الرئيسة \  واحة اللقاء  \  لماذا مشعل تمو؟

لماذا مشعل تمو؟

14.10.2018
عمر قدور


المدن
السبت 13/10/2018
في السابع من الشهر الحالي مرت الذكرى السابعة لاغتيال القيادي الكردي مشعل تمو، هذه الذكرى حظيت باهتمام من بعض النشطاء العرب ربما يفوق اهتمام الوسط الكردي بها، على رغم تقادم حادثة الاغتيال وما تلاها من مآسٍ وويلات تجرّعها العرب والأكراد. ومن المرجّح أن استحضار الفقيد من قبل بعض النشطاء العرب يعكس الافتقار إلى شخصية كردية يمكن اعتبارها جسراً بين الطرفين، ووجود بعض القيادات الكردية المتحالفة مع هيئات معارضة سورية لا يملأ هذا الفراغ، بسبب فقدان الثقة بهيئات المعارضة نفسها، ولأن القادة الأكراد المنضوين فيها لا يملكون ثقلاً في الوسط الكردي وكاريزما كافيين للتعويض. غنيّ عن الذكر أن نسبة ساحقة من الأكراد والعرب مستعدة اليوم لاختراع مناسبات للتأكيد على الافتراق النهائي بين الطرفين، وآخرها على سبيل المثال التعاطف الواسع من العرب مع قضية الكاتب السعودي جمال خاشقجي، مقابل التهليل الكردي للاغتيال بحجة موقفه المؤيد للاحتلال التركي لعفرين.
في هذا النص شهادة شخصية عن مرحلة شارك فيها مشعل تمو بقوة، وكان يؤمل منها الوصول إلى غير ما وصل إليه الشقاق العربي الكردي. وسيكون ضرورياً التنويه بأن الأحزاب الكردية والعربية عمل كلّ منهما في حقله الخاص، وتقاطع المصالح في مواجهة تنظيم الأسد لم يحفّزها على التعارف والتقارب، بخاصة خلال عقد السبعينات الذي شهد نشاطاً معارضاً لبعض الأحزاب العربية. بدءاً من منتصف التسعينات سينشط على نحو خاص في اتجاه مثقفين عرب مسيّسين حزبُ الوحدة "يكيتي" الكردي الذي تأسس حينها، وسيكون لأمينه العام "إسماعيل عمر" فضل في إرساء هذا التوجه واستمراره حتى وفاته بسكتة قلبية قبل خمسة أشهر من اندلاع الثورة السورية. أيضاً ستكون مداهمة قوات الأمن "منتدى الكواكبي" في حلب الذي كان يستضيفه المعارض سمير نشار في مكتبه الشخصي، واعتقال أربعة عشر شخصاً من بينهم أكراد ومحاكمتهم أمام محكمة عسكرية، مناسبة للتنسيق بين الحزب وقوى معارضة عربية من أجل حشد اعتصامات أمام المحكمة مع كل جلسة للنظر في القضية.
بعد مداهمة المنتدى بنحو سبعة أشهر، في الثاني عشر من آذار 2004، ستندلع الانتفاضة الكردية لتطرح الموضوع الكردي لأول مرة بهذه القوة. القصة كانت بدأت بمشاجرة في مباراة لكرة القدم في مدينة القامشلي، ليبادر عناصر الأمن بأمر من المحافظ وقيادته الشخصية إلى إطلاق الرصاص على الشباب الأكراد، وعندما يخرج الأهالي للتظاهر يواجَهون بعنف مماثل يصل إلى نزول الدبابات والمدرعات إلى شوارع المدينة. لأول مرة ستنطلق مبادرة من ناشطين سياسيين ومستقلين وكتّاب للتضامن مع الأكراد في موقع الحدث الأصلي "القامشلي"، وفي ذلك تحدٍّ واضح لسلطة الأسد وكسر للامبالاة التقليدية بين الطرفين. مشعل تمو هو الذي تولى تنسيق وجود أولئك المتضامنين في القامشلي، وترتيب لقاءات مع الأهالي المتضررين وقادة الأحزاب والمثقفين الأكراد، وكان حينها ناشطاً في "لجان إحياء المجتمع المدني"، ولم يكن بعد قد أسس "تيار المستقبل الكردي" الذي لا يُستبعد أن يكون قد استلهم اسمه من تجربة الرئيس رفيق الحريري، وربما أيضاً استلهم منه فكرة الشخصية السياسية القادمة من خارج القيادات التقليدية. في كل الأحوال، لم تكن هذه التسمية لتروق لسلطة الأسد التي ستُتهم بالوقوف وراء اغتيال الحريري.
لم تكن المخابرات حينها في وارد اعتقال أولئك المتضامنين الزائرين، مثلما لم تكن في وارد استخدام القوة إزاء المعتصمين أمام المحكمة العسكرية، بسبب سعي بشار الأسد إلى كسب ود الغرب، وتصوير إجراءاته القمعية بوصفها ممارسات مؤطرة بالقوانين، بالطبع تلك التي وضعها هو أو ورثها من أبيه. حينها كانت السلطة قد أوفدت "هشام أختيار" مدير مكتب الأمن القومي ليمسك بزمام الأمور بدل المحافظ، وهذا الأخير طلب الالتقاء بوفد مصغّر من المتضامنين، والتقى فعلاً بثلاثة منهم، ويبدو أنه أظهر ليونة وتفهماً لمطالب تتعلق بالإفراج عن بعض المعتقلين الأكراد، ونقل ذوي الإصابات الخطيرة إلى مستشفيات أفضل لتلقي العلاج اللازم. بعد أيام إستدعي هشام أختيار، الذي ربما يملك خبث رجل المخابرات العتيق، ليستأنف عناصر الفرقة الرابعة "التابعة لماهر الأسد" ترويع الأهالي بوحشيتهم المعروفة.
في خلفية هذه الأحداث كان مشعل تمو يبذل جهداً حقيقياً لبناء تعارف وتفاهم بين الضيوف العرب وقادة التنظيمات الكردية، مدبّراً لقاءات عديدة ليتعرف الزائرون على الوضع بأنفسهم. مَن يعرف الرجل يعلم أنه لم يكن ليحمل أوهاماً حول سهولة تفاهم الطرفين بعد قطيعة وانقطاع طويلين، لكنه كان يراهن على بناء أواصر تتطور مع الوقت. ضمن هذا التصور كان مستعداً لتقديم "تنازلات" للمعارضة بشقّها العربي، بخلاف عدائه لسلطة الأسد الذي كان مفروغاً منه. هذا التوجه لم يجنّبه بالطبع مزايدات من قادة أكراد آخرين، إلا أنه لم يكن أقل منهم إخلاصاً للقضية الكردية في سوريا، مع فارق أنه يرى في بقية المعارضين العرب شركاء ضروريين أو محتملين.
لاحقاً توالت اللقاءات بين المعارضين العرب والأكراد، ربما باستثناء حزب الاتحاد الديموقراطي PYD الذي كان في العديد من المناسبات خارج التوافق الكردي نفسه، مع الاحتفاظ بعلاقة تاريخية مع سلطة الأسد تتصل برعاية الأخيرة للحزب الأم؛ حزب العمال الكردستاني. وكما نعلم سيطرت ميليشيات هذا الحزب على المناطق الكردية بتنازل طوعي من سلطة الأسد، بينما تم اغتيال مشعل تمو الذي كان قد خرج من اعتقال دام نحو ثلاث سنوات، ليخرج معارضاً كما كان من قبل، وليشارك من الداخل في فعاليات "مؤتمر الإنقاذ الوطني" الذي عُقد في إسطنبول، مؤكداً على وحدة الشعب السوري، ثم لينضوي ضمن المجلس الوطني الذي كان أول هيئة تتشكل خارج سوريا لتمثيل أهداف الثورة.
لقد كان مشعل القائد الكردي السوري الوحيد، من بين الموجودين مع انطلاق الثورة، القادر على تحقيق شعبية في الوسط الكردي يُخشى منها، مع أن تياره التنظيمي "المستقبل" تراجع كثيراً خلال فترة اعتقاله. الأمر يعود إلى ديناميكيته، وأيضاً إلى كاريزما مفتقدة لدى آخرين مع غياب التقاليد المؤسسية لدى كل تنظيمات المعارضة السورية العربية والكردية. على ذلك أتى اغتيال مشعل المبكر ضمن مخطط لإبعاد الساحة الكردية عن الثورة، ولضرب العلاقة بين الطرفين الكردي والعربي المرشّحة للأفضل بوجوده، ومن المؤكد أن هذا الهدف قد تحقق بمساعدة لا تُنكر من أطراف في المعارضة العربية وقوة الأمر الواقع الكردية.
ليكتمل الحديث عن المصائر ينبغي التنويه بحضور رزان زيتونة بين المتضامنين مع الأكراد في انتفاضتهم، حيث وثقت حينها ما أتيح لها الاطلاع عليه من انتهاكات. رزان ستُختطف في دوما من قبل فصيل إسلامي، برفقة سميرة الخليل ووائل حمادة وناظم حمادي، بينما المعارض العتيق الذي كان يرأس المنظمة الحقوقية التي شهدت نشاطها المبكر والذي كان حاضراً أيضاً في تلك الزيارة التضامنية سيصبح مسؤولاً مزمناً في المعارضة السورية في اسطنبول، ولن يدافع عن قضيتها إطلاقاً. معارض آخر، من ضمن الثلاثة الذين التقوا بهشام أختيار حينها، سيعود شديد الإعجاب والإشادة به، رغم أنه كان جلاده أثناء اعتقاله الطويل، ومن المفارقات أن أختيار سيُقتل في تفجير خلية الأزمة، وسيتولى ذلك المعارض القديم منذ مستهل الثورة التسويق لرواية الأسد عن الإرهاب الإسلامي الذي يحاربه. الحق أن مآلات غالبية المعارضين الحاضرين تجعل الحسرة مضاعفة على الذين تم اغتيالهم، أو تغييبهم.