الرئيسة \  كتب  \  كتاب: مشاهداتي في الهند لمحمد المجذوب

كتاب: مشاهداتي في الهند لمحمد المجذوب

04.07.2017
يحيى حاج يحيى


عرض : يحيى حاج يحيى
محمد المجذوب أديب سوري عاش حتى تجاوز التسعين ، و عرف الحياة مرها و حلوها ! و كافح في شبابه و صباه ، و كان عصاميا في طلب العلم و الورود على مناهل الأدب ! هاجر أو هُجِّر و اغترب ، و مر في حياته بكثير من التجارب ، و عاد إلى وطنه ( اللاذقية) بعد غياب لتكون مثواه الأخير في الدنيا، و ليسدل المتخلفون ستاراً على نبأ وفاته و كأنه لم يكن مالئ اللاذقية أدباً و علماً و شاغل الناس فكرة و حركة ؟!
في كتابه (مشاهداتي في الهند) لون من ألوان الأدب الذي تعددت مواهب المجذوب فيه ألا وهو أدب الرحلات و هو لون عرفه أدبنا قديمه و حديثه ..
في الصفحات الأولى يذكر سبب ذهابه إلى الهند ، مبتعثا من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة مع الرغبة التي حققتها هذه الرحلة في نفسه ، و متاعب السفر التي نسيها بعد لقاء الأحبة في ندوة العلماء ، معرفاً بها و بدورها في حياة المسلمين و تجربتها في حقل التربية الإسلامية ..
ثم يقف عند عبادات الهندوس و مظاهر الوثنية التي تفرض نفسها في كل شارع و منعطف ؟! و يلفت نظره مع ما في الهند من مظاهر سلبية أن تلك البلاد حققت لنفسها الكفاية الذاتية ؟!
فكل شيء من حولك هو من صناعة الهند ، مشيراً إلى حركة العصيان المدني التي سبقت عهد الاستقلال بإعلان المقاطعة العامة لمنتوجات بريطانيا المستعمرة حتى اضطرت بريطانيا العظمى إلى الركوع أمام ذلك التصميم الجبار ؟!
و لعل من أروع ما شاهده في رحلته تلك ما ذكره في عدد من فصول الكتاب : من مثل قوله ( لقد دخلت المسجد لصلاة الفجر فإذا الدوي يملأ أرجاءه ... إنهم طلاب تحفيظ القرآن يتحلقون في المستطيل السماوي من داخل المسجد ، و كل منهم يتلو حزبه من كتاب الله بمسمع و مشهد من شيخ مجموعته .. و لعل أروع ما هنالك أن ينقطع التيار الكهربائي .
و هم على شأنهم هذا ، كدأبه كل فجر ، فيستعيضوا عنه ببعض الشموع ، دون أن تسكت أصواتهم عن التلاوة ؟!
و من هذه المشاهد : زيارته للشيخ أبي الحسن الندوي في قرية (راي بريلي) فتحدث عن احترام الناس له و تقديرهم لجهوده و يعلق المؤلف ( و الحق أن ما كتبته من ترجمة للشيخ أبي الحسن في كتابي (علماء و مفكرين عرفتهم) كان ينقصه بعض نفحات هذه البيئة ، و تتبع آثارها الطبيعية و التاريخية في تكوين الشيخ العقلي و الروحي ... و لعلي لو قيض لي أن أعيد طبع الكتاب ، أن أستدرك ما فاتني من هذه الروافد المثيرة و المؤثرة .
و من هذه المشاهد أن مرافقه حدثه عن خطوبته لفتاة و رضاء أهلها به و طلبهم منه أن يقدم هدية مناسبة لحالتهم : سيارة أو منزلاً أو مقداراً معيناً من المال و الويل للفتاة التي لا يكرم خطيبها أباها بتحقيق مطالبه ؟!
فهي مرجع الازدراء من الجميع ! و لعلهم قد قبسوا هذه العادة الدخيلة من جيرانهم الهندوس ، أو من تقاليد المستعمرين الإنجليز.
و من طريف ما ذكره المؤلف قوله : ( و قد بلغني من مصادر موثوقة أن ثمة حواراً جاداً قد ينتهي قريباً إلى تحول مليون من الطبقة المنبوذة إلى الإسلام ... و قبل ثلث قرن ظهرت بادرة تاريخية من هؤلاء المنبوذين أوشكت أن تصير بهم إلى المجموعة الإسلامية في تحول جماعي ... إلا أن المسلمين لم يحسنوا متابعة الحدث إلى نهايته ، فأفلتت الفرصة من أيديهم ...
و كان لغاندي أثره الكبير في تجميد تلك الحركة أيامئذ ، إذ فتح للمنبوذين أبواب المعابد التي كانت مغلقة في وجوههم ، و تعهد لهم برد الكثير من الاعتبار الإنساني إليهم بعد الاستقلال إذا هم حافظوا على انتمائهم للنحلة الهندوسية ... و إنما فعل ذلك خشية أن تزداد بهم قوة المسلمين .. و قد دفع غاندي حياته ثمناً لهذه المحاولة ، حيث لقي مصرعه على يد بعض السيخ الذين هالهم إقدامه على تلويث المعابد بدخول (الأنجاس) إليها؟!
و لا يكاد المؤلف - رحمه الله - يترك المشاهد الإسلامية دون تعليق - على عظمتها و جمالها- و من جملتها القصور البديعة فيقول : ( إن الناس يصفون هذه المعالم و أشباهها من بقايا العهود الإسلامية سواء في مصر أو الهند أو الأندلس أو دمشق أو بغداد و عشرات الحواضر التاريخية الأخرى ، بكونها آثاراً إسلامية ، و يعتبرونها عصوراً شاهدة لحضارة الإسلام ؟!!
أما أنا فلا أراها أكثر من شواهد عادلة على أن منشئيها قد سجلوا بانصرافهم إلى إنشائها انصرافهم عن رسالة الإسلام الذي ينتسبون إليه ، و عن حضارته الربانية ، فهم لم يصنعوا شيئاً بهذه المعابث سوى أنهم دفنوا ثروات الوطن الإسلامي و أحالوا طاقات المسلمين إلى حجارة جامدة تلهب الأحقاد في صدور الفقراء و الضعفاء و المخالفين في الدين ، و شتان بين هذا العبث المترف و بين الروح الإسلامي الذي يفرض توجيه مثل هذه الجهود إلى نشر العدالة بين الخلق ، و بث العلم الموصل إلى الحق ، حتى لا تكون فتنة ، و يكون الدين كله لله!)
و أذكر أنني قرأت كلاماً مشابهاً للعقاد حول عظمة الأهرامات الفرعونية ، فهي على عظمتها تمثل مدى القهر و التسخير الذي تعرض له الناس في ذلك الوقت لإقامة مدفن لملك عظيم و هم لا يكادون يجدون مأوى !!
و في المقابل ينقل لنا مشاهداته لما وصفوه له بأنه أكبر معابد الهندوس ففي (لكناو) و أحفلها بأنواع التماثيل التي تصور معتقداتهم و هو عبارة عن مسكن عادي كأحد هذه المنازل المجاورة قسّم ثلاثة أجزاء : أحدها للمعبودات و الثاني للبقر ، و الثالث لسكن الأسرة التي تقوم بخدمة المعبد مقابل الهبات التي يتلقونها من قاصديه ..
و صور الآلهة لا تقتصر على رسوم الآلهة على هيئة البشر ، بل تشمل كل ذي نفس حية من البشر و البقر و القردة و الخنازير و العقارب و الفئران و ما إليهن ؟! و لكل فيها قصتها منفردة أو مكملة لغيرها ..
و لفت نظره امرأة تمرغ جبهتها عند قدمي الصورة التي قصدت إليها ، في خشوع يبلغ حد البكاء ! و يعلق الكاتب : ( و تمتمت في أعماقي : لو أن هذه المسكينة عرفت الطريق الصحيح إلى ربها الحق و وقفت بين يديه تدعوه بهذا الانكسار، إذن لشملتها الرحمة التي وعد بها (( و قال ربكم ادعوني أستجب لكم )) .
و لا يستوقف المؤلف مشاهد الآثار و القصور و عجائب العادات و غرائب المعتقدات فحسب ، و لكنه يقف عند بعض الوقائع التي حدثت في أثناء زيارته ، و منها مذبحة (مراد أباد) التي ذهبت بآلاف المسلمين في أثناء تجمعهم لصلاة عيد الفطر، فصبت عليهم الشرطة حمم أسلحتها .
و مما آلمه و ضاعف آلام المنكوبين أن سلطات الهند آنذاك كانت تستقبل زائراً عربياً كبيراً و كان الناس ينتظرون منه كلمة تواسيهم ففوجئوا بإعلان تبرعه لمنظمات الألعاب الرياضية الهندوسية بمليون و نصف ... و قد نسي أن في مراد آباد و بهار آلاف المنكوبين من إخوانه ينتظرون النظرة الرحيمة و اليد المضمدة و يعلق المؤلف : ( فكان ذلك الموقف المؤسف أوجع لقلوبنا من موقف آنديرا غاندي (رئيسة الوزراء) و هي ترد على رجال الإسلام المطالبين بالقصاص العادل لإخوانهم المظلومين بقولها ( إن الذين قتلوا في آباد أقل عدداً من الذين يقتلون من المسلمين العرب !)
أقول : صدقت و هي كذوبة ، و كأنها تستشرف المستقبل فإن ما قتله المالكي في العراق و حافظ أسد و ابنه في بلاد الشام ، و عساكر التزوير في الجزائر شاهد على ذلك ؟!!
و يطول بنا التجوال مع محمد المجذوب في مشاهداته في الهند ، و نقف عند هذا المشهد الطريف و الذي له صور مشابهة في بعض مجتمعات المسلمين و لكنها محزنة مؤسفة لأننا على دين الحق الذي شعاره التوحيد : يقول المؤلف حاكيا قصة قبرين على لسان أحد طلابه المرافقين له : ( إن لهذين القبرين قصة طريفة ،ذلك أن صاحب هذا البيت كان موصوماً بالصلاح ، فلما توفاه الله دفنه ولداه في أحد القبرين ، ثم راح أحدهما يتلقى صدقات العابرين من مختلف الطوائف ، كشأنهم إزاء أي من القبور التي تجد من يعتني برعايتها ، يقيناً منهم بآثار الموتى في نطاق الإحسان و الإساءة ، فما أن رأى أخوه ذلك النجاح الذي حققه الثاني حتى دبت الغيرة في قلبه ؟! و جعل يطالبه بحقه في ذلك المورد ، و لكن هذا أبى الاستجابة له، لأن القبر مقابل شقته فهو أولى بمنفعة ، فما لبث أن أقام عليه الدعوى أمام أحد قضاة الهندوس ، الذي سرعان ما حكم له بأن يقيم قبراً ثانياً بإزاء الأول يتولى هو سدانته و جبايته ...
و هذا ما حدث بالفعل فقد بنى القبر الثاني ، و طلي كنظيره بالبياض الجذاب ! و بذلك حسم الخلاف . إذ بقي الأخوان يتناوبان حراسة القبرين و يتلقيان عطايا المغفلين ، ثم يأخذ كل منهما حصته من هذه التجارة الرائجة .
ويعقب المؤلف - رحمه الله - من خلال هذه الطرفة المؤسفة : عثرت على التفسير الصحيح لوجود تلك القبور المتكلسة الأخرى التي كنا نمر بها أثناء زيارتنا البرية بين بعض المدن ، و قد أقيمت بعيداً عن مواطن الأحياء ... فأدركت أنها لم تنصب هنا و هناك إلا لاصطياد المال من أيدي المساكين و المضَلَّلين .