مجلس الأعيان السوري وتغييبُ الشعب
03.07.2025
رانيا مصطفى
مجلس الأعيان السوري وتغييبُ الشعب
رانيا مصطفى
العربي الجديد
الاربعاء 2/7/2025
يغيب الشعب السوري عن المشاركة السياسية في كلّ ما تقرّرُه السلطات الحاكمة، وتسود سياسة التعيين في كلِّ المؤسسات التي تمثّل المجتمع المدني، والمفترض أن تكون ديمقراطية، كالمجالس المحلية، حيث يمكن إجراء انتخاباتٍ في مناطق كثيرة، وإن تعثّرت في بعضها، والاتحادات والنقابات المهنية، حيث كان من الممكن أن تشرف تلك المجالس المعيَّنة على تسيير انتخاباتٍ جديدة خلال مدة قصيرة. كذلك هو حال المؤسّسة التشريعية، أي مجلس الشعب حسب ما ورد اسمُه في نصِّ الإعلان الدستوري، تعبيراً عن أنه التمثيل الممكن للشعب في المرحلة الانتقالية. لكن المعوّقات أمام حصول انتخابات تشريعية كبيرةٌ، حيث لا قانون للأحزاب ينظِّم الحياة السياسية، ويحتاج السجل المدني إلى إعادة هيكلة وتجميع، وحلّ مشكلة النزوح في الداخل والخارج، ووضع قانون انتخابي جديد. وهذا يجعل من الضرورة البحث عن آلية لسدّ الفراغ التشريعي في السلطة، من أجل إضفاء شرعية على القرارات الكبرى، خصوصاً السيادية منها، مثل اقتراح القوانين وإقرارها، وإلغاء قوانين سابقة، والمصادقة على المعاهدات الدولية، وإقرار الموازنة العامة للدولة، وإقرار العفو العام وغير ذلك.
عُيِّنت اللجنة العليا لاختيار أعضاء مجلس الشعب بمرسوم رئاسي، وبدأت نشاطَها في تشكيل هيئات فرعية ناخبة مهمّتُها اختيار ثلثي أعضاء المجلس، فيما يعيّن الرئيس الثلث المتبقّي بحجّة ضمان التمثيل العادل والكفاءة، حسب ما ورد في نصِّ الإعلان الدستوري. ففي دمشق جرى اختيار أعضاء الهيئة الفرعية في كلّ حي، بما يتناسب مع العدد التقريبي للسكان، وبالتعاون مع المجالس المحلية المعيَّنة في الأحياء، على أن توافق المحافظة على الأعضاء المختارين، وتم الاختيار بناء على السمعة الحسنة، وأن يكون من حاضنة الثورة، ومن الأعيان، مع تفضيلٍ لأصحاب الشهادات الجامعية؛ وعلى هؤلاء أن يختاروا، أو ينتخبوا، ممثليهم من الأعيان والمثقفين، كما ورد في نصّ المرسوم الرئاسي الذي عيّن اللجنة. يبدو للمتابع أن هناك محاولة من السلطة أن يحظى أعضاء الهيئات التي ستختار ثلثي المجلس برضىً شعبي واضح، يمنح شرعية لقررات السلطة، وباسم الشعب. لكنّ اختيار ممثلين من الوجهاء ليقوموا بعملية انتخاب، ونيابةً عن الشعب، لأعضاء المجلس الذين ستزكّيهم المحافظة، لا يقود إلى تمثيل سياسي حقيقي للشعب. قد يصلح اختيار الأعيان والتكنوقراط في المجالس المحلية، لكنّ العمل البرلماني يحتاج توافقات وتحالفات حزبية أو بين مستقلين، على برامج انتخابية؛ وهذا يعني فتح حوارات سياسية حول تلك البرامج، ونقاشُها مع الجمهور على وسائل الإعلام الرسمي و"السوشيال ميديا". هذا مفقود؛ ففي دار الأوبرا، اجتمعت الهيئات المختارة عن دمشق، ومُنِعَ النقاش والحوار، إذ طُلب من الحاضرين إدخال "كودٍ" إلى هواتفهم المحمولة للوصول إلى تطبيق الكتروني مخصّص لطرح الأسئلة والمداخلات، ومن ثمّ يطرحها أحد المنسّقين بالنيابة عن أصحابها، وقد يغيّر صيغتها أو يلغيها إذا كانت لا تتناسب مع سياسات السلطة.
بالأصل، لم يرد ذكر مفردة "الديمقراطية" لا في الإعلان الدستوري ولا على لسان الرئيس أحمد الشرع ومسؤولي الإدارة. وإذا كانت الديمقراطية، بوصفها أداةً وظيفية لاختيار ممثلي الشعب، غير ممكنةٍ في الوقت الراهن، إلا أن البديل عنها العمل بجوهرها؛ وجوهر الديمقراطية فتح حوار سياسي واسع، وبغير ذلك يصبح مجلس الشعب مجلساً للمصادقة على كل ما تريده السلطة. لا تريد السلطة مشاركة شعبية حقيقية. ينظر هؤلاء إلى أنفسهم بوصفهم جماعة سيطرت على الدولة، وتسعى إلى السيطرة على كل مفاصل الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبالتالي هم يروْن المجتمع جماعات ومكوّنات بهويات ما قبل وطنية، دينية وعشائرية ومناطقية وبهويات قومية وإثنية. وبالتالي، يريدون أن يكون العمل السياسي انطلاقاً من هذه التمثيلات الجماعاتية، والتي يسهل السيطرة عليها بوعيها التقليدي وجعلها تمثيلاتٍ مهادنة للسلطة، ربما عن حسن نية، في غياب الوعي السياسي، وقنوات الحوار المشكِّلة لهذا الوعي.
قاد غياب المسار الديمقراطي إلى حالة عجزٍ وضياع البوصلة للشعب، ممثلاً بطبقاته الاجتماعية، وللنخب السياسية والناشطة
كان البديل عن مجلس "الأعيان" هذا مؤتمر وطني عام مفتوحٌ للقوى السياسية الحزبية والمستقلين، وأن تعطى له صلاحيّات تشريعية في المرحلة الانتقالية، وأن يعمل بشفافية على وسائل الإعلام، وأن يخضع للرقابة الشعبية، وفق قوانين إجرائية أو نظام داخلي متَّفق عليه وقابل للتعديل، وأن يكون من مهامّه التوافق على عقد اجتماعي وتشكيل لجنة تعدّ الدستور الدائم، ووضع قانون للأحزاب وآخر انتخابي والإشراف على الانتخابات التشريعية في نهاية المرحلة الانتقالية، لمفترض ألا تطول إلى خمس سنوات؛ وهذا المسار كان سيفتح على إعادة تشكيل الحياة السياسية في سورية، وعلى أساس الحوارات والبرامج، وليس على أساس التوافق على الشخصيات والأعيان. ليس الانتقال الديمقراطي هدفاً للسلطة، وليس لمجلس الشعب هذا صلاحيات فعلية، فهو خاضع للسلطة وفق الإعلان الدستوري، حيث السلطة التنفيذية ممثلة بالرئيس والوزراء هي فوق المساءلة. كما يشترط أن يكون ثلثا أعضاء المجلس المنتخبين من الهيئات المعينة مستقلين، ولا يُسمح بمشاركة الكتل الحزبية. بينما سيختار الشرع الثلث الأخير، والمتوقّع أن يكونوا من الدوائر المقرَّبة من هيئة تحرير الشام، أو منها نفسها، من العاملين في ظلّ الأمانة العامة للشؤون السياسية، وهذا يجعل السلطة/ الجماعة مشارِكة في المجلس ككتلة سياسية ممثلة للأمانة العامة، وبوصف الأخيرة قائدة للدولة والمجتمع، وقد حلّت محلّ حزب البعث البائد.
قاد غياب المسار الديمقراطي إلى حالة عجزٍ وضياع البوصلة للشعب، ممثلاً بطبقاته الاجتماعية، وللنخب السياسية والناشطة؛ ومجيء سلطة الجماعة/ هيئة تحرير الشام بوصفها فصيلاً عسكرياً هو أقوى الضعفاء، في بلد مقسّم جغرافياً، لتحلّ محلّ نظام الأسد المنهار، هو تعقيدٌ كبير للمشهد السياسي، يضاف إليه غياب الخبرة السياسية للسوريين، حيث إيديولوجية الأحزاب القديمة، وبرامجُها، كانت تعمل لإسقاط نظام الأسد، أو معارضته، وتطرح البدائل الديمقراطية عناوين، وهي تحتاج إعادة النظر في آليات عملها القديمة، كما أنَّ حجم هذا الارتباك يصعّب مسألة تشكّل تيارات سياسية جديدة. وعي طبيعة المرحلة هو الأساس لاستعادة الفضاء السياسي السوري، وعدم الوقوع في فخّ سياسات لسلطة لضبط هذا الفضاء وفق إيقاعها. وأزعم إننا لم ندخل في المرحلة الانتقالية، لأن سياسات السلطة تؤسّس لاستمرار الصراع، بوصفها حكماً لفصيل عسكري، بوجه إسلامي وطائفي، وسيأخذ هذا الصراع مساراتٍ بعضُها طائفي، وبعضها الآخر تنازعٌ داخلي على الحصص ومغانم الدولة السورية.