الرئيسة \  مشاركات  \  مآلات الربيع العربي

مآلات الربيع العربي

29.07.2018
د. أحمد محمد كنعان




       إن نظرة متفحصة في سجلات التاريخ البشري تكشف لنا بوضوح أن للمحن والحروب والكوارث أثراً كبيراً في تغيير العالم لا تعادله النظريات الفلسفية والسياسية مهما بلغت من الشهرة والانتشار، ومهما آمن الناس بها وروجوا لها !
       ويكفي للدلالة على هذه الحقيقة مثلاً أن نتأمل ما جرى في القرن الماضي فنجد أنه شهد عدداً كبيراً من النظريات ( الماركسية، الوجودية، الداروينية .. وغيرها كثير) التي ملأت الدنيا، وشغلت الناس، فأين هي اليوم ؟ وأين هي آثارها ؟ لا شيء..لا شيء !
        بينما نجد في المقابل حربين عالميتين شهدهما القرن قد غيرتا العالم تغييراً جذرياً حتى بات عالم ما بعد الحرب غيره قبل الحرب، بل إن أثر الحربين مازالت مفاعيلها جارية حتى اليوم، والراجح أنها سوف تبقى تؤثر إلى أجيال أخرى قادمة، بينما تبخرت بالمقابل تلك النظريات حتى ما عاد أحد يتذكرها، بل بات أهلها يتنكرون لها ويتبرؤون منها !
        وقراءتنا هذه للتاريخ.. لا تروم الترويج للحرب ونبذ الفكر والفلسفة والعقل؛ وإنما هي قراءة تتطلع إلى فهم أعمق لمسيرة التاريخ، واستنباط الدروس والعبر من هذا الأستاذ الكبير !!
       ولعلنا اليوم - نحن العرب المسلمين - أحوج إلى هذه الدروس والعبر ونحن نعيش هذه الحروب الأهلية التي ابتليت بها أمتنا في سياق "الربيع العربي" ما جعل الأمة تعاني اليوم من المحن ما لم تشهده في تاريخها الطويل !
      وأعود إلى سجلات التاريخ فـأجدني مستبشراً بهذه الحروب على العكس مما يراه الكثيرون من أبناء أمتنا، فلا محل للتشاؤم إذا وضعنا هذه الحروب في سياق الزمان أو عدنا إلى سجلات التاريخ، فنجد أمراً عجباً .. نجد صلة كبيرة بين الحروب الأهلية والحرية، فلم تنتقل المجتمعات الكبيرة القائمة اليوم إلى الحرية ولم تتحرر من الاستبداد إلا بعد حروب أهلية مريرة أسفرت عن ثلاث ثورات كبيرة غيرت وجه العالم، كان أولها الثورة الإنكليزية في عام 1688 التي سميت بالثورة المجيدة ((Glorious Revolution لأنها أسفرت عن "إعلان الحقوق" الذي استعرض المظالم التي ارتكبها الملك جيمس الثاني في حقِّ الشعب، وقد قيد الإعلان سلطات الملك الجديد لمنعه من القيام بأي عمل ينتهك أو ينتقص من حقوق الشعب، والثورة الثانية هي الثورة الأمريكية التي وقعت أواخر القرن الثامن عشر وتمخضت عن ولادة "إعلان الاستقلال"  الذي جعل الحكومة أكثر تعرضاً للمساءلة تجاه الشعب، أما الثورة الثالثة فهي الثورة الفرنسية (17891799) التي تمخضت عن "إعلان حقوق الإنسان والمواطن" وكانت لها تأثيرات عميقة على أوروبا والعالم الغربي، بل على العالم أجمع، فقد دشنت الانحدار العالمي للمَلَكيات المطلقة واستبدالها بالجمهوريات، فلا غرابة أن يجمع المؤرخون على أنها واحدة من أهم الأحداث في تاريخ البشرية !
        وهكذا نجد أن الثورات أحداث تاريخية فيها الكثير من المآسي لكن لها في المقابل ثمرات لا يمكن تحصيلها بطرق أخرى غير الثورة .
        وأمتنا العربية الإسلامية ليست بدعاً في التاريخ، فما دمنا ننشد التغيير والحصول على تلك الثمرات الطيبة لا مندوحة لنا من الثورة، وهذا ما أدركته شعوبنا العربية مؤخراً فانتفضت في ثورات هذا الربيع العربي، فأدرك بعضهم تلك الثمرات، ومازال الآخرون يعملون للحصول عليها، ومازال ربيعنا العربي ماض في هذا السبيل للتحرر من الاستبداد وكل أشكال الفساد، وتدشين عصر تنوير عربي جديد قد آذن فجره !
        وكما تغيرت الشعوب العربية فإن الأنظمة العربية ماضية نحو التغيير عاجلاً أم آجلاً، فهذه هي سنة الله في الخلق ، والمسألة مسألة وقت !
       ونعتقد أنها لن تطول فهذه الحروب الدائرة اليوم في وطننا العربي سوف تعجل حركة التغيير، هكذا هي فلسفة التاريخ، ولعل مما يؤخر حركة التغيير عندنا أننا أمة تأنف من التقليد، فلا نستفيد من تجارب الثورات التي سبقتنا، فنختصر المراحل ونقتصد في ضريبة التغيير !
 
معالم المرحلة القادمة :
        إذا  نزلنا إلى واقع الربيع العربي اليوم نجد أربع محددات مهمة تؤثر في مسار الأمور :
  1. أزمة الأنظمة العربية والشعوب : لا جدال بأننا جميعاً شعوباً وحكومات نقف في مركب واحد، وأننا معاً أمام مفترق طرق : فإما الوصول إلى بر الأمان ، أو الطوفان، ولا نجاة لنا إلا أن نتجه نحو الإصلاح الوقائي الذي يجمعنا في منتصف الطريق، وقد جربنا الثورات والثورات المضادة خلال السنوات القليلة الماضية، لكنا لم نجرب الإصلاح الوقائي أو التلاقي في منتصف الطريق الذي أعتقد أنه بات أملنا الوحيد للوصول إلى بر الأمان ، وهناك امثلة للنجاح رأيناها مثلاً في تونس التي سارت في طريق الإصلاح الوقائي، وكذلك مملكة المغرب التي اختارت الإصلاح الوقائي فحققت الكثير .
 
  1. الموقف التركي : تركيا اليوم تشكل نواة صلبة للأمة العربية والإسلامية، وهي دولة فتية قوية، تعيش اليوم تطوراً تاريخياً مميزاً فيه الكثير من اكتشاف الذات والحنين إلى مد الجسور نحو أخوة الماضي الذين شاركوا في بناء هذا التراث العظيم .. الحضارة الإسلامية .
         وتركيا اليوم دولة مركزية صار لها دور محوري في المنطقة والعالم، وأعتقد أن محاولات الغرب غلق الأبواب على تركيا من خلال سوريا هي محاولة مغرضة لإفشال الدور التركي في إنقاذ مركب الربيع العربي، وهذا ما يوجب علينا الوقوف إلى جانب تركيا، للحيلولة دون إفشالها، لاسيما وأن تركيا تشكل جسراً بين الغرب والوطن العربي، بينما يراها الغرب سداً بينه وبين العالم الإسلامي، فعلينا أن نعمل بحسم هذا الجدل بين الجسر والسد لصالح الجسر، وهناك مؤشرات طيبة تبشر بفتح الاتحاد الأوروبي باب أوروبا للمواطنين الأتراك وهذا يعني فتح باب أوروبا للعرب والمسلمين؛ مما يعد بتلاقي حقيقي للإسلام مع الأوروبيين، وهذا اللقاء يتطلب منا التحضير الجيد لتحقيق أفضل النتائج .
  1. الصحوة الأوروبية : هناك مؤشرات تنبئ بوعي أوروبي جديد، للتخلي عن الأوهام الاستعمارية القديمة، والإيمان بحق الشعول العربية بالحرية، والإيمان بوحدة عالم المتوسط، وإدراك أن ما يحصل في الضفة الجنوبية من المتوسط يؤثر - قليلاً أو كثيراً -  بالضفة الشمالية، ولهذا بدأ مراقبون أوروبيون ينبهون بأن الربيع العربي ظاهرة متوسطية، وحسب المنطق الجيوسياسي من المستحيل أن تظل الضفة الجنوبية تحترق بينما تنعم الضفة الشمالية بالأمن والسلام والاستقرار، وإن رصد ما يجري اليوم في أوروبا يعطي مؤشرات عديدة على صحوة أوروبية للمخاطر التي يمكن أن تصيب أوروبا إذا لم تبادر إلى موقف إيجابي ينصف شعوب هذا الربيع !
  2. الأوهام الإيرانية : بعد نجاح ثورتها امتلأت إيران بأوهام ترجسية حالمة جعلتها تتوهم إمكانية استعادة إمبراطورية فرس البائدة؛ غير مدركة أن عصر اليوم غير عصر الأمس، وهذا ما دفعها  للمجازفة بارتكاب حماقات خرقاء أضاعت عليها فرصة تاريخية لتكون أكبر الرابحين من الربيع العربي .. حماقات سوف تنتهي بها إلى تدمير ثورتها، وربما تدميرها كلها، وهذه الرعونة الإيرانية توجب العمل لإعادتها إلى رشدها، وردها إلى حدودها .. إقناعا أو إكراهاً؛ لمنعها من تدمير نفسها، وتدمير المنطقة .
  3. التنافس الأمريكي الروسي : من الظاهر أن الأمريكان والروس قد قرؤوا الربيع العربي قراءة سطحية كما قرأته الأنظمة العربية، ظناً منهم بأن هذا الربيع مجرد موجة عابرة يمكن إنهاؤه بشيء من العنف والتشويه، كما فعلوا للربيع الجزائري في تسعينات القرن الماضي، فلم يدركوا أن هذه الحركة التاريخية قد تعمقت ولا يمكن ردها ولا صدها، واستمروا بغباء سياسي لا يحسدون عليه يعملون بنظرية إعطاء الحرب فرصة وترك الناس يتقاتلون حتى ينهك بعضهم بعضاً، ثم يروا بعد ذلك !
          غير أن حريق الربيع العربي خرج عن السيطرة، واستمرت روح الثورة، ولم تنهك الشعوب العربية، بل استمر ربيعها ماضياً بالشوط نحو الغاية لتحقيق التغيير المنشود الذي لن يكتفي بتغيير الأنظمة المستبدة الظالمة، بل سوف يستمر ليقطع كل الخطوط التي تربط مؤامرات الغرب بالمنطقة العربية، ما يدفع الغرب وأعوانه اليوم لمراجعة الحسابات؛ وقد بدأت تحركات الأمريكان والروس فعلاً، تعبر عن عدم الرغبة في التورط بالمنطقة، ويشكل إعلان بوتين الانسحاب من سوريا مؤشراً على ذلك .
      وبناء على ما قدمنا نرى أن مآلات الربيع العربي تحددها في المرحلة القادمة جملة من العوامل،  أبرزها :
  1. انحسار الثورات المضادة والتوجه الحقيقي نحو الإصلاح .
  2. توسع السلفية الجهادية وتحولها من محلية إلى دولية، وفقدان تنظيم الدولة (ISIS) بنيته الداخلية، وخسران الجغرافيا وتحوله إلى شكل يشبه "القاعدة" لكنه سيكون أشرس من القاعدة بحكم تمرسه العسكري وما يملكه من جنسيات شتى، ولاسيما منها الجنسيات الغربية، لكن سيبقى للتنظيم تأثير سيء على المنطقة، في المدى البعيد .
  3. التقارب التركي العربي سوف يتعمق في المستقبل ويكون له دور إيجابي كبير
  4. من المهم بذل الجهد الكافي لتحقيق المصالحة مع الذات، ومعالجة الانشطارات الداخلية، وأولها الانشطارات العربية العربية، والانشطارات الشيعية السنية، والانشطارات العرقية، والانشطار الإسلامي العلماني؛ فنحن اليوم بحاجة ماسة لإدراك ما يجمع بين هذه الكيانات .
وليس هذا بغسير، بل هو ممكن باستحضار طبيعة الحضارة الإسلامية الأولى التي قامت على أكتاف ثلاثة شعوب : العرب والترك والفرس .. فقد مثل العرب الريادة والقيادة في تلك الحضارة، وكانوا هم سيف الإسلام في مرحلة الاندفاع، أما الترك فكانوا درع الإسلام في حالة الدفاع، وكان الفرس قلم الحضارة الإسلامية في أيام ازدهارها الثقافي .
فكم نحن اليوم بحاجة إلى إحياء هذه المعاني ومد الجسور، وهذا هو الطريق الصحيح لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وإيصال الربيع العربي إلى شط الأمان، وتدشين عصر تنوير عربي جديد .