الرئيسة \  تقارير  \  لا سلام مجتمعيا بلا محاسبة وإنصاف الضحايا

لا سلام مجتمعيا بلا محاسبة وإنصاف الضحايا

05.07.2025
ميشال شماس



لا سلام مجتمعيا بلا محاسبة وإنصاف الضحايا
ميشال شماس
سوريا تي في
الخميس 3/7/2025
تعيش سوريا اليوم لحظة مفصلية وتاريخية، لحظة نحتاج فيها إلى محاسبة المرتكبين، وإلى شجاعة الاعتراف، وحكمة المصالحة، وإنصاف الضحايا، وإنّ السلم الأهلي الذي ننشده جميعاً، لا يمكن أن يُبنى على إنكار آلام الماضي، ولا على التغاضي عن معاناة من فقدوا أحبّتهم أو تعرّضوا للعنف والقهر والتعذيب، فآهات الأمهات الثكالى، وأنين المعتقلين الناجين من التعذيب والموت في أقبية التعذيب، ما تزال تدوي في نفوس السوريات والسوريين في مخيمات دول اللجوء وفي مختلف أرجاء سوريا والعالم.
والعدالة الانتقالية التي ننشدها اليوم ليست محاسبة وعقابا فقط، بل هي أيضاً كشف للحقيقة ورد للاعتبار وتعويض للضحايا وتخليد لذكراهم وكشف لمصير المفقودين واصلاحٌ للمؤسسات ولا سيما الأمنية منها وتحويلها من مؤسسات عقابية إلى مؤسسات لخدمة الناس.
والمصالحة الحقيقية لا يمكن أن تتحقق في المجتمع السوري إلا إذا قامت على أسس من العدالة والشفافية، حيث تكون كرامة الضحايا في قلب هذه العملية، باعتبارها حجر الأساس لأي مشروع مصالحة وطنية وسلام مجتمعي، فلا يمكن للسلام المجتمعي أن يُبنى على إنكار آلام ومعاناة الضحايا وذويهم.
فالمجتمع الذي يتجاهل جراح من تألموا وعانوا، إنما يزرع بذور الغضب والحقد والانتقام في عمق وجدانهم الجماعي، فلا يمكن أن نطلب من أمٍّ ثكلى أن تسامح من دون أن تسمع اعترافاً صادقاً ممن سلبها فلذة كبدها، ولا يمكن أن نطالب الضحايا الناجين من التعذيب بفتح قلوبهم، من دون أن يُحاكم جلادوهم في محاكمة علنية وعادلة.
اليوم لا يكفي أن نُخاطب الضحايا بخطابات عاطفية عن التسامح ونطالبهم بالصفح والمسامحة، بل علينا أن نُقدّم لهم خطوات ملموسة تُشعرهم أن الدولة والمجتمع يقفان إلى جانبهم، خطوات من شأنها أن تعزز ثقة الضحايا بالعدالة..
الدعوة اليوم إلى العفو والمسامحة وإن كانت ضرورية ومهمة للحفاظ على السلم الأهلي وتعزيزه، إلا أنها لا تعني ولا يجب أن تعني بأي حال من الأحوال التنازل عن حقوق الضحايا، فالعفو والمسامحة قرار أخلاقي وإنساني ينبع من الضحايا باعتباره حقاً لهم لايجادلهم فيه أحد، والمسامحة ليست ضعفاً من الضحايا، وإنما هي تعبير عن سمو الروح لدى الضحايا عندما يشعرون بالانصاف لقضيتهم التي لا تُبنى على النسيان والإنكار، وإنما تُبنى على تذكّرٍ عادل واعتراف صريح بمعاناة الضحايا وما كابدوه في جحيم المعتقلات.
واليوم لا يكفي أن نُخاطب الضحايا بخطابات عاطفية عن التسامح ونطالبهم بالصفح والمسامحة، بل علينا أن نُقدّم لهم خطوات ملموسة تُشعرهم أن الدولة والمجتمع يقفان إلى جانبهم، خطوات من شأنها أن تعزز ثقة الضحايا بالعدالة، ويأتي في مقدمة تلك الخطوات وأهمها:
إجراء محاكمات علنية للمرتكبين الكبار وخاصة أولئك السفلة الذين تلذذوا بالتعذيب وقتلوا الناس بوحشية، كما هو حال مرتكبي مجرزة التضامن على سبيل المثال، فهؤلاء لايمكن العفو عنهم بأي شكل من الأشكال، وتقضي العدالة بضرورة محاكمتهم أمام محكمة شفافة وعلينة، ليواجهوا الحقيقة أمام أعين الناس، وهذه المحاكمات ليست انتقاماً من هؤلاء المجرمين، بل لأجل ضمان عدم تكرار مآسي الماضي الأليم، وتعزيز الثقة بالمجتمع والقضاء والعدالة.
إجراء جلسات محاسبة ومحاكمة علنية لمن تبقى من المجرمين الأقل إجراماً والأقل تورطاً، وإفساح المجال أمام هؤلاء الجناة كي يعترفوا بما أقترفت أيديهم، ليس فقط كيف ارتكبوا جرائمهم وأين دفنوا جثث ضحاياهم ولماذا فعلوا ذلك؟ بل وأيضاً ويجب أن يقدموا اعتذاراً صريحاً وعليناً ومصوراً أمام الإعلام عن الجرائم التي ارتكبوها، فهذا الاعتراف العلني يشكل بداية الطريق نحو التئام الجراح وفتح الطريق أمام المسامحة والمصالحة.
إنّ الاعتذار العلني المطلوب من المرتكبين، ليس ضعفاً ولا إذلالاً لهم، ولا تقليلاً من شأنهم، بل هو شجاعة، تظهر قدرتهم على تحمل المسؤولية والاعتراف بخطئهم. واليوم الكثير من الضحايا لا يطلبون سوى كشف مصير أبنائهم وكلمة اعتذار صادقة من المرتكبين، تُعيد إليهم شعورهم بالكرامة، وتشعرهم أن معاناتهم لم تُهمل أو تُهمش.
ضرورة إشراك الشعب السوري في تشكيل وسير العدالة الانتقالية في سوريا من خلال الحوارات والمشاورات العامة بما يضمن تمثيل جميع الأطراف ولاسيما الضحايا في مسار العدالة الانتقالية..
وبمجرد أن يرى الضحايا الناجين من الموت وذوي الضحايا، أن المرتكبين قد خضعوا للمحاسبة والمحاكمة، وسمعوا منهم اعتذاراً علنياً صريحاً وصادقاً ومباشراً، عندها فقط تبدأ قلوبهم بالصفاء، وتبدأ تفوسهم بالتهدئة والتنفيس عن غضبها، ليبدأ السلام الداخلي فعله في قلوب الضحايا وذويهم، فتنفتح طواعية أبواب المسامحة لا كرهاً ولا قهراً بل قناعةً، لا مجاملة بل خياراً نابعاً من القلب.
لن تًشفى جراح الضحايا وذويهم بنكران المجتمع لها، بل من خلال مواجهتها بشجاعة والاعتراف بها، والسلام المجتمعي ليس مجرد وقف الحرب والعنف بل أن تكون العدالة حاضرة، وإن أردنا حقاً أن نطوي صفحة الماضي الأليم، فعلينا أولاً: أن نقرّ به ومواجهته بشجاعة، وأن نمنح الضحايا حقهم الكامل في الاعتراف، الاعتذار، والمحاسبة والتعويض.
وثانياً ضرورة إشراك الشعب السوري في تشكيل وسير العدالة الانتقالية في سوريا من خلال الحوارات والمشاورات العامة بما يضمن تمثيل جميع الأطراف ولاسيما الضحايا في مسار العدالة الانتقالية، وهذا وحده كفيل بأن يساعد في التخفيف من التوترات الداخلية ويعزز المصالحة الوطنية والسلام المجتمعي، ويعطي أملا في بناء مستقبل أكثر عدلاً وإنصافاً للجميع.