الرئيسة \  تقارير  \  ماذا يعني السلام مع سوريا والجولان في العقل الإسرائيلي؟

ماذا يعني السلام مع سوريا والجولان في العقل الإسرائيلي؟

03.07.2025
صبا ياسر مدور



ماذا يعني السلام مع سوريا والجولان في العقل الإسرائيلي؟
صبا ياسر مدور
المدن
الاربعاء 2/7/2025
مرت خمس سنوات على توقيع اتفاقيات أبراهام من دون انضمام أي دولة عربية جديدة. فقد زادت الحرب الإسرائيلية على غزة من تعقيد هذا المسار. لكن في المقابل أيضاً، أضفت التحولات الإقليمية التي أضعفت "محور المقاومة"، وبشكل رئيسي حزب الله في لبنان، وسقوط النظام السوري، إلى إعادة رسم معالم شرق أوسط جديد، تغيرت فيه موازين القوى، وتبدلت فيه الفواعل والفرص، مما جعل أي اتفاق تطبيع جديد يحمل مصالح وأثماناً مختلفة، ويخضع لشروط وسياقات مغايرة تماماً عن سابقتها.
ورغم هذه التحولات، ينظر الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى أي تطبيع بين دولة عربية وإسرائيل بوصفه إنجازاً دبلوماسياً يحتسب له، ينبغي تحقيقه بأي ثمن، بغض النظر عن التنازلات أو المكاسب التي قد يُقدم عليها طرفا الاتفاق. إلا أن إسرائيل لا تتعامل مع كل دولة عربية بالمنطق ذاته. إذ تحكم موقفها محددات استراتيجية ترتبط بثقل الدولة المطبِّعة وموقعها ضمن معادلات الأمن الإقليمي وخريطة النفوذ. فبينما مكّنها التطبيع مع الإمارات والبحرين من تحقيق مكاسب اقتصادية واختراقات سياسية، عبر تحييد عدد من الدول الخليجية عن مركزية الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، فإن أي مسار تطبيعي مع سوريا يتجاوز تلك المكتسبات التقليدية. فالعلاقة مع سوريا تعد تحولاً استثنائياً في البيئة الأمنية، كون دمشق واحدة من دول الطوق الاستراتيجي المحيط بإسرائيل، وكذلك في المخيال الإسرائيلي عن سوريا الدولة المعادية.
جاء التصور الإسرائيلي لسوريا بوصفها تهديداً أمنياً دائماً، من خلال فرضيتين مركزيتين، أولاهما حرص نظام الأسد على مبدأ التكافؤ الاستراتيجي من خلال امتلاك ترسانة كيميائية توازي الردع النووي الإسرائيلي، ثم بتجاوز هذا المبدأ عبر محاولة بناء مفاعل نووي بمساعدة كوريا الشمالية، حسبما ادعت إسرائيل. فقامت بتدميره في غارة جوية عام 2007. وبغض النظر أن هذه الأصول كانت فعلياً لحفظ استقرار النظام إقليمياً لا لمواجهة إسرائيل، إلا أنها لعبت دوراً في تشكيل القوة السورية. أما الفرضية الثانية، فترتكز على قناعة راسخة في العقل الأمني الإسرائيلي، مفادها أن أي نظام ذي هوية إسلامية سيكون بحكم التكوين الأيديولوجي معادياً لإسرائيل وساعياً إلى تقويض أمنها.
وللمفارقة، تعد سوريا شريكاً مرغوباً فيه لإبرام اتفاق سلام من جانب كل من إسرائيل والولايات المتحدة، بل التفاوض معها له أولوية عن التفاوض في المسار الفلسطيني، بما يعرف بـ"أولوية المسار السوري"، لتحييد قدرتها على إشعال وبث الفوضى في المنطقة. وفي سبيل ذلك، استندت جولات التفاوض إلى قاعدة "الأرض مقابل السلام"، أي انسحاب إسرائيل من الجولان مقابل توقيع اتفاق سلام شامل. كان هذا التصور قائماً على قناعة بأن اتفاقاً كهذا سيسهم بإخراج الفاعلين المرتبطين بسوريا ولبنان من معادلة الصراع العربي- الإسرائيلي، وفك ارتباط الأسد عن إيران. في حين رأى حافظ الأسد آنذاك أن الجولات مع واشنطن واسترضاءها سيؤمن انتقالاً سلساً للسلطة لبشار، وكذلك تعزيزاً لشرعيته.
غير أن المتغيرات الإقليمية العميقة بعد هجوم 7 أكتوبر2023، أضعفت اندفاع إسرائيل نحو خيار التسوية مع سوريا. فقد تمكنت إسرائيل بوسائل عسكرية من تحقيق معظم ما كانت تأمله من التفاوض، من دون الحاجة لتقديم ثمن بحجم الجولان. في السياق ذاته، ساهم موقف سوريا الجديدة بأنها لا تمثل أي تهديد لإسرائيل أو لأي دولة في المنطقة، في تعزيز الموقف الإسرائيلي المتشدد. فقد رأت تل أبيب أن غياب "الخطر السوري التقليدي"، يسقط مبررات تقديم تنازلات جوهرية، وأعلنت صراحة رفضها لأي انسحاب أو تفاوض بشأن الجولان تحت أي ظرف أو مسمى.
إلى جانب التبدلات في بيئة التفاوض وشروطه، ثمة عوامل بنيوية تمنع إقدام إسرائيل على الانسحاب من الجولان، رغم إبداء استعدادها لذلك في التزام رابين. إذ يمنح الجولان إسرائيل عمقاً استراتيجياً في قيمته العسكرية بجغرافيته النوعية، حيث يبقي دمشق على مسافة 35 كيلومتراً فقط من انتشار الجيش الإسرائيلي، بينما يُبعد أي تهديد سوري محتمل عن تل أبيب لما يقارب 250 كيلومتراً. كما تتيح تضاريسه المرتفعة قدرات إنذار مبكر، وتوفر نقاطاً حيوية للمراقبة والتحذير. هذا ما يدركه نتنياهو في جولة التفاوض الحالية، وهو الذي صرح عام 1994 بأن التنازل عن المواقع العسكرية في الجولان سيمنح سوريا خيارات هجومية لم تملكها من قبل. هذا، بالإضافة لبعد حيوي آخر، يتمثل في موارد الجولان الطبيعية، إذ توفر هذه الهضبة 40% من المياه العذبة التي تعتمد عليها إسرائيل، وبالتالي فهو أهم من أي مكاسب قد تحققها إسرائيل كافتتاح سفارة سورية في تل أبيب.
لكن رغم ذلك، ترى إسرائيل ضرورة إبرام اتفاق مع سوريا الجديدة، حيث تدرك أن توقيت المحادثات سيشكل ضغطاً على السلطة السورية الجديدة في سعيها للتقارب مع واشنطن، وفي إطار تسريع عملية التعافي وإعادة الاندماج في المجتمع الدولي. وبالتالي، ترى إسرائيل فرصة لممارسة أقصى ضغط دبلوماسي وشروط تفاوضية لضمان مصالحها الاستراتيجية، لاسيما مع تزايد النفوذ التركي في سوريا والمنطقة.
بالإضافة أنه ثمة تقارير أمنية إسرائيلية ترى في إن إضعاف السلطة الحالية لن يؤدي إلى تعزيز جبهة اسرائيل، بل على العكس، قد يفضي إلى تمكين إيران وميليشياتها داخل الأراضي السورية وإعطائها الشرعية بمواجهة اسرائيل. ولذلك، ترى إسرائيل أن الحفاظ والتحالف مع سلطة قادرة - ولو بالحد الأدنى- والتوافق معها، سيسهم في ضبط الأمن واحتواء الفصائل الراديكالية التي تمثل هاجساً إسرائيلياً. وهذا ما يشكل ورقة في يد المفاوض السوري.
في ظل هذا التوازن الدقيق والحرج، تمتلك السلطة السورية فرصة لتبني موقف تفاوضي لا يقوم على الضعف، بل على قاعدة الضمانات الأمنية المتبادلة، من دون الانزلاق المبكر إلى نقاشات حول الجولان. إذ يمكن لسوريا أن تبقي على تحفظها إزاء الغموض المقصود في تعريف "مرتفعات الجولان" سواء بحدود 1923 أو 1967، والاكتفاء بجعل ملف التفاوض في مرحلته الأولى محصوراً في الشق الأمني، مقابل انسحاب إسرائيلي من "خطوط ما بعد 8 ديسمبر". هذا التوجه في العقل السوري، سبق أن استخدمه الرئيس حافظ الأسد في تكتيك النفس الطويل، حين جعل من عملية التفاوض ذاتها غاية وليس مجرد وسيلة. واعتمد قاعدة شهيرة في المسار التفاوضي "عمق الانسحاب يعكس عمق السلام". واليوم، وبعد حرب مدمرة، تبدو هذه القاعدة قابلة لإعادة التوظيف، إذ لا تزال سوريا، رغم التحولات الجذرية تحتفظ بمقومات تهديد استراتيجي، وإن اختلفت الأدوات والسياقات، تجعل من التفاوض معها، لا عليها، خياراً عقلانياً تفرضه حسابات الردع.