محددات التفاوض السوري مع "إسرائيل"
03.07.2025
محمد السكري
محددات التفاوض السوري مع "إسرائيل"
محمد السكري
سوريا تي في
الاربعاء 2/7/2025
في أيار، شكلت الإدارة الأميركية بقيادة الرئيس "دونالد ترمب" حدود المعادلة الجديدة تجاه الملف السوري في الشرق الأوسط، حيث ربطت بشكل صريح بين رفع العقوبات المفروضة على دمشق وبين انخراطها في مسار سلام مع إسرائيل ضمن إطار "الاتفاق الإبراهيمي".
هذا الربط لم يكن مجرد تلميح دبلوماسي، بل جاء كنوع من "الحث" الذي يفهم في معادلة التوزان "شرط" من أجل استعادة سوريا لمكانتها الإقليمية والدولية، في خطوة تعكس تحوّلاً في أولويات السياسة الأميركية تجاه الملف السوري، بحيث باتت بوابة التطبيع مع تل أبيب إحدى المفاتيح الأساسية لتبلور الدور السوري داخل الإقليم الجديد.
بينما جاء تصريح وزير الخارجية الأميركي، الذي أكد أن أي تخفيف للعقوبات لن يتحقق دون تهدئة مستدامة على جبهة الجولان، ليكرّس هذا التحول، معلنًا معادلة واضحة "لا رفع للعقوبات من دون سلام جنوبي مع إسرائيل". هذه المحددات تشكل إحدى أهم أشكال التحول السياسي تجاه الملف، وتعطي شكلاً لملامح التطورات الأخيرة فيما يتعلق بالانتقال من الصدام والاحتلال إلى التفاوض وإمكانية الانسحاب، وإعلاء شأن الدبلوماسية الناعمة على حساب القسرية.
اندفعت إسرائيل من أجل استغلال المكونات السورية أو ما يسمّى بالهويات الفرعية، كتكتيك أمني، ومنا هنا وظفت عامل الهوية وأزمتها السورية كمبرر للتدخل داخل الأراضي السورية.
توظيف الأمن كعامل للصراع الإقليمي
لم يتوقف الاستهداف الإسرائيلي ضد سوريا منذ سقوط نظام الأسد، حيث ارتفعت موجة الانخراط والتهديد العسكري للأراضي السورية، من خلال استمرار سياسة استهداف المواقع الاستراتيجية لما تبقى من ترسانة الجيش السوري، من أجل تفكيك شكل الدولة السورية.
وصل التوغل العسكري لأقصى حدوده إلى درجة الحدود الإدارية لمحافظة درعا، ونجم عن هذا التوغل استحداث مواقع عسكرية عديدة، ما عدا القدرة على المراقبة النارية التي باتت على بعد 23 كيلومتراً، من العاصمة السورية دمشق.
وقد أعلنت الحكومة الإسرائيلية عدم السماح لقوات الحكومة السورية بالانتشار جنوبي سوريا، مع المطالبة بأن تكون المنطقة الجنوبية منطقة منزوعة السلاح بشكل كامل. كما توغلت إسرائيل في عمق الأراضي السورية واحتلالها لجبل الشيخ وأجزاء كبيرة من محافظة القنيطرة السورية،
وقد خلق هذا التوغل سجالات كبيرة على المستوى الإقليمي، لا سيما مع تركيا التي اعتبرت أن هذا التوغل يعتبر تهديداً لأمنها القومي، في ظل وجود رغبة تركيا في إعادة رسم تموضعها داخل الحدود السورية، والرغبة بتوسيع الانتشار نحو وسط سوريا، الأمر الذي تعتبره كذلك إسرائيل تهديداً لأمنها.
لا يقتصر العبث الإسرائيلي في سوريا، فقط ضمن حدود احتلال الأراضي السوري، وإضعاف جهاز الدولة الأمنية، لأن الهدف الرئيسي لإسرائيل السيطرة على المنظومة الأمنية السورية والهيمنة على أي احتمال إعادة إنتاجها خلال السنوات القادمة، وهذا دفع تل أبيب للتركيز على المدخلات التي تساعد على ما يسمى "الأمننة" بهدف خلق مبررات للتدخل بالتركيز على الاستثمار في خلفية النظام السياسي السوري الجديد، وخلق تصورات حوله تعيق أي محاولات سورية من أجل إنتاج هوية وطنية جامعة، الذي تعتبره إسرائيل مهددا استراتيجيا لها، بكون العقلية السورية ومركبات الهوية الوطنية السورية تضع النضال السوري ضد الاحتلال في مقدمة تصورات الدولة وأسباب وجودها وظيفيًا.
اندفعت إسرائيل من أجل استغلال المكونات السورية أو ما يسمّى بالهويات الفرعية، كتكتيك أمني، ومنا هنا وظفت عامل الهوية وأزمتها السورية كمبرر للتدخل داخل الأراضي السورية، لاسيما في سياقي محافظات السويداء وجرمانا جنوبي سوريا، مستغلةً الظروف حداثة الجهاز الأمني السوري وإشكالياته من انتقاله فواعل من حالة اللادولة إلى الدولة الجديدة، وتعتبر إسرائيل أن القدرة السورية على إنتاج الدولة يعتبر أكبر تهديد لها.
سوريا، تحاول استيعاب الامتحان الإسرائيلي الذي يهدد مشروع الدولة السورية الجديدة بشكل واضح، من خلال إعادة تعريف أدوات المواجهة، وليس إعادة تعريف أدبيات الصراع، حيث تعمل دمشق على استغلال عودة تموضعها الجيوسياسي في المنطقة، وانخراطها في معسكر التنمية والاستقرار كجزء من الأمن الإقليمي الجديد، وذلك من أجل التأكيد على أن استهداف السيادة السورية من قبل إسرائيل يعني تقويض الجهود السورية المتكاملة مع الأمن الإقليمي الرؤية الأميركية الجديدة تجاه "الشرق الأوسط".
مصلحة سوريا تأتي على رأس الأولويات في التعامل مع القضايا الإقليمية.
الخيارات السورية: دوافع التفاوض وتهدئة مشروطة بالمكاسب المرحلية
اختارت سوريا العودة للمفاوضات مع الجانب الإسرائيلي بشكل غير مباشر، حيث أكد الرئيس "أحمد الشرع" بأن المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي غير مباشرة، وتتمحور حول العودة لاتفاقية فض الاشتباك العام 1974، حيث تتلخص الأهداف السورية من التفاوض في التالي:
انسحاب إسرائيل من المناطق الجديدة التي قامت باحتلالها مؤخراً، كشرط للعودة إلى التهدئة بين الجانبين، وإيقاف التهديد الإسرائيلي الذي يركز بدرجة أساسية على إسقاط مشروع الدولة السورية الجديدة، ما يساعد على التركيز على التنمية والاستقرار، بالتالي نزع ذريعة "الردع الوقائي".
تفهّم سوريا لموازين القوى، وفوارق الردع، ومكامن الدبلوماسية القسرية، والواقعية في التعامل مع الخطر الإسرائيلي على سوريا.
إيقاف العمليات العسكرية بما فيها الجوية داخل الأراضي السورية من قبل إسرائيل بشكل نهائي وعدم اختراق السيادة السورية.
العودة والتفاوض حول الجولان السوري المحتل، باعتباره ملفًا سيادياً لا يسقط بالتقادم، على أن يتم ذلك ضمن إطار قرارات الأمم المتحدة، وخصوصًا القرار 497، وبما ينسجم مع تطورات الوضع الإقليمي والدولي، وذلك ضمن مسار متمم للتطورات الأخيرة.
انخراط سوريا في المنظومة الأمنية الإقليمية الجديدة، من حيث المصير المشترك، وذلك بالتفاعل مع المسار العربي تجاه القضية الفلسطينية.
إعادة ترميم موقع سوريا التفاوضي ضمن المسار العربي، وذلك عبر إعادة تموضعها الجيوسياسي ولا سيما مع إخراجها من محور دول "الشر".
تحسين المسار الدستوري السوري، وذلك بنزع كافة مبررات التدخل الإسرائيلي في سوريا، إذ يشكل استمرار الاستهداف تقويضاً لجهود الحكومة السورية.
بالتالي تركّز تلك الأهداف على "الأمن مقابل إعادة البناء" وتعيد تعريف مواجهة سورية لإسرائيل ضمن شروط محلياتية سورية، أكثر من كونها إقليمية، وهو ينطبق بما عبر عنه السيد وزير الخارجية السوري "أسعد الشيباني" بالنسبة للحكومة السورية فإنّ مصلحة سوريا تأتي على رأس الأولويات في التعامل مع القضايا الإقليمية.
إخراج سوريا من تصنيف "محور الشر" الغربي، وهو تحول نوعي في العقيدة الأمنية الأميركية والأوروبية تجاه دمشق
تبلور الرؤية السورية: خطوات مدروسة نحو الأمن والاستقرار:
سعى الرئيس أحمد الشرع منذ سقوط نظام الأسد، التأكيد على السردية الوطنية السورية، والتي يلخصها بعدم الانخراط في أيّة حرب إقليمية، وعدم تصدير الثورة، واستعادة كيان الدولة كمفهوم على حساب الجماعات التي تزعزع الأمن الإقليمي، ويأتي الحوار مع إسرائيل من هذا المنطلق، حيث رسمت تلك التصريحات العقيدة الأمنية والسياسية للدولة السورية الجديدة، ويمكن لحظ تكامل الإجراءات السياسية مع تلك الرؤية من خلال الخطوات التي تقدم عليها سوريا، بما في ذلك مسار التفاوض الذي أخذ بعداً متطوراً وصل لحد التأكيد على المفاوضات.
أتى التأكيد الرسمي السوري، في سياق تطورات إقليمية كبيرة. لا سيما عقب انتهاء الحرب الإيرانية- الإسرائيلية، ومن ثم تأكيد الجانب الإسرائيلي وجود المفاوضات مع سوريا، بعدما كانت إسرائيل تصف الحكومة السورية بأنها "إرهابية" وتأكد على رفض التفاوض مع "هيئة تحرير الشام" خلال الثلاثة الأشهر الأولى عقب سقوط الأسد. وكانت أهمها تعود لوزير خارجية إسرائيل "جدعون ساعر" وذلك في 24 شباط عندما قال "إن الحكومة السورية هي جماعة جهادية قادمة من إدلب". وأكد على ضرورة مكافحتها.
لكن التحول في الموقف الإسرائيلي أتى ضمن سياق التطورات الكبيرة في الشرق الأوسط، سواء داخل حدود الملف السوري أو خارجه ويمكن تلخيص تلك التطورات بالتالي:
شكّلت تفاهمات باكو حول "قواعد الاشتباك" بين تركيا وإسرائيل، والتي جرت بوساطة أذربيجانية في أوائل عام 2025، بدايةً لدبلوماسية "المسار الثاني " (Second Track Diplomacy)، وأسهمت في توفير مظلة سياسية لبلورة تفاهمات أمنية علنية لاحقة بين دمشق وتل أبيب.
ربط الإدارة الأميركية بقيادة ترمب رفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا بمسار التطبيع التدريجي، حيث اعتبرت واشنطن أن دمج سوريا في بنية الاستقرار الإقليمي لا يمكن أن يتم دون ضمان تهدئة على الجبهة الجنوبية مع إسرائيل، وهو ما أفرز لأول مرة منذ سنوات ربطاً واضحاً بين ملف العقوبات والملف التفاوضي.
إخراج سوريا من تصنيف "محور الشر" الغربي، وهو تحول نوعي في العقيدة الأمنية الأميركية والأوروبية تجاه دمشق، إذ لم تعد سوريا تُعرّف كدولة مارقة أو معرقلة، بل كطرف محتمل في معادلات الأمن الإقليمي، الأمر الذي فتح الباب لإعادة تموضعها السياسي على المستوى الدولي، دون الحاجة للانخراط في تحالفات صدامية.
تبني دمشق موقفًا متوازنًا ومحايدًا من الحرب الإيرانية -الإسرائيلية الأخيرة، حيث امتنعت عن إصدار أي موقف سياسي داعم أو رافض لأي طرف، ورفضت تحويل أراضيها إلى ساحة اشتباك بالوكالة، ما منح سوريا هوية جيوسياسية مستقلة، وفصلها فعليًا عن مظلة "جيوبوليتك المقاومة" التقليدية، لصالح سردية سيادية خاصة تتجاوز الاصطفافات الإقليمية التقليدية.
إعادة موضعة الجولان كملف قانوني طويل المدى فلم يتحدث الرئيس الشرع عن "تحرير شامل" بل عن "تفاوض ممتد" على قاعدة القرار 497 والشرعية الدولية، ما يعكس تغيراً في اللغة الرسمية نحو استراتيجية النفس الطويل، ولا يمثل ذلك تخل بقدر خلق فرصة في لحظة توازن مستقبلية ممكنة.
خاتمة
تتقدم سوريا نحو التفاوض مع إسرائيل لا بوصفها طرفاً يُساوم على التنازل عن السردية التاريخية لنشأة الدولة السورية والموقف من دولة الاحتلال، بل انطلاقاً من واقع جديد ينطلق من ضرورة تحييد سوريا من صراع محتمل قد ينهي مشروع الدولة، تستند المقاربة السورية إلى نزع مبررات الأمننة، والانفتاح المحكوم بشروط سياسية وطنية سورية صارمة بما فيها قضية الجولان وبمكاسب تتعلق بالقنيطرة. وتعيد سوريا تعريف أدواتها لا استراتيجيها النهائية تجاه القضية، كما تفعل إسرائيل، فكما هناك حاجة سوريا من أجل التهدئة لا تقل الحاجة الإسرائيلية لها، لا سيما عقب حربها مع إيران التي وصفها الرئيس ترمب بأنها حرب خاسرة لكل من إيران وإسرائيل، ومن هنا تتبلور الرؤية السورية بالخروج من معادلات الاستنزاف نحو معادلة التنمية، واستغلال ظروف الإقليم الجديد بشكل يحقق المصلحة السورية، بأدوات أكثر نجاعة وفعالية وبراغماتية، سوريا تسعى لتعريف أدوات المواجهة، وليس إعادة تعريف أدبيات الصراع.