الرئيسة \
تقارير \ من منطقة الهامش إلى مركز التنمية.. البادية السورية ومسارات إعادة الإعمار
من منطقة الهامش إلى مركز التنمية.. البادية السورية ومسارات إعادة الإعمار
28.06.2025
د. أحمد حج أسعد
من منطقة الهامش إلى مركز التنمية.. البادية السورية ومسارات إعادة الإعمار
د. أحمد حج أسعد
سوريا تي في
الخميس 26-6-2025
في ظل التحضيرات لإعادة الإعمار في سوريا، تبرز الحاجة إلى إعادة التفكير في أولويات التنمية الوطنية، ليس فقط على مستوى البنى التحتية، بل من حيث إعادة تعريف العلاقة بين الدولة ومجتمعاتها المحلية.
من هذا المنظور، تُمثّل البادية السورية اختبارًا مفصليًا لمستقبل الدولة السورية: فهل ستتجه نحو نموذج أكثر شمولًا وعدالة في إدارة مواردها وتوزيع فرص التنمية؟ أم أنها ستُعيد إنتاج منطق المركزية والإقصاء الذي أسهم تاريخيًا في هشاشة الأطراف وتمدد العنف؟
رغم أن البادية تشكل أكثر من نصف مساحة البلاد، إلا أنها بقيت خارج معادلة التنمية لعقود، واقتصر حضور الدولة فيها على الضبط الأمني أو المشاريع التنموية الفوقية التي تجاهلت الديناميات المحلية. أما اليوم، فإن إعادة دمج البادية ضمن رؤية وطنية عادلة تُعد ضرورة لإعادة التوازن الجغرافي للتنمية، وشرطًا أساسيًا لتحقيق الاستقرار الاجتماعي والسلم الأهلي المستدام.
ومع خروج سوريا من نيران أحد أعنف النزاعات في تاريخها الحديث، والذي أسهمت في تأجيجه السياسات المركزية المتبعة خلال العقود الماضية، تفرض البادية نفسها مجددًا على طاولة النقاش، ليس فقط بوصفها مجالًا جغرافيًا شهد تمدد تنظيم "داعش"، بل أيضًا كمؤشر على فشل النهج التنموي السابق، وفرصة كامنة في مسار بناء السلم الأهلي وتحقيق الاستقرار الاجتماعي.
يناقش هذا المقال كيف يمكن للبادية أن تتحول من هامشٍ مهمل إلى رافعة تنموية، ومن منطقة عبء أمني إلى منطقة تُبرز إمكانية إعادة صياغة العلاقة بين المركز والأطراف، وبين الدولة والمجتمع، في سياق إعادة بناء العقد الاجتماعي السوري.
أصبح تدخل الدولة والمجتمع الدولي معًا جزءًا من المشكلة بدل أن يكونا جزءًا من الحل.
المركزية السياسية على حساب النظم التقليدية
قبل خمسينيات القرن الماضي، كانت البادية تُدار وفق أعراف عشائرية متجذرة، من أهمها أنظمة الحِمى وتوزيع المياه والمراعي بين قاطنيها. فقد كانت نموذجًا بيئيًا متوازنًا يربط الإنسان ببيئته بشكل توافقي، ويضمن استدامة النظم الرعوية والزراعية. لكن هذا التوازن بدأ ينهار مع صعود دور السلطة السياسية في إدارة الموارد الطبيعية، متمثلًا بالإجراءات التي تم اتخاذها إبان الوحدة السورية-المصرية، ومن بعدها سيطرة حزب البعث على السلطة. وقد مثّل المرسوم التشريعي رقم 140 لعام 1970، الذي صنّف مساحات واسعة من البادية كأراضٍ للدولة، نقطة تحوّل حاسمة. أُنشئت تعاونيات رعوية ظاهريًا لإدارة الموارد، لكنها كانت في الواقع أدوات للضبط السياسي، تفتقر للكفاءة البيئية والاجتماعية، وتهمّشت فيها المعرفة المحلية لصالح البيروقراطية. وظهرت تحالفات جديدة بين نافذين في الدولة وبعض أبناء المنطقة، فتوسّعت الزراعة الجائرة على حساب المراعي. والنتيجة كانت تفكك منظومة الإدارة البيئية التقليدية، وتحول المراعي إلى نظام مفتوح دون ضوابط، مما أدى إلى تدهور بيئي خطير.
المقاربات التنموية الدولية: مركزية معولمة دون شراكة
في العقود الأخيرة، سعت منظمات دولية – كالصندوق الدولي للتنمية الزراعية (IFAD) – إلى إنعاش البادية عبر مشاريع لإعادة تأهيل المراعي وتطوير الثروة الحيوانية. لكن بقيت هذه المبادرات تدور في فلك الدولة المركزية، وتفتقر إلى الشراكة الحقيقية مع المجتمعات المحلية. فتغييب السكان عن تصميم وتنفيذ المشاريع، وتجاهل معارفهم العريقة، أسهم في تعزيز الفجوة بين الدولة والمجتمع. وبدل أن تكون هذه التدخلات جسرًا للتنمية، أصبحت امتدادًا لسياسات الإقصاء القديمة والتدهور البيئي.
ظل غياب الحوكمة التشاركية، والتضييق الأمني على نمط الحياة الرعوي، حاجزًا أمام تحقيق أهداف هذه المشاريع واستدامتها. وبذلك، أصبح تدخل الدولة والمجتمع الدولي معًا جزءًا من المشكلة بدل أن يكونا جزءًا من الحل.
كان الفراغ الذي استغله "داعش" هو فراغ اجتماعي وتنموي وسياسي، لا مجرد غياب عسكري.
"داعش" في البادية... صدى التهميش لا تجسيد الإيديولوجيا
مع تفكك مؤسسات الدولة خلال النزاع، عادت البيوت العشائرية لتلعب أدوارًا محلية في تنظيم الحياة اليومية، لكن ضعفها الناتج عن عقود من التهميش جعلها عاجزة عن ملء الفراغ في إدارة البادية. وفي ظل غياب البدائل، مرّ عناصر تنظيم "داعش" وتمددوا في بعض ثغراتها، دون مقاومة حقيقية من الأهالي. ليس بدافع التماهي الأيديولوجي أو الفقر أو الجهل، بل نتيجة مباشرة لتهميش ممنهج من المنظومة السياسية المركزية التي حكمت البلاد لعقود، كغياب التنمية وتفكك الهياكل المحلية. مما أفقد السكان أدوات الفعل المحلي لحماية البادية. في هذا السياق، ظهر تنظيم "داعش"، مستفيدًا من هشاشة البنية الاجتماعية والسياسية، ومن الشعور العميق بالإقصاء لدى السكان المحليين.
في جوهره، كان الفراغ الذي استغله "داعش" هو فراغ اجتماعي وتنموي وسياسي، لا مجرد غياب عسكري. فحين تُهمّش المجتمعات وتُجرد من أدواتها في إدارة بيئتها، تصبح أكثر هشاشة أمام الفوضى أو التطرّف.
البادية من جديد: من عبء أمني إلى رافعة للتنمية؟
اليوم، وبينما تتجه الأنظار إلى إعادة الإعمار، لا بد من إعادة النظر في موقع البادية ضمن الخريطة التنموية لسوريا. يجب الانتقال من منطق الضبط الأمني إلى منطق التنمية التشاركية، فالبادية ليست هامشًا، بل مركزًا محتملًا للتجديد البيئي والاقتصادي والاجتماعي. فالبادية جزء من الحل، لا من الأزمة. فخصوصيتها البيئية والاجتماعية، وتاريخها الطويل في التكيّف مع ظروف قاسية، يؤهلانها لتكون رافعة للسياسات التنموية المستدامة.
إعادة الاعتبار للقادة المحليين والعرف العشائري في إدارة الموارد – بعد تطويره ليتناسب مع الواقع – يمكن أن يعيد التوازن للعلاقة بين الإنسان والمورد. ليس بوصف هؤلاء القادة وحدات سياسية، بل كوسطاء ثقة وخبرة، يمكنهم لعب دور حيوي في إدارة الموارد بالشراكة مع الدولة، لا في مواجهتها. كما أن الاعتراف بحقوق الحيازة التقليدية وتوثيقها قانونيًا يمكن أن يعيد الثقة ويحفّز الاستثمار.
تكامل التنمية مع التكيّف المناخي
البادية لم تكن فقط ضحية لهيمنة الأنظمة السياسية السابقة، بل أيضًا للتغيرات المناخية المتسارعة. وأي رؤية تنموية لا تدمج البُعد البيئي – من الزراعة المقاومة للجفاف، إلى إدارة المياه وتقنيات التخزين، إلى تربية الماشية المستدامة – ستكون قاصرة. هذه الرؤية المناخية لا تكتمل دون تمكين الفئات الأكثر هشاشة: النساء، الشباب، الرحّل وشبه الرحّل، من خلال التعليم، التدريب، وبنية تحتية مرنة مصممة لاحتياجاتهم.
إن تجاهل البادية أو سوء إدارتها مرة أخرى لن يكون مجرد خطأ تنموي، بل سيكون خطأً سياسيًا، سيعيد إنتاج الهشاشة، ويُقوّض فرص السلم الأهلي.
البادية في قلب "سوريا الجديدة"
إن إعادة بناء سوريا لا تقتصر على المدن والمناطق الصناعية، بل تشمل أيضًا الأطراف التي لطالما جرى تهميشها أو إدارتها بمنطق الهيمنة السياسية الذي طبع النهج الحوكمي خلال العقود الماضية. إن دمج البادية في السياسات التنموية بشكل حقيقي، ليس فقط إنصافًا لمجتمعها، بل يمثل ضرورة وطنية لإعادة تشكيل العقد الاجتماعي السوري على أسس أكثر عدالة واستدامة، لتحقيق الاستقرار الدائم. إن تجاهل البادية أو سوء إدارتها مرة أخرى لن يكون مجرد خطأ تنموي، بل سيكون خطأً سياسيًا، سيعيد إنتاج الهشاشة، ويُقوّض فرص السلم الأهلي. أما إدماجها كشريك فاعل، فيفتح أفقًا لبناء "سوريا جديدة" لا تقتصر على مراكز المدن.
الخاتمة: البادية كرافعة لعقد اجتماعي جديد
تستند هذه الرؤية إلى قراءة نقدية للماضي وفرص تصحيحه. إن تمكين البادية لا يعني الانغلاق على الماضي، بل الاستفادة من الدروس لبناء مستقبل أكثر توازنًا. إن إدماج البادية في خطط الإعمار ضرورة وطنية، وفرصة لإعادة تشكيل العقد الاجتماعي السوري على أسس أكثر عدالة واستدامة، وللاحتضان الحقيقي للتنوع الجغرافي والاجتماعي في سوريا، بما يعيد رسم العلاقة بين الدولة ومواطنيها في الأطراف.