين.
في المقدمة الأولى نذكر أنه قد تقرر:
أن الأصل في المسلمين جميعا العدالة. العدالة العامة. وفي التصور الإسلامي : يولد الإنسان على الفطرة بريئا من كل ذنب وخطيئة. وتدوم معه براءته حتى يقوم هو بتلويثها.
وهذه القاعدة الشرعية والحقوقية أيضا. والتي نتلقاها الآن ونحن مسلّمون بها مرتاحون إليها.. هذه الحقيقة الشرعية والحقوقية كما قلنا تتناقض مع عقيدة مسيحية راسخة وثابتة عند معظم الكنائس وهي عقيدة "الخطيئة الأصلية" حيث تقرر تلك العقيدة "يولد الإنسان حاملا معه عبء خطيئة أبيه آدم" يولد آثما مستعدا للشر وللمعصية، ومندفعا إليهما. وصُلب المسيح حسب عقيدتهم، ليحمل عن البشر عبء الخطيئة الأولى، ويقدم للمؤمنين به، الخلاص على طبق من الإيمان.
في مأثورنا الإسلامي عديد من الروايات تؤكد على براءة الإنسان المطلقة بعبارة "خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" ولكن العقيدة المسيحية تؤكد أن الإنسان يخرج من بطن أمه حاملا للخطيئة الأولى، ويأتي سر العماد ليرفع عن الطفل إثم هذه الخطيئة، ويؤهله للخلاص المسيحي حسب اعتقادهم .
 نعود فنؤكد أن الأصل في المسلمين أنهم كلهم عدول، وحين نستعمل "والمسلمون عدول بعضهم على بعض" فنحن نستعمل عبارات قويمة صحيحة ولكنها غاية في العموم. نعم ثمة عدالة عامة مشتركة بين المسلمين، ولكن حين يتقدم المسلم إلى مقام الشهادة في الدماء أو في الحقوق، مثلا، سيكون من حق القاضي وأحيانا الخصم أن يبحث عن مدى أهلية الشاهد الخاصة والعامة. ومن هنا كنا نقرأ في كتب التاريخ والسير: فردّ شهادته. كان القاضي يرد شهادة الشاهد لأمر يراه فيه، ويجعله غير مؤهل للشهادة سواء عند التحمل أو عند الأداء.
والرواية عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم توازي نوعا من الشهادة، وكان الإمام القرافي في كتابه الفروق عقد فصلا في الفرق بين الراوي والشاهد أبدع فيه. وإذا كانت الرواية عن رسول الله توازي نوعا من الشهادة، فقد استحق أن يبحث العلماء بطريقة أكثر دقة عن مدى أهلية هذا الراوي من طرفي العدالة والضبط. إذن نحن أمام حالة من البحث عن مدى "تأهل الراوي" لأداء هذه المهمة الشرعية المقدسة. والحذر كل الحذر من الخلط بين العدالة العامة التي هي حق لكل مسلم مستور، بستر الله ، والذي لا يحق لأحد أن ينتهك عليه ستره إلا بشروط، وبين القول بالعدالة الخاصة التي تعني تأهل الراوي لحمل أمانة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاحفظ هذا فإنه مهم. إذن الحديث عن التعديل هو حديث عن مدى تأهل الراوي من طرفي العدالة والضبط للرواية عن سيدنا رسول الله.
والمقدمة الثانية التي لا بد لنا منها
أن لا يكون المطلب الشرعي في القول بالجرح والتعديل، أو بالتحذير من المبتدع، كما نصوا عليه في إباحة الغيبة، قنطرةً إلى الولوغ في أعراض الناس، غيبة وبهتانا، ويتجلبب مرتكبو هذه بجلباب الغيرة على الدين، والدفع عن الشريعة، فيأكلون لحوم الموتى من حيث لا يشعرون.

 في حياة المسلمين كبائر وآثام ماتت نكارتها في القلوب والعقول. وأصبح الوقوع فيها نوعا من البلوى العامة التي لا يكاد يسلم منها إنسان. ومن أهم هذه الكبائر الكذب والغيبة والبهتان والنميمة وسائر آفات اللسان. وكانوا يقولون : أسهل غيبة الصالحين قولهم: نسأل الله العفو والعافية. يعنون أن الرجل مدعي الصلاح ،إذا ذكر عنده الآخر، ويريد أن يترفع عن غيبته، قال: اللهم إنا نسألك العافية، أو اللهم ثبتنا على الإسلام ، أو لاحول ولا قوة إلا بالله. وكلها ألفاظ مشعرة بالتنقص وبذكر الآخرين بالسوء ..وهم لا يشعرون
لسنا في عصر الجرح والتعديل. فأمسكوا عن عباد الله، ووفروا غيرتكم المزعومة على دين الله، على خويّصة أنفسكم فاعملوا. وليس كل من قال قولا لا تبلغه عقولكم ولا أفهامكم عدوا لله. ولا مبتدعا يستحق التشويه..
والمقدمة الثالثة فيما قالوا في الرواية عن "المبتدع" ...
وكلمة "المبتدع" أصبحت من الكلمات الشائعة السائرة يتقاذف بها الناس، لأهون الأمر وأيسره. حتى يقول بعضهم لمن يصلي التراويح عشرين ركعة؛ مبتدع!! وما علموا أنها صليت عشرين ركعة في عهد سيدنا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وفي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبجوار حجرة أمنا عائشة التي روي عنها حديث "ما زاد رسول الله على إحدى عشر ركعة لا في رمضان ولا في غيره"!!
من المهم بين يدي حديثنا عن الجرح بالابتداع، أن نبين أن السلف الصالح، لم يكونوا يستعملون هذا اللفظ "البدعة والمبتدع" إلا فيما يخص أمور العقيدة الأساسية. وأشهر فرق المبتدعة التي كانوا يعنونها في عصرهم هي "المعطلة - المشبهة – المرجئة – القدرية ( نفاة القدر) – الغلاة من الخوارج الذين يستحلون الدماء والأعراض – ثم الروافض باختلاف مذاهبهم".
وبعض بدع هؤلاء تصل بهم إلى حد الكفر والعياذ بالله، وبعضهم تقع بهم دون ذلك، ولكل فريق من هؤلاء كان لعلماء الجرح والتعديل مواقف في القبول والرد. وربما يكون لنا عود لكل فرقة على انفراد.
المهم ونحن ندلف إلى علم الجرح والتعديل أن نفعل ذلك مستصحبين تقوى الله، لنعلم كيف بنى أولئك النقاد الجهابذة علم الإسناد الذي كان السلم الذي نرتقيه لدوحة السنة الشريفة.
لندن: 11 رمضان/ 1443
12/ 4/ 2022
____________
*مدير مركز الشرق العربي