الرئيسة \  واحة اللقاء  \  ملاحظات أولية على الحملة التركية الثالثة

ملاحظات أولية على الحملة التركية الثالثة

17.10.2019
موفق نيربية



القدس العربي
الاربعاء 16/10/2019
كانت "ضربة معلم" من قبل أردوغان، يقول سونير كابتاغاي، رئيس برنامج البحث التركي في معهد واشنطن. فقد التقت رؤية الرئيس التركي في دخول سوريا مع رؤية ترامب في الخروج منها في لحظة واحدة. وجاءت هذه الكلمات في ردٍ على مراسلين صحافيين، الاثنين الماضي، حول الغزو العسكري التركي الجديد. معلق آخر قال إن إعلان ترامب كان ضغطاً على زناد الغزو التركي.
هذا أفضل من البحث المباشر في احتمال أن تلك المكالمة الهاتفية بين ترامب وأردوغان، كانت آخر توقيع على الأمر اليومي بالتدخل، أو من تصديق ذلك الشخص المجهول من مجلس الأمن القومي، الذي سمع طرفاً من تلك المكالمة، وأفاد لـ"نيوزويك" بأن ترامب كان يبدو وكأنه ضُبِط، وكذلك يبدو متداعياً. مع أن ما تلا ذلك اضطُر ترامب والبنتاغون مراراً لنفي احتمال أن الضوء الأخضر أُعطي للعملية العسكرية، التي كان إردوغان يتحفز لها منذ زمنٍ طويل. ولكن النفي المتكرر هذا انصبّ على عدم تأييد العملية، لا دعمها أو التدخل فيها، الأمر الذي يعني من دون شكٍ عدم معارضتها في النتيجة، إلا إذا تجاوزت حدوداً معينة غير معروفة، حتى الآن، مع أن تأكيد الحكومة التركية على نيّتها عدم تجاوز الثلاثين كيلومترا توحي بشيء من تلك الحدود، ربما يحتاج بعدُ إلى تحديد المسافة بالاتجاه العمودي على العمق.
منذ مطلع 2015، في ذروة نجاحات المعارضة المسلحة، بشكل هدد وجود النظام عملياً، الأمر الذي دفعه لسحب الكثير من قواته في شمال شرق سوريا إلى الداخل، وبالتوازي مع بداية عمل التحالف الدولي ضد "داعش" وبحثه عن حليف على الأرض؛ تفاقمت عنجهية حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، مستندة إلى انتصارات مشهودة ضد "داعش"، لا يقلل من أهميتها كونها تحققت بدعم جوهري من قوات التحالف. وكان ينبغي أخذ علاقة انتصارات قوات حماية الشعب (YPG) بتقدم المعارضة المشار إليه، لو توفرت النية والانسجام وبعض التواضع.
تمثلت تلك العنجهية بالموقف السلبي من القوى العربية والسكان والمعارضة، وبفتح مسارب للحوار مع النظام نكاية بخصومه، وبتأسيس نظام للحكم المحلي، يعتمد رؤية فيها شيء من الغرابة، تذكّر بالسوفييتات ومؤتمرات القذافي، مع ظهور ملامح شمولية واستبدادية في ممارسة السلطة وقمع الآخرين. وكذلك في سلوك تمييزي وعدواني واضح ضد العرب، كما حدث في السيطرة على تل أبيض، ثم عين عيسى، فالرقة في النهاية. وفي الوقت ذاته، كان إقصائياً وقمعياً نهجُ حزب الاتحاد وقوات حماية الشعب التابعة له مع القوى السياسية الكردية الأخرى، وخصوصاِ تلك المنضوية في المجلس الوطني الكردي، والمتحالفة في إطار ائتلاف المعارضة المتمركز في اسطنبول، حين شنّت القوات التركية حملتها الثانية تحت اسم عملية "غصن الزيتون" في عفرين (بعد الحملة الأولى درع الفرات بين إعزاز وجرابلس والباب)، ساهمت معها جماعات معارضة مسلحة أخرى، ثم تمّ إحلال لاجئين من مناطق سورية أخرى مكان النازحين الكرد. وتوانت قوى المجلس الوطني الكردي مع حلفائه من العرب المتضررين من نهج "قسد"، كما أصبح اسمها، عن الوقوف بشكلٍ أكثر موضوعية ومبدئية من ذلك التدخل وسياقاته العملية اللاحقة، وطغى الارتهان وقوة الأمر الواقع على الحكمة.
كما كان التدخل في عفرين حفراً لحدود جديدة بين السوريين، سيكون لعملية "نبع السلام" دور أكثر تشتيتاً للجسم السوري شعباً وأرضاً
لا يمكن فهم ما يجرى الآن من دون بعض العودة إلى الوراء، واسترجاع ذلك الدأب والإصرار العربي المعارض على تضييع الحدود بين الكرد عموماً وجماعة حزب الاتحاد الديمقراطي، فيما كانوا يحسبونه مرضياً وملبياً لحاجات التحالف مع الأتراك، وهو لا يعكس إلا ضعفاً وتعصّباً وانقياداً لدواعي الفرقة.
لم يكن هنالك من لا يسلّم بحق تركيا في حماية أمنها القومي، حتى من قبل قوات سوريا الديمقراطية. فحزب العمال الكردستاني خصم لدودٌ للحكومات التركية المتوالية، وهو مصنف بين قوى الإرهاب لدى العديد من الدول. ولا تخفى علاقة ذلك الحزب الجينية بحزب الاتحاد الديمقراطي، كما لا تخفى علاقة بعض الكرد السوريين بالحزب الكردي – التركي أساساً، واندراجهم في سلك مقاتليه وقواته العسكرية. وكانت قد ابتدأت بالظهور وممارسة الضغوط، دعوات متزايدة لفكّ الارتباط بين الحزبين بشكل حاسم، وعودة كل عناصر الحزب التركي إلى أماكن تمركزه خارج سوريا، بشكل متواقت مع الدعوة لخروج جميع المقاتلين الأجانب، مع أي طرف كانوا. تلك الدعوات كانت بدفع من تقارب كردي- عربي ابتدأت ملامحه بالظهور، ولو على بعض التحفظ والتردد. يعكس هذا إحساساً متزايداً لدى الطرفين بأهمية التفاعل، وواقعية وحدة سوريا الجغرافية، مع وجود مطالبات وآراء تفتش عن طريقة مثلى لتمثيل إرادة المكونات السورية المختلفة وحقوق الكرد القومية خصوصاً. ليس ذلك ما يظهر على الصورة الحالية، المزدحمة بآليات الحرب وأدواتها ورجالها، التي يبدو أنها ستأخذ وقتاً حتى تتبلور نتائجها وتوازناتها الجديدة، دولياً ولدى الأطراف المعنية، وعلى الأرض. تلك الأرض ستسقيها دماء جديدة، أغلبها من السوريين على الطرفين. وسوف يكون ذلك عاملاً جديداً مضافاً إلى حالة الانقسام والتفتت السورية، تلك التي ستجعل المستقبل أكثر قتامة واستعصاء على الحلّ.
فكما كان التدخل في عفرين حفراً لحدود جديدة بين السوريين، سوف يكون لعملية "نبع السلام" هذه دور أكثر تشتيتاً للجسم السوري شعباً وأرضاً. وقد تنبأ ترامب أيضاً بذلك، أو أفسح المجال للتنبؤ، حين قال في مطلع العام، ليبرر أول محاولة له لإخراج جنوده وإعادتهم إلى بلادهم لتحقيق وعده الانتخابي بهذا المجال: "لقد ضاعت سوريا منذ فترة طويلة، منذ فترة طويلة. وإلى جانب ذلك، نحن نتحدث عن رمال وموت. ذلك ما نتحدث عنه. نحن لا نتحدث عن ثروات طائلة. نتحدث عن رمال وموت". وفي تلك الصورة يمكن تلمّس معالم الحالة الراهنة، وما سوف يليها، وتحتها صورة بيلاطس يغسل يديه من دمنا.
ونقطتان أو ثلاث قبل فوات الوقت: ليس صحيحاً أن ترامب لم يعط الضوء الأخضر، رغم محاولته المسرحية لنفي ذلك، بطريقة ساخرة وعابثة: "لو قامت تركيا بأي شيء يمكن؛ كما ترى حكمتي العظيمة التي لا تُضاهى؛ أن يتجاوز الحدود، فسوف أدمّر كلياً اقتصادها وأمحوه وقد فعلت ذلك سابقاً". وليس صحيحاً أن التخطيط لإسكان مليون أو مليونين من اللاجئين في غير بيوتهم هو شيء مغاير للتغيير الديموغرافي، بل إن ذلك سيكون درساً تطبيقياً جديداً للهندسة الديموغرافية، بعد مئة عام من استحداثها وتجريبها.
وليس صحيحاً أن هذه الحرب ستعيد توحيد سوريا، وتكون المدخل للحل السياسي المنشود، كما يقول أردوغان! في حين أنه صحيح أن هذه الحرب قد فتحت وستفتح أبواباً جديدة لجهود ترميم شرعية الأسد، ومحاولة إحياء صلاحيته المنتهية من خلال إعادته إلى الحدود، مع الاتفاق بينه وبين "قسد"، بل أيضاً- وللسخرية- تعيد ترميم الجامعة العربية وتوحدها ضد "العدوان على السيادة السورية"، تلك السيادة نفسها التي أصبحت غربالاً، لكثرة خروقها.
ربما تساعد أخطاء ترامب وأردوغان والمعارضة السورية، وقبلهم أخطاء الكرد، من خلال الكارثة التي دشّنتها، على خلق توازن أقل قلقاً، وإمكانية بمواصفات مختلفة لحل سياسي.. وربما يكون ذلك أمل إبليس في النهاية!
كاتب سوري