الرئيسة \  واحة اللقاء  \  مأساة إيران والعرب وملهاة ترمب

مأساة إيران والعرب وملهاة ترمب

23.05.2019
حسان الأسود


سوريا تي في
الاربعاء 22/5/2019
يبدو الرئيس الأميركي دونالد ترمب أكثر رؤساء أميركا إثارة للجدل حتى الآن، فأساليبه في إدارة شؤون الدولة مختلفة كثيراً عمّن سبقوه من رؤساء، وهي تتميّز في كثير من الأحيان بالانفعالية والفردية والفجاجة. لقد ساهم هذا الرئيس بقسم لا بأس به من التعقيدات الراهنة في الشرق الأوسط من خلال مواقفه المنحازة كلّياً لإسرائيل من جهة، ومن خلال قراراته المتناقضة فيما يخصّ المنطقة مثل تلك التي تتعلّق بالانسحاب من شمال شرق سوريا من جهة أخرى.
تبدو منطقة الشرق الأوسط هذه الأيام وخاصّة منطقة الخليج العربي منها وكأنّها على صفيح ساخن، ويعود السبب في ذلك إلى الوضع الأكثر تأزّماً بين الإدارة الأميركية ونظام الملالي الإيراني، ولا شكّ بأن وصول الرئيس ترمب إلى السلطة قد فاقم كثيراً من حدّة الخلافات بين البلدين.
تتوزّع التحليلات عن مآلات هذه الأزمة بين رغائبيّ يتمنّى وقوع حرب لا تبقي ولا تذر تقتلع نظام الملالي من جذوره، وآخر بنفس الدرجة ولكن في الاتجاه المعاكس ممن ينتمون لمعسكر إيران وأذرعها في المنطقة، وبين تشكيكيّ يرى استحالة وقوع هذه الحرب منطلقاً من اعتبار الطرفين خصوماً في العلن حلفاء في السر، وثالث يحاول التقاط شذرات الحقائق من بين هذا الكم الهائل من الضجيج علّه يصل إلى تحليل موضوعي مقنع.
أغلب الظن أنّ الحرب لن تقع بين الطرفين، ليس لعجز الولايات المتحدة عن شنّها، إطلاقاً، بل لأن مبرراتها بالنسبة إليها غير متوفرة حتى الآن. لقد أعلن الرئيس الأميركي عن غايته من كل هذه العقوبات المفروضة على إيران، وهو إرغامها على الجلوس مجدداً إلى طاولة المفاوضات لتعديل الاتفاق النووي، كما إنّه لم يُخْفِ انتقاده لاتصال الإيرانيين بوزير الخارجيّة الأسبق جون كيري بدلاً من الاتصال به، يضاف إلى ذلك كلّه امتعاضه من التصعيد في حدّة المواقف والتصريحات التي يقوم بها مستشاره للأمن القومي جون بولتون، وقد انتقد موقفه من الأزمة في فنزويلا قبل ذلك.
يضافُ إلى ذلك كلّه الخوف من تأثير أي حرب على نتائج الانتخابات الرئاسيّة القادمة والتي اقتربت مواعيد التحضير لها عند الحزبين المتنافسين. كما أنّ ترمب لا يريد أن يخلّ بوعوده للناخبين قبل هذه الانتخابات، فأهم وعوده كانت تحقيق نموّ اقتصادي أكبر وإعادة الشركات والمصانع للعمل في أميركا وتقليص الحروب الخارجية وضغط الإنفاق على غير أمن أميركا. إنّه رجل أعمال أكثر منه سياسي، ومن صفات رأس المال أنّه جبان يسعى إلى الربح مهما كانت السبل ويبتعد عن الخسارة قدر المستطاع، لذلك سينجز ما يريده دون أن يطلق رصاصة واحدة.
العلاقة بين إيران وأميركا كانت على الدوام ملتبسة ومحفوفة بالأسرار والخفايا
لا شكّ بأن الإدارة الأميركية لا تريد منافسين لها في الخليج العربي وخاصّة بالقرب من مصدر الطاقة الرئيس في العالم، لكنها بالمقابل هي وحلفاؤها الأوربيون من رعوا قدوم نظام الملالي إلى سدّة الحكم في طهران، وهي بالتأكيد رابحة من علاقة المد والجزر بينها وبينه. إنّ العلاقة بين إيران وأميركا كانت على الدوام ملتبسة ومحفوفة بالأسرار والخفايا، وفي هذا السياق يمكننا أن نستذكر حوادث كثيرة متناقضة في خلفياتها لكنها متّحدة في دلالاتها.
لقد كانت أزمة اقتحام السفارة الأميركية واحتجاز الرهائن الأميركيين فيها لفترة طويلة ردّة فعل على قبول أميركا معالجة الشاه الإيراني الهارب في مستشفياتها، حيث قامت وقتها مجموعة من الطلاب الإسلاميين في إيران باحتجاز 52 أميركياً من سكان السفارة كرهائن لمدة 444 يوماً من 4 تشرين الأول 1979 حتى 20 كانون الثاني 1981، وتوصف هذه الأزمة بأنها بداية العلاقة المتوترة بين البلدين والتي على إثرها بدأت أميركا باستخدام سلاح العقوبات على إيران.
رغم ذلك، كانت أميركا تزوّد إيران بالأسلحة أثناء حربها مع العراق فيما عرف آنذاك بفضيحة إيران كونترا أو إيران غيت، وكان من نتائج الصفقة تزويد إيران عبر إسرائيل بكميات كبيرة من الأسلحة النوعية مقابل إفراج الأخيرة عن خمسة رهائن أميركيين في لبنان. تأتي بعد ذلك عمليات التعاون الكبيرة بينهما إثر حربي الخليج الأولى والثانية، ومن تجلياتها فتح المجال الجوي الإيراني للطيران الأميركي أثناء حربها على العراق. كذلك كانت العلاقات على خير ما يرام أثناء حرب أفغانستان، ولا شكّ بأنّ أجهزة المخابرات الأميركية تعلم بأدقّ التفاصيل أماكن إقامة قادة تنظيم القاعدة وتحركاتهم ومعسكرات تدريبهم الموجودة على الأراضي الإيرانية، وهذا مما يزيد من غموض العلاقة بين الطرفين.
من دلالات هذه العلاقة الملتبسة ما يرجّح احتماليات الوصول إلى تفاهمات رغم كل التصعيد الذي نراه الآن على الساحة، فليست الأوضاع الدولية كما كانت عليه عند غزو العراق وليست توازنات القوى كما كانت آنذاك، إضافة إلى أنّ حالة النشوة التي رافقت أميركا والمعسكر الغربي إثر سقوط الاتحاد السوفيتي قد تلاشت تدريجياً خاصّة بعد تعثّر مشاريع احتلال الدول التي قامت بها أميركا ومعها بريطانيا في العراق وأفغانستان، يضاف إلى ذلك أن المنافس الروسي عاد للمزاحمة على الساحة الدولية، وقد كانت سوريا حقل التجارب الذي بدأ فيه باستعراض قواه.
مما يرجح احتماليات التفاوض أيضاً، تعامل النظام الإيراني بطريقة الشد والجذب والتصعيد والمهادنة، فثمة فريقان في إيران يقودان هذا الصراع، فريق الصقور الذين يمثلهم الحرس الثوري الإيراني، وفريق الحمائم الذين يمثلهم رئيس الجمهورية حسن روحاني ووزير خارجيته جواد ظريف، وكلاهما ينفّذ سياسة واحدة يرسمها المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي.
إنّ الوضع الداخلي في إيران لا يسمح للنظام بالتشدّد أكثر ولا يعطيه هامشاً أكبر من المناورات، لقد بلغ الفقر حدّاً لم يعد بالإمكان إخفاؤه ولا معالجته، كما أن التضخّم يرتفع بمعدّلات جنونية جرّاء العقوبات الأميركية، وهذا سيؤدي إلى حلقة مفرغة من التردّي الاقتصادي، فلن يكون بالإمكان استيراد المواد الأولية اللازمة للصناعة ولا المعدات والأجهزة والآلات بالدولار الأميركي، ولا يمكن أيضاً التعاقد مع شركات النفط أو شركات الصيانة أو غيرها من الأعمال الضرورية لاستمرار حياة الاقتصاد الإيراني.
هذه الأزمة الاقتصادية الخانقة انعكست على المجتمع الإيراني بشكل كبير، وستزداد آثارها المدمّرة يوماً بعد يوم، ومن المرجّح أن تفاقم هذه الآثار من حالات الاحتجاج الشعبي في المجتمع الإيراني، كما أنها من الممكن أن تزيد من تعميق الهوّة بين النظام والناس، وقد تخرج الأمور عن السيطرة في لحظة ما ولا يعود بالإمكان لملمتها وإعادتها إلى حالة الضبط الأمني الراهنة.
في حديث له مع "العربي الجديد" بتاريخ 21-1-2018 يقول أستاذ العلوم الاجتماعية، الدكتور مجيد أبهري:
"إنّ البطالة سبب ونتيجة لمشاكل ثانية في إيران، واصفاً إياها بالآفة الاجتماعية، التي تؤدي إلى إفرازات أخرى. ويؤكد أنّ الشهادات الأكاديمية لا تتناسب والفرص، ولا حتى مع عددها الحقيقي، بسبب الوضع الاقتصادي بشكل رئيس، وبسبب اكتفاء المؤسسات الحكومية والخاصة بعدد موظفيها في الوقت الراهن وهو ما يرتبط بالركود الاقتصادي. يضيف أبهري أنّ الخريجين هم من يدفعون الثمن الأكبر، وهو ما بدأ بالتأثير سلباً على جيل جديد، بات يعتقد أن لا فائدة من التحصيل الجامعي، طالما أنّه لا ينتهي بفرصة عمل مناسبة وذات مستحقات جيدة".
لا يمكن أيضاً أن ننسى الجمر الراكد تحت الرماد في مناطق كثيرة من إيران، مثل الأحواز العربية (عربستان) جنوباً وكردستان غرباً وبلوشستان شرقاً. فسكّان هذه المناطق من غير الفُرس يعانون اضطهاداً شديداً وعسفاً كبيراً من السلطات الأمنية، ويقومون بين الفينة والأخرى بانتفاضات متقطعة أو متباعدة للمطالبة بحقوقهم الإنسانية والثقافية والقومية، ولن تطول الفترة الفاصلة بين تأثير العقوبات الشديد وبين انتفاضات متجددة للمظلومين والجياع على حدٍّ سواء.
إذن سيكون على نظام الملالي تجرّع مرارة كأس السمّ ثانية كما تجرّعها عند قبوله وقف الحرب مع النظام العراقي سابقاً، أو سيكون عليه خوض غمار صراع طويل ومرير مع الشعب الإيراني في الداخل ومع الأمريكيين في الخارج.
سيكون العرب بعد الشعب الإيراني الخاسر الأكبر في هذا الصراع، فأنظمة الخليج ستدفع فاتورة الحرب إن حصلت وفاتورة التصعيد إن لم تحصل
في كلّ الأحوال سيكون العرب بعد الشعب الإيراني الخاسر الأكبر في هذا الصراع، فأنظمة الخليج ستدفع فاتورة الحرب إن حصلت وفاتورة التصعيد إن لم تحصل، كذلك ستكون أكبر الخاسرين إن توصّل الطرفان إلى اتفاق جديد حول أنشطة إيران النووية، لأنّ تجارب السنوات الماضية أثبتت لنا أنّه لا مانع لدى أميركا من إطلاق يد إيران للعبث في محيطها العربي إن كان لذلك مقتضى، وما سكوتها عن دعم الحوثيين في اليمن والحشد الشيعي في العراق وحزب الله في لبنان وسوريا سوى شكل من أشكال هذا القبول.
إنّ بقاء النظام الإيراني ضعيفاً في مواجهة شعبه قوياً في مواجهة جيرانه أمرٌ يعود على أميركا وإسرائيل بالفائدة القصوى، فتغيير مؤشر البوصلة من التوجّه نحو الكيان الصهيوني كعدوّ تاريخي واعتباره فوق ذلك حليفاً رئيساً في المواجهة مع إيران، حلمٌ كان يراود الأغلبية في إسرائيل وأميركا على الدوام، وها هو يتحقق بسبب تدخّلات النظام الإيراني في شؤون دول الجوار وبسبب دعمها لأنشطة المنظمات الإرهابية فيها وبسبب وقوفها مع نظام الأسد الاستبدادي ضدّ ثورة الشعب السوري. لقد سبب النظام الإيراني لشعوب المنطقة من الجروح ما لا يمكن أن يندمل بعشرات بل بمئات السنين. هذا كلّه سيجعل من إيران في المنطقة سلاح ابتزاز واستفزاز دائمين للمنطقة العربية وشعوبها.
خلاصة القول، لا حربٌ ولا سلم ونحن – شعوب ودول - الخاسرون بكلّ الأحوال.