الرئيسة \  قطوف وتأملات  \  مشاهد مفككة

مشاهد مفككة

12.09.2017
ابتسام شاكوش


               أدركوني أرجوكم ,موعد عرض الفيلم قد أزف , وأنا في حيرة من أمري , أدور حول نفسي ولا أهتدي , مات مخرج الفيلم وتركني في حيرة من أمري , من أين أبدأ ؟ أين أنتهي ؟ لست ادري , اختفى مخرج الفيلم واختفى النص الأساسي معه , أمامي مشاهد مفككة , مسجلة على أشرطة مغلفة من الأرقام , لا أعرف كيف أجمعها لأجعلها فيلماً مقنعاً يعرض على الشاشة هل تساعدونني ؟
     الشريط الأول :
       تظهر الكرة الأرضية مجسمة كما في المدارس , تقترب القارات من الكاميرا واحدة إثر واحدة , تدور الكرة حول نفسها , تتسارع حركتها حتى تتمازج الألوان وتختفي القارات , تظهر بعدها أرض واسعة تحوي بستاناً , البستان محاط بسياج وهمي لا يحميه من شيء . أشجاره اليانعة مثقلة بالفواكه الناضجة يقف مالكه في الزاوية , مصعراً خدّه , ناظراً إلى أرنبة أنفه كأنه فزاعة طيور , في الزاوية الأخرى يظهر الناطور , يروح ويجيء بخطوات قصيرة عصبية , داخل كوخه المصنوع من القصب , يهرش رأسه يفرك كفيه , يفرقع أصابعه , صامتاً لا يتكلم .
          في البعيد خلف  السياج , ثمة نعاج تتكوم تحت صهد الظهيرة , مطأطئة الرؤوس تستظل بظلّ بعضها البعض والراعي , راعيها , يقف مستنداً بمرفقيه إلى ظهر الحمار , يحتضن ذقنه براحتيه , وعقله غير بعيد , يرسم الخطط والمشاريع , الحمار لاه عنه , تغمر نصف وجهه عليقه ملأى بالشعير , الكون صامت والطبيعة المحترقة بنار الهاجرة تتأهب لحدث جلل , الحمار غير مبال بما كان ولا ما سيكون ,مهمته في الحياة يعرفها جيداً , ما عليه سوى السير أمام القطيع حتى يسمع أمرا بالتوقف , يتوقف بلا سؤال , لذلك ترونه يجرش حبات الشعير بين أضراسه الصلبة على مهل حتى غدا صوت المضغ خلفية موسيقية خشنة للمشهد كله .
          شريط آخر : الكلب ينام باسطاً ذراعيه قرب الحمار , يسمع هديراً فتنصب أذناه , يدنو الهدير , ثم يدنو , تظهر سيارة شحن صغيرة , جديدة لامعة , ينهض الكلب على قائمتيه الأماميتين خائفاً يقعي بذيله على الأرض , يتراجع إلى الخلف خطوة خطوتين , ثلاثا , تاركاً السيارة تمر حتى تتجاوزه , حين يأمن خطرها , يفتح فمه مزمجراً , يطلق نباحه ويركض خلفها , تفصله عنه مسافة أمان كافية , تتوقف السيارة , ينزل منها رجل منتفخ الصدر , يجر خلفه عباءة مقصبة يبدو أنه صاحب النعاج , يهرول الراعي لاستقباله, فيعطيه بعض الزاد والثياب , يلقي على القطيع نظرة رضا , ثم يبتعد بسيارته حتى يغيب خلف التلال .
ينتفض الراعي كمن أحس بلسعة , يفصل عددا من النعاج عن القطيع , يضربها بشدة , يسوقها إلى البستان في غفلة من المالك , والناطور الأغنام تمشي مستسلمة للعصا تعلو وتهبط فوق ظهورها الحليقة حتى تجتاز السياج يتبعها الراعي .
 
يلتقط الراعي بعض الثمار بسرعة , يضعها في جعبة أعدت لذلك , حين تمتلئ الجعبة يلتفت إلى الغنمات , يضربها بشدة ليعود بها إلى القطيع , وما برح نظره يراقب الناطور , ينتبه الناطور , يجري بسرعة نحو الراعي , يعلو صوت الراعي بالشتائم , يوجهها إلى النعاج متهماً إياها بالغدر , وسوء النية والطويّة .
    شريط آخر :
الغنمات تجري مطأطئة الرؤوس كعادتها تحت عصا الراعي , حتى إذا ما التحمت  بالقطيع دسّت رأسها بين الرؤوس المنكسة , لا يعنيها لماذا ضربت في طريق الذهاب أو طريق الإياب, وجلس الراعي في ظلّ حماره آمناً , يأكل ما سرقه من ثمار البستان متلذذاً, ويتحول الشريط بسرعة , يظهر الناطور وهو يعود إلى كوخه , حاملاً سلة من ثمار البستان , يخفيها بسرعة ويعود إلى مرصده , ثم تظهر صورة مالك البستان , كمثله في المرة الأولى , مصعراً خده , ناضراً إلى أرنبة أنفه , مبتسماً  بسرور خفي , فرحا بأشجاره  المثمرة وناطوره النشيط .
     شريط آخر :
         الراعي يدخل بعدد من أفراد الماشية في البستان , يلتقط الثمار ثم يضرب أغنامه في طريق العودة , هنا يهجم الناطور بشراشة , يقتطع لنفسه عددا من الرؤوس يسوقها إلى الزريبة ويعود الراعي ببقية الأغنام إلى القطيع ولكن ...... لا يبدو عليه الاستياء .
      الشريط الأخير :
  يخرج الناطور غنماته , الغنمات التي صارت غنماته من الزريبة , يتركها في البستان  تعيث به فساداً ويقف ليتفرج عليها ممتلئاً سعادة ونشوة .
هذا ما لذي فكيف أتصرف ؟ أرشدوني أرجوكم , لقد أخذ الموت مخرج الموت الفيلم وتركني ... انتظروا ها هنا شريط آخر , سأضعه في آلة العرض لأرى محتواه , انه شريط صامت فهل أراده المخرج هكذا ؟ أم أن الصوت مسجل  على شريط آخر ؟ لكم أن تحكموا بأنفسكم ..
  تظهر على الشاشة صورة الراعي والناطور , يبدو أن مفاوضة ما تدور بينهما , الوجهان غاضبان , الأيدي تعلو وتهبط في حركات انفعالية حادة , تدعمها أسارير الوجهين الأفواه تفتح وتغلق , فيما يشبه الصراخ أو الشتائم ...
وووووم  .....
تتجه الكاميرا إلى الكلب ,  الكلب يجلس على مبعدة , باسطا ذراعيه مغمض العينين يحلم بزريبة تبردها مكيفات الهواء , مليئة بذبائح جاهزة , يشير اليها فتأتيه طائعة تذوب في فمه ( كالصمغ قبل المضغ ) الكلب ينتبه للضجة يشقشق عينيه يرمش بجفنيه , يرى صراعاً لا يعنيه , يغمض عينيه ويعود لأحلامه , تعود الكاميرا إلى الرجلين , تتباطأ حركاتهما بالتدريج تنبسط أسارير الوجهين وينتهي المشهد   بمصافحة حارّة .
أدركوني أرجوكم , ساعدوني على ترتيب هذه المشاهد , ريثما أعثر على شريط جديد , قد تدور الكرة الأرضية عليه وقد لا تدور , قد تتوقف عند نقطة ما لتأخذ القارات شكلاً آخر لست أدري , لكنني في حيرة من أمري مشغول بترتيبها فالمخرج مات كما تعلمون والموعد و ....