الرئيسة \  واحة اللقاء  \  مرضى الأقليات أم أصحاء الأكثرية؟

مرضى الأقليات أم أصحاء الأكثرية؟

09.12.2018
جبر الشوفي


القدس العربي
السبت 8/12/2018
من قال – أيها السوريون – إني قليل بينكم؟ ولماذا؟ يكاد يخنقني الجواب، حين يحشرني حشراً في هذا الموقع الاعتباري (الطائفي) الضيق، رغماً عن إرادتي ومساري وإيماني وطبيعة ثقافتي القائمة على حفظ كرامة الإنسان، أي إنسان، بعيداً عن انتمائه لأي هوية محلية أو انحداره منها أو من غيرها، من دون أن تكون له يد فيها؟ علماً أنّ هذا الضغط المعنوي الثقافي، هو الذي ضاقت به جلود أجدادنا ففاضوا على أمكنتهم وخلّدوا أسماءهم في أزمنة، ربما لم يعد يشكل حاضرنا، الذي نتجرّع أزماته بعض امتداداتها ولا تداعياتها.
لو كانت المسألة شخصية لسكت، ولكنها مسألة وطن ومواطنة، فكيف أسكت عنها؟ وهل يحقّ لي ولأمثالي السكوت عن ذلك؟ أمام كم الأسئلة الجارحة، التي فتحتها حربنا السورية على واقعنا المعنّد، ثمة هاجس يقلقني ويقلق كثيرين من أبناء شعبنا السوري، ذكوراً وإناثاً، ومفاده: هل كنا نحن السوريين صانعي هذا البلاء ومروجيه، أقلية وأكثرية؟ أم كنا ضحاياه ولم نزل جاهزين لتقديم القرابين له، فكأننا لم نسعَ يوماً معاً، لنكون مواطنين مكتملي المواطنة، وأثبتنا أكثر من مرة وبالدليل الساطع، أننا لن نكون كذلك، إلا إذا غدت المواطنة ثقافة للمواطنين، يتساوى فيها الجميع في الحقوق والواجبات أمام الدستور (أبو القوانين) الذي هو عصارة عقل المجتمع الحيّ وتوافقاته الناظمة لشؤونه، والحصن الحصين لنا من أي اختلالات أمنية أو اصطدامات، لا تخرجنا من دائرة الجنون، وانفلات الغرائز والسعار المذهبي فحسب، بل هي وحدها الركيزة المتينة المادية والمعنوية للتنمية المتكاملة ومسار التقدم والتطور عامة؟
وتتفرع من هذه الأسئلة وغيرها أسئلة أبسط منها، ولكن إغفال الإجابة عنها يتركنا فرائس للعشوائية والشعبوية والفوضى، ونبدد طاقات شبابنا الهائلة والمبدعة، بعد أن حجزتها عصور الاستبداد والديكتاتوريات وما تهيئ له ظلامية، تعمل على اغتصاب الشريعة والشرعية وأهلهما، وعلى إخضاع البلاد والعباد للقطع مع مسار الحضارة والتطور والنكوص بهم إلى عصر الجواري والعبيد وشرعة السيف بالرقاب، وإعاقة تلاقح العقول وحرمانها من كل فكر تنويري، يقوم على جدلية الحرية/ المسؤولية ونظام الحريات وحقوق الإنسان.
ماذا يضير المواطنة والوطنية إن تعددت الطوائف والمذاهب، سواء كان أبناؤها يمارسون طقوسها وشعائرها أو يهملونها؟ وهل يتأثر عمل المواطن المهني أو الوظيفي أو دوره في إطار المشاركة الوطنية في الإعمار في السلم وفي الدفاع وقت الحرب عن وطنه وهويته؟ أولم يتساند السوريون بالسلاح والأكتاف واستشهدوا في حروبهم الوطنية، بعد أن وحدهم جرح النكبة والنكسة وكل مترادفات الهزيمة، التي وجدت في بلاغة اللغة العربية ألبسة تزيينية، تخفف من وقع الكلمة الصادمة؟ ومع ذلك لم يقل السوري للسوري: "الطريق إلى التحرير والاستقلال والبناء، لن يمرّ إلا على أجسادكم ولن يطهّر إلا بدمائكم؟ ولم يسبق لمبدع أن خصّ قومه أو طائفته بإبداعه، ولم تقتصر هواجسه وطموحه وخوفه وقلقه على جماعته كبيرة أو صغيرة، بل كان إبداعهم خاضعاً لمعيار التشارك الكوني بالإفادة والاستفادة، حيث أي صنعة أو أي إبداع، متى خرج من يد مبدعه صار ملكاً للجميع، وإلا لقال لنا مكتشفو الأدوية والأمراض: هذا العلاج وهذا الدواء ملكية خاصة لجماعتي وأتباع مذهبي أو لغتي، أو قال مكتشفوا دوران الأرض والجاذبية والنسبية وغيرهم ذلك أيضاً؟
حينما كنا نقول: إن قرار التغيير في سوريتنا بيد الأكثرية السنية، لم نكن نأخذ الأكثرية العددية وحدها بعين الاعتبار، ولم نكن نعني أنها كتلة مصمتة واحدة، بل نعتمد على قراءة موضوعية لتاريخ هذه الأكثرية في الاعتدال والبراغماتية، ودورها في بناء الدولة السورية الحديثة، وفي إعمار المدن والحواضر، وفي النشاط الاقتصادي والسياسي والثقافي العام، وعلى تجسيدها للتشارك مع جميع السوريين المختلفين بالعقيدة والشعائر والطقوس؛ فما بالنا اليوم ننقّب عن أمراض عميقة الجذور في بنية الطوائف الصغرى، وفي أزمة تفكيرها المنطوية على خوف غريزي من الأكثرية من دون مبرر، ونتحدث عن رغبة أكثرية في الاستفراد والإقصاء والتحكم بالجميع، علماً أن وقائع أرض الصراع السوري الشرسة والصادمة، لم تشر إلى هذا ولا إلى ذاك؛ وإذا استثنينا الجهاديين التكفريين الطارئين على المشهد السوري والمشرقي، الذين هم ذاهبون إلى ترسيخ رؤية خاصة لمذاهب إضافية ضيقة تخدم توجهاتهم. وبعيداً عن تلك المناخات الشعبوية المريضة التي طفت على فضاء الحدث السوري عامة، لم تتخذ المجتمعات الأهلية السورية أي تعبيرات سياسية تفتيتية وذات صبغة مذهبية، بل أكد الجميع على وحدة الكيان السوري والهوية السورية الجامعة.
صحيح أن السياسيين والإعلاميين تصدروا مشهد الصراع مع نظام الجرائم والفساد والدمار، ولكن الحقيقة تقول: إنّ المجتمعات الأهلية كل بطريقته وحسب ظروفه، هي التي تولت أشكال المواجهة مع النظام والفصائل والجميع، وهي التي دفعت أغلى الأثمان، وفاوضت وأوجدت الحلول من دون، أن تشكل أي مرجعية سياسية حقيقية، ولا انتقلت بالذات الطائفية (الطائفة بذاتها) إلى ذات طائفية سياسية (طائفة لذاتها)؛ لذا يبدو لي أن السياسيين والمثقفين السوريين خاصة، ما زالوا يتبادلون لعبة التغابي والتعالي عن نقد مسارنا وأفكارنا، وأن هذا الفراغ السديمي الذي يحصر المبدعين والإبداع وعقول العامة، في فراغ اليد من سبل العمل المنتج والإبداع ومن الانشغال بالشأن العام، ترك فضاء أكثر ملاءمة للفكر النكوصي والعبث والدوران في الفراغ واللاجدوى، ولمزاج عام، لم يرتقِ بوعيه إلى مرتبة الفكر النير والبصيرة والهمّ الوطني، وبعضه لم يجد دواء لعلته سوى عند أوصياء على عقله ودينه وموهبته ولسانه وقلمه، وهم يدفعون به نحو مزيد من الانكفاء وتعميق التفتيت والغربة الوطنية.
ثمّ متى كانت الحرية مفهوماً ذكورياً، يفسح فيه للرجل، أن يطبق رؤيته وحريته على المرأة فيحرمها من أبسط حقوقها، علماً أنه لا شرط على الحرية سوى المسؤولية، وهي بهذا حرية شخصية مسؤولة بقدر ما هي مستقلة، وهل ينهض مجتمع نصفه أسياد على أكتاف نصفه المستعبد، ولاسيما أننا في عصر تتقدم فيه المرأة، لتأخذ دورها الإنساني وتحلّ محلّ ندرة الرجال في الوطن السوري المقفر والمتصحر من شبابه، بعد أن ذهبت بهم الحرب والاعتقال أو دُفعوا إلى بلاد الغرب، لتستثمر طاقاتهم ومواهبهم، في حين يبقى المواطن السوري في حمى صراع وجودي مفتوح على المجهول؟ فهل سنظل غثاء ورغوة على وجه التاريخ المعاصر المندفع بقوة نحو توديع آخر قيمه الإنسانية الخيرة، وخارج نظمه الحرة الديمقراطية؟
*كاتب سوري