الرئيسة \  واحة اللقاء  \  قصة الربيع الموءود.. جريمة بشار الأسد الأولى

قصة الربيع الموءود.. جريمة بشار الأسد الأولى

20.09.2021
علي حميدي


علي حميدي
سوريا تي في
الاحد 19/9/2021
تذكر العالم قبل أيام هجمات الحادي عشر من أيلول / سبتمبر 2001. وأحيا الذكرى العشرين بمزيد من الثقة وقد وأنهت واشنطن أكبر حرب في تاريخها استمرت لعشرين عاماً لتكون المرة الأولى التي تمر فيها الذكرى، وأميركا ليست في حالة حرب.
هذا التاريخ لا ينسى ولن ينسى قريبا. نقطة تحول للعالم كله بلا شك، وما قبل 11 سبتمبر ليس كما بعده. في سوريا كان الأمر كذلك.. وما قبل 11 أيلول 2001 ليس كما بعده... وفي شهر أيلول بعض أيام من أيام سوريا.
لقراءة الجزء الأول من السلسلة:
أيلول.. البدايات والنهايات
في خواتيم شتاء سوريا الطويل مع حكم حافظ الأسد استشعر بعض من سياسييها، ومثقفيها، وناشطيها أن ثمة فرصة نادرة يمكن تلقفها لعودة الحياة السياسية للبلاد، يمكن القول إنهم أحسوا أن الخط الأحمر العريض، الثقيل ارتفع قليلا من قبل الرئيس المنهك الذي يهندس لتوريث ولده، راحوا يناورون قرب الخط الأحمر أو في ظله تماما.
الأسد في آخر أيامه، ولا يريد للوريث أن يكمل النهج وهو المحفوف بالمخاطر، بل سيورثه شيئا من الدفع باتجاه تطوير المنظومة الفاسدة بشهادة الجميع، خشية الانقلاب عليه، وسيمهد له ببعض التلميحات الخجولة عن ضرورة إعطاء متنفس للمجتمع السوري الذي دخل الألفية الثالثة بهمة عالية، لتصبح المحاضرات والبيانات والندوات علنية تحت سقف الوطن. بموازاة فعل المجتمع أتى الإعلان من السلطة عن عقد مؤتمر قطري تاسع لحزب البعث كدليل على حسن نوايا التغيير.
صار الحديث يدور بين السوريين عن إصلاح وتحديث، وربما شطح خيال البعض ليتحدث عن قوانين للأحزاب والمطبوعات والنوادي الثقافية.
مات حافظ الأسد قبل أن تكتمل التحضيرات، ترك بعض الأبواب مفتوحة، وكأن القدر شاء أن يقدم فرصة لمن اعتقد قبلا أنها موجودة، وستكون فرصة سانحة مع اتجاه بقية النظام الباقية بعد موته نحو نقل السلطة لابنه بشار وانشغالها بترتيبات التوريث.
على المقلب الأخر "المجتمع المدني السوري يتحسس نفسه ويستيقظ من سبات طويل، يستيقظ بصعوبة وتردد لكنه يستيقظ"1. هذا الوصف للراحل ميشيل كيلو عن تلك البدايات التي أثمرت اجتماعات وبيانات ومنتديات وكثير من الحكي في السياسة وشؤون العامة. كأن الوطن دخل في ورشة عمل لإنقاذ نفسه، بل لإحيائها.
الحادي عشر من أيلول يوم مفصلي في تاريخ سوريا المعاصر فيه ولد بشار الأسد مثلا!
أسد بديل لأسدين
تمكن المتحمسون المكلفون بتيسير توريث السلطة لبشار الأسد بعد وفاة حافظ الأسد في 10 من حزيران 2000 من حرق المراحل والانتقال بخطوات سريعة، معدة مسبقا ومنسقة بين القانوني والدستوري والسياسي.
أمّنوا له انتقالا للسلطة بمستوى عال من التنظيم والتنفيذ، "هذا الانتقال نادرا ما يحدث في الدول النامية"2، حسب وصف الكاتب والصحافي البريطاني باتريك سيل كاتب سيرة الأسد.
اجتمع مجلس الشعب السوري ساعة إعلان الوفاة، وفي غمرة "الحزن الداهم" عُدل دستور البلاد ليناسب عمر بشار الأسد، ثم رقِيَ في الجيش ليصير قائده العام.
أما حزب البعث الحاكم، فقد وجد الوقت الكافي لعقد مؤتمره القطري التاسع خلال أسبوع واحد وهو المؤتمر المتأخر والمنتَظر لـ 15 عاما. الحزب قائد للدولة والمجتمع بحكم الدستور، وبالتالي فالدولة والمجتمع كانا رهن مؤتمراته، واستمرا كذلك.
عقد المؤتمر في 17 من حزيران 2000 وانقضى دون نتائج مما كان موعدا، سوى مبايعة بشار الاسد أمينا عاما للحزب وترميم القيادة القطرية، ثلة من الأعضاء الجدد بدلا عن حافظ الأسد الميت، رفعت الأسد المطرود، محمود الزعبي المنتحر وحكمت الشهابي المتقاعد المبعد. تبديل أسدين بأسد واحد، سيتكفل لاحقا بإحراق البلد. في أربعين ولده كان بشار رئيسا كاملا.
شهر بعد مؤتمر البعث يخطب بشار الأسد أمام مجلس الشعب في 17 من تموز 2000 رئيسا، يتحدث عن النقد البناء، والشفافية والديمقراطية. مما أعطى بارقة أمل بعد سنوات الدكتاتورية أيام أبيه، وكان خطابه يوحي بأن الكابوس قد انجلى.
"لا يُبنى المجتمع ولا يتطور ولا يزدهر بالاعتماد على شريحة أو جهة أو مجموعة، بل يعتمد على تكامل عمل الكل في المجتمع الواحد... إنَّ الفكر الديمقراطي يستند إلى أساس قبول الرأي وهو طريق ذو اتجاهين.. يجب أن تكون لنا تجربتنا الديمقراطية الخاصة بنا المنبثقة من تاريخنا وثقافتنا وشخصيتنا الحضارية"3.
بعد نهاية الفصل الأول من مسرحية انتقال السلطة، أطلق النظام سراح مئات المعتقلين السياسيين بأوامر شخصية من بشار الأسد، وكذلك أغلق سجن المزة سيء الصيت وقالوا إنهم حولوه إلى مشفى.
لم يتفاجأ العالم بتوريث السلطة في بلد نظامه السياسي جمهوري برلماني لأكثر من سبعين عاما! كان الجميع يعلم ويبارك.
هذا ليس تواطأ فحسب، بل تلخيصا للنظرة الدونية من أنظمة العالم الأول تجاه الشعوب العربية التي يرتضى لها النماذج المحنطة المجربة -التي تصل الحكم بأي طريقة وتمارس السلطة كما تشتهي- المهم أن توافق هواه وليس بالضرورة أن توافق هوى شعوبها. بدل انتقاد الحركة (كأضعف الإيمان) راح يبحث سبل التعاون وآلية البناء على الوضع الجديد، وتشريع الأبواب للوريث وإعطاء النصائح..
"على واشنطن مساعدة بشار.. هناك أمل بأن  تفتح صفحة جديدة مع الداخل والخارج.. وليس من الكياسة أن نهاجم بشار من اليوم الأول يجب أن نرحب به بحسن نية ونقول إننا مستعدون للمساعدة.. أمام بشار خياران التحديث أو الحكم... إننا نأمل أن يسير في طريق التحديث لكن هذا ربما معناه التنازل عن بعض السلطة، وإذا اختار الحكم لن يجد وقت للإدارة.. إنه أصغر رئيس جمهورية في العالم، وهو الذي سيختار ماذا سيفعل ونحن نراقب"4.
اختار بشار الحكم وسنكتشف الآن بعد تلك السنين أنه لم يضع نفسه أمام خيارين بل هو عارف تماما ماذا سيفعل، يريد الحكم ويريده مطلقا كأي وريث لمزرعة والده.
هذه الهدنة ستمتد شهورا قليلة.. وسيكون ما رافق انتقال السلطة "الفضائحي" من تخفيف للقبضة الأمنية منعا لانفجار الواقع المعبأ تماما بالأزمات، والثقب الصغير الذي فتحه في جدار الخوف والصمت خطاب القسم دافعا للسوريين للعودة للحياة العامة والاهتمام بالشأن العام، سعيا لاجتراح مساحة للتعبير الحر من العدم.
السلطة في سوريا مكشوفة تماما بكل أفعالها وعنجهيتها، وكل الطرق لإضفاء المشروعية على انتقال السلطة كانت مكشوفة أيضا. المجتمع السوري تعامل بذكاء مع ذلك وجارى ما تقدم له من هامش النقد والاعتراض، واستغل الطرح المكثف لشعار التطوير والتحديث وما رافقه من وعود عن التنمية والقضاء على الفاسد وفتح الأبواب المؤصدة بوجه الحوار الوطني.
ربيع دمشق
تصعب صياغة تعريف للربيع هو الذي يعرّف نفسه، فما بالك بربيع في دمشق بعد عقود من التصحر وشتاء النظام القاسي الخانق، وبعد موت الحياة السياسية والرزوح تحت حكم نظام أبوي أوتوقراطي5، يأتي زمن يشعل الحياة في الأركان.
هذا أمر عظيم حول سوريا إلى ساحة عامة للنقاش والعصف الذهني والمقترحات والمطالب والتعبير الحر والجريء والصافي عنها، أهم المظاهر كانت محاولات إحياء المجتمع المدني وانطلاق المنتديات (منتدى الحوار الوطني، منتدى جمال الأتاسي، منتدى الحوار الثقافي، المنتدى الحضاري..) وغيرها الكثير.
لم تبقَ بلدة، ولا حي، من دون أن يتنادى مثقفوه لإنشاء منتدى حتى قيل إن عددها وصل زهاء مئة وسبعين منتدى في كل أرجاء سوريا من دمشق إل القامشلي6.
وفي البحث عن عنوان لتلك الفترة وجد أهلها أن يسموها في رثائها "ربيع دمشق"، وكان يجول بخاطر القوم آنذاك ربيع براغ 1968 للتغييـر الديمقراطي في تشيكوسلوفاكيا في مواجهة الاستبداد، وربما تيمنا بأجـواء تفتح الأزهار في فصل الربيع، بعــد شتاء قارس وطويل عاشــته البـلاد.7
وصف تلك الفترة د. رضوان زيادة بتكثيف مدهش "إنها طفرة في تاريخ السكون المتصل".
أيلول الأول
ما كان يفعل سرا وفي صالونات البيوت من نقاشات وحوارات وخطط وما يكتب من أوراق على مدار سنين خبأت تحت الأرض أو حفظت في القلوب، كل هذا سيظهر للعلن ليس فقط كبالونات اختبار للسلطة الجديدة (برأسها على الأقل) بل سعيا لإنقاذ البلاد المنهارة تماما. وبهذا الوصف تحديدا كانت الشرارة وقد قدحها المفكر السوري أنطون مقدسي وهو مثقف غير سياسي ورجل لبق.. أرسل إلى بشار الأسد عبر صحيفة الحياة اللندنية رسالة في 14 من آب 2000 هنَّأه فيها وذكّره بما قاله في خطابه عن احترام الرأي الأخر وإعلاء مفهوم الدولة على الزعامة..
"إن الوضع انهيارٌ عامّ، سياسي واقتصادي وأيضًا ثقافي وإنساني... الشعب غائب تماما وبحاجة لأن تعود له ثقته بنفسه وبحكومته.. من ثم يتحول من وضع الرعية إلى وضع المواطنة"8.
يمكن اعتبار هذه الرسالة الجريئة رأس السهم التي عبرت وسيعبر خلفها المثقفون والناشطون إلى أيلول الأول، وتأسيس حالة النشاط المجتمعي المذهلة، طبعا مع الآخذ بعين الاعتبار عدة مواقف وكتابات على رأسها مقالة المعارض والسياسي السوري العتيق رياض الترك "من غير الممكن أن تظل سوريا مملكة الصمت" التي نشرها منتصف تموز 2000، وكانت واحدة من السابقات التي أسهمت بكسر جدار الخوف والصمت.
ومن غير المتوقع طبعا أن تتقبل السلطة هذه الكلمات وإن كانت من الأشد وطنية وحرصا وهي لم تتعود أن تسمع غيرها، ربما لم يتعرض صاحب الكلمات وقتها للسحل بالشوارع أو القذف في بطن زنازين المخابرات الجوية كما سيحصل لاحقا كون حكم الرئيس ما زال طازجا، لكن لا بد من عقاب، فكان أن فُصل مقدسي من وظيفته كمدير لمديرية التأليف والترجمة والنشر في وزارة الثقافة التي أفنى فيها عمرا، لكن شيخ المثقفين السوريين لن يستكين.
تمضي ورشة إحياء المجتمع المدني السوري، فروادها قطعوا شوطا قصيرا في هذا السياق وكان عبارة عن محاولة لمد الأيدي والمساهمة في عملية الإصلاح -إن كان ثمة أحد في السلطة راغب حقا في ذلك- أثمرت المحاولة صياغة بيان تأسيسي لجمعية "أصدقاء المجتمع المدني" دعا البيان لخلق حوار بين المجتمع والدولة لأجل الوطن، ورأى أن تفعيل دور المجتمع المدني هو السبيل الوحيد لبناء دولة للجميع.
هل كانت السلطة بعيدة عن كل ذلك؟
نعم، ولا. نعم لأن السلطة كانت بعيدة من حيث المشاركة أو العبث أو التغطية. ولا، لأنها كانت تعلم وتراقب كل هذا الحراك، ثمة حرج مما سميناه انتقال السلطة "الفضائحي" منعها من ممارسة أفعالها المعتادة، وبلا شك كان الاهتمام العالمي بمراقبة الأوضاع في سوريا مانعا آخر فضلا عن أن وسائل الاعلام كانت مهتمة وبشدة بمتابعة ما يجري، وكثير منها أبدى جاهزيته ليكون منبرا مفتوحا. هنا الحديث عن وسائل إعلام لبنانية وعربية مستقلة وهذه سيكون لها دور كبير لاحقا.
حُمل ملف الترخيص والبيان التأسيسي إلى مكاتب المسؤولين تحت إبط عضو مجلس الشعب النائب رياض سيف الذي كُلف من قبل مجموعة المثقفين والناشطين أصحاب فكرة الجمعية بالسعي للحصول على ترخيص رسمي وكان الرجل تبنى فكرة العمل بشكل رسمي.
أول رد تلقاه سيف، كان من اللواء بهجت سليمان الذي أخبره أنه على علم كامل بما كان يدور حتى في الاجتماعات. سليمان وبوقاحته المعهودة رد بأن "غالبية ما يسمى منظمات المجتمع المدني ما هي إلا وسيلة وغطاء لأنشطة المنظمات الماسونية العالمية أو مرتبطة بأندية الروتاري، التي يتحكم بها اليهود بقصد السيطرة على العالم".
الرد الثاني كان في مساء اليوم ذاته من عبد الحليم خدام الذي كان نائبا للرئيس، أما هذا فذهب أبعد من أندية الروتاري ووصف البيان والجمعية المراد إشهارها بالبلاغ رقم واحد لانقلاب يخطط له تحت يافطة المجتمع المدني، وهو أمرٌ لا يمكن أن يتم. 9
اجتمع الأصدقاء وافترقوا
لم ينته الأمر، بل بدأ، في العاشر من أيلول اجتمع الأصدقاء -من كانوا يبحثون مع السلطة سبيلا لإحياء المجتمع المدني- وعُرضت عليهم نتائج الاجتماع مع بهجت سليمان وعبد الحليم خدام. افترق الأصدقاء ولكل تفسيره وخطته التي يريد أن يطبقها، لأنهم أناس عاديون وليسوا ملائكة تميزهم فقط أحلامهم وسنوات نضالهم، كان لكل منهم رأي في الخطوة التالية، من يريد أن ينتظر الترسيم ومن لا يقبل التسقيف10، ومن يريد أن يكمل حلمه كما يشتهي.
في دمشق أي فعل مهما كان بسيطا تراه السلطة انقلابا أو عمالة فالاستمرار به هو ضرب من ضروب الثورة وهذا ما كان.
ثلاثة أيام ويؤسس منتدى الحوار الوطني ويعلن عنه. الدعوات وزعت مروّسة بعبارة لبشار الأسد من خطاب القسم "لا يُبنى المجتمع ولا يتطور ولا يزدهر بالاعتماد على شريحة أو جهة أو مجموعة، بل يعتمد على تكامل عمل الكل في المجتمع الواحد".
كانت الفكرة حديثة، شهية ومجربة بشكل محدود قبل عامين 1998 حيث كان هذا النوع من الحوارات برنامجا انتخابيا للمرشح رياض سيف مؤسس المنتدى وحملت وقتذاك اسم "جلسات الحوار الوطني" بحثت في الشأن السياسي والاجتماعي والحقوقي بجرأة نادرة، ومثلها فعل المرشح الاقتصادي عارف دليلة.
حظي المنتدى باهتمام على كل المستويات وبين كل القطاعات حكي وكتب عنه وله وضده، وبالإضافة لحداثة الفكرة ودهشتها فإن الكلام بالشأن العام عموما في سوريا كان حلما، فأصبحت المنتديات تحقيقا للأحلام فزاد الاهتمام، وانتشرت.
الجلسة الأولى في المنتدى كانت الشعلة نتيجة الشرارة ومع من قدحها أنطوان مقدسي صاحب الرسالة -ألم أقل لكم لن يستكين شيخ المثقفين- وكانت محاضرته الأولى عن المجتمع المدني في سوريا.
وتوالت الجلسات، لم تكن تحمل فقط أفكار المحاضرين، بل غنية بالحوار والمداخلات البناءة التي عكست دائما رغبة عميقة وربما شوقا لمناقشة الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية السورية بعد ثبات طويل.
"الكتلة اللحمية في فمي لم استخدمها لـ 18 عاما قضيتها في السجن.. فاعذروني إن تلعثمت في الحديث إليكم"11.
هذه العبارة كانت لأحد المشاركين في المنتديات وهو معتقل في سجون الأسد الآب، تدلل على عظمة ما قدمته مساحة التعبير الحر للسوريين، ونشرت القصة وكالة رويترز في مقال لها بعنوان "نقاشات حية بعد صيام عن الكلام".
هل سنبقى مثقفين ثقافيين لا مثقفين سياسيين؟
الجلسات تشعل جدلا واسعا في أوساط السوريين (ناشطين، مثقفين، سياسيين ومهتمين..) وكان السؤال الكبير هل سنبقى مثقفين ثقافيين لا مثقفين سياسيين؟ أليست هذه هي الفرصة الذهبية للشغل في السياسة؟
هنا يمكن القول إن التمايز الذي بدأ مع رفض السلطة تأسيس جمعية أصدقاء المجتمع المدني أصبح أكبر. تمايز بين من يريد أن يبقى في إطار العمل الثقافي والاجتماعي مكتفيا بهذا الدور ورافضا أي عمل في السياسية باعتباره سعيا (غير محمود) للسلطة ويتمظهر ذلك بدور أكبر للمجتمع المدني فقط، ومع هؤلاء من يرى المناخ السوري -سياسيا واجتماعيا- قائما على توازنات وعلى دروس من بطش السلطة ولا يمكن لشهرين أو ثلاثة أن يغيروا كل شيء.
آخرون يرون كل شغل خارج السياسة لا يعول عليه ولا بد من الكي.. البعض ذهب لاختراع نموذج هجين ومقبول.. في أيلول الأول كانت الرؤى كثيرة والطرق والرغبات وكذلك..
أسبوعان بعد انطلاق منتدى الحوار الوطني وما زلنا في أيلول الأول يظهر بيان الـ 99، بيان يوقعه وينشره تسعة وتسعون مثقفا سوريا في 27 من أيلول، حمل الصبغة السياسية أكثر من المدنية من خلال دعواته أولا، وكون بعض الموقعين عليه سياسيين ومن أحزاب معارضة.
بيان صاعق كسر الخوف وكأنه صرخة فدائي مدوية طالب بإلغاء حالة الطوارئ والأحكام العرفية، وبالعفو العام عن المعتقلين وملاحقين السياسيين وإرساء دولة القانون وإطلاق الحريات، والاعتراف بالتعددية السياسية.. وحتى تقوى الصلة بما هو مدني أشار البيان إلى أن أي إصلاح لن يصل لمبتغاه ما لم يواكب إصلاحاً سياسياً.. هو الوحيد القادر على إيصال المجتمع إلى بر الأمان.12
في اليوم التالي كتب الراحل سمير قصير على صدر النهار "سوريا تحيا... في البدء تتوجب التحية، بل تسع وتسعون تحية.. غدا من يدري قد يغدو مضمون البيان بمثابة تحصيا حاصلاً والحق أن البعض لم ينتظر الغد فتبرع منذ الآن بالمساهمة في استسهال الحدث والتخفيف من وقعه".
أما المنتديات فقد تحولت لظاهرة عمت البلاد تعقد جلساتها وأنشطتها دون ترخيص فقد حصلت على ما يسمى شرعية الأمر الواقع13، وبدأت تمارس نشاطها وفقا لذلك، مدفوعة باليأس من الحصول على موافقات قانونية تمثلت بشروط تعجيزية من السلطة ومع ذلك رأى القائمون على بعضها المضي قدما في طلب التراخيص لكن دون جدوى فالقضية لم تكن يوما قانونيا، بل سياسية بامتياز.
مضى أيلول الأول 2000 وشهور بعده وانقضى العام ودخلت البلاد الألفية الثالثة، والحراك بأوجه والنشاط متقد، بدا لسوريا وجه مشرق لفت انتباه الجميع فأصبحت الصحافة العالمية والعربية تهتم وبشدة بما يجري في دمشق، وأرسلت كبريات الصحف والمجلات الأميركية والأوروبية مراسليها لاكتشاف ما كان مستورا، أما وسائل الإعلام المحلية والعربية الموالية للأسد أو المستترة فتردد ما تقوله السلطة، تقرّع الحراك، تصفه تارة بالعمالة وتارة بالعبث والانشغال وإلهاء المواطنين عن قضية المواجهة مع إسرائيل.
هنا لا بد من استثناء جريدة الثورة في فترة رئاسة الراحل محمود سلامة الذي فتح المجال للمثقفين لنشر مناقشات نظرية وسياسية واجتماعية ونشر لكتاب معارضين كالراحل ميشيل كيلو وعارف دليلة وغيرهم، طلب منهم بشكل مباشر الكتابة والنشر في الصحيفة على مسؤوليته "اكتبوا عندنا ولا تكتبوا في الصحف اللبنانية"14.
طبعا لن تخيب السلطة الظن بها، وسيدفع محمود سلامة منصبه ثمنا لما اقترفته يداه، وسيموت بشكل مفاجئ بعد عدة شهور صيف 2011.
المجتمع المدني في سوريا.. العقدة والتعريف
لنتفق أولا أن في سوريا، السلطة "الأسدية" تحتكر كل شيء، الدولة والمجتمع وهذا دستوري تحت قيادة البعث، لا شيء في البلاد خارج إطارها، تحتكر الشأن العام وإدارة الدولة ولا يحق لأي سوري العمل أو الحديث أو حتى التفكير خارج هذه المحددات، منذ منتصف السبعينيات حتى موت حافظ الأسد وتوريث بشار دفع كثير ممن أرادوا الشغل في السياسة أو حتى التفكير فيها حياتهم أو حريتهم ثمنا لذلك، وكان العقاب عابرا للطبقات والطوائف والانتماءات وهذا يدلل بشكل واضح أن الشأن العام كله بيد مجموعة بعينها تدبر وتدير شأن "الرعية" ولا تسمح لغيرها بالمساس بهذا "الحق المكتسب" أو حتى الاقتراب منه.
سيعبر مصطفى طلاس وزير الدفاع في 2001 عن ذلك بوضوح وصراحة
"إننا أصحاب حق ولن نقبل بأن ينتزع أحد منا السلطة لأنها تنبع من فوهة بندقية ونحن أصحابها...  لقد قمنا بحركات عسكرية متعددة ودفعنا دماءنا من أجل السلطة"15.
على المقلب الآخر كان المجتمع السوري ناضجا بما يكفي ليستغل ظروفا رأى فيها فرصته الذهبية فحاول العبور لإحياء نفسه، بدأ تحت مظلة الثقافة فكانت منطلق المبادرات وغايتها، وخلت أجندة هذه المبادرات من أي فعل سياسي ولم يكن لها هدف سياسي، تريد فقط أن تكون مستقلة عن غلاف المؤسسات الرسمية الباردة.
إحياء المجتمع المدني هو الوصفة السحرية التي ستقيه شر سلطة الأسد الجديد وتعبر به وبالبلاد لبر الأمان المنشود من خلال منظمات ووسائل إعلام حرة متعددة ونواد ومؤسسات.. جوهرها الخيار الديمقراطي، ولا يمكن للديمقراطية أن تتجسد إلا عبر نهوض المجتمع المدني وخلق حوار نقدي بين المجتمع والدولة من أجل مصلحة الوطن، كما أن تفعيل مؤسسات المجتمع يُعتبر السبيل الوحيد لبناء دولة حقيقية للجميع وتحقيق حراك اجتماعي فاعل16.. وهذا تحديدا ما رفضه عبد الحليم خدام عندما عرض عليه النائب رياض سيف طلبا لتسجيل جمعية أصدقاء المجتمع المدني، واعتبره البلاغ رقم واحد لانقلاب يخطط له تحت لافتة المجتمع المدني، وأخبره حينها أن ينتظر بعض الوقت ريثما يصدر قانون للأحزاب، "أسسوا حزباً سياسياً يمكنه دخول الجبهة أو ممارسة نشاطه كمعارضة بشكل نظامي"17.
هذه هي العقدة تماما، عقدة السلطة أنها مسكونة بالانقلاب والإقصاء والخوف، لا تعترف أصلا بالمجتمع إلا كرعية وتتجاهل أنه كيان يمكن أن يكون له مشاركة أو حراك، وعليه كانت كل ردود الأفعال وقتها عبارة عن اتهامات بالعمل السياسي الحرام.
طبعا السيد عبد الحليم خدام كان يكذب وكان يعلم أن ما يقوله هراء لن يصير واقعا لسبب بسيط هو طبيعة النظام بذاته. النظام الذي كان مسيطرا تماما بالاحتكار والعنف مستخدما كل ما أوتي من أدوات الخنق وهو بالضرورة سيتراجع طبيعيا عن هذه السيطرة المطلقة، وسينسحب من بعض المواقع للتخفيف من أعباء لم يعد قادرا على تحملها، وقتها لن يكون أحياء المجتمع المدني منة أو فضلاً، بل حاجة.
هنا أريد ان أذكركم أن السلطة لم تدرك ذلك بإرادتها، وبكل عنجهيتها لم تفكر هكذا رغم أن رواد حركة المجتمع المدني ومن جذبوا لخطهم -هؤلاء كثر- كانوا يفكرون بإيجابية، بل هيئوا دائما الظروف لتجاوبها وحثها على الإصلاح والحوار وتجسير الهوة بين "دولة السلطة" والمجتمع، حتى اتهموا بأنهم ضعفاء ولم يستثمروا فرصة الخلخلة جراء التوريث وكانت مطالبهم بسقف منخفض تنحصر بتحسين شروط المعيشة، وتخفيف القبضة الأمنية ومحاربة الفساد.. ولم تتعدى ذلك.. ربما هذا بالإضافة لليأس والحماس ما جعل فئة ممن سعوا لإحياء المجتمع المدني كمبادرات ثقافية / اجتماعية ينفضوا إلى البيانات السياسية المباشرة (بيان الـ 99، بيان الألف).
أما عن التعريف الذي أراده مثقفو سوريا تلك الفترة سعيا لتغيير المتخثر والمحنط من الخطاب والممارسات والشعارات والأهداف، تغيير بناء في المجتمع حتى يسترد عافيته ويصحو وهذا لا يعني الزهد في السلطة، بل إدراكا ذكيا أن خطوة التعافي لا بد أن تكون السابقة، وهذا ما حصن كل الحراك السوري في تلك الأثناء من أن يحسب لحزب أو أو جماعة، إذ بقي ملك المجموع بحراكه الأعم الأوسع. رهين المجتمع أكثر من كونه تعبيراً عن تلوينات حزبية وعقائدية مختلفة ومتباينة.18
"إن المبادرة إلى التغيير تأتي من المجتمع ولا تنتظر الإصلاح من فوق. صحيح أن أخذ المبادرة (من تحت) تطلب في الحال السورية الانتظار الطويل لحدوث التبدل (من فوق) لكنه تبدل.. وعلى عكس ما كان يروج، لم ترافق عملية انتقال السلطة إلى بشار الاسد أي خطوة واضحة في اتجاه الإصلاح السياسي"19
مع بداية العام 2001، والهدنة تكاد تنتهي مع "التمكين" لم يلبث المجتمع السوري طويلا حتى أحس أن خطاب القسم لم يكن سوى عبارات مستوردة زين بها السرد الخطابي دون نيات حقيقية للعمل.
انتشرت المنتديات الثقافية وقليل منها سياسي، الحكي في السياسة صار عاديا بحد ما وهذا لم يكن يروق للسلطة التي تضيق وترسل إشاراتها دون قمع أو أفعال مباشرة، يشارك رجالاتها في بعض الجلسات للعبث وإثارة الفوضى والتوتر ويشيعون بين الناس تهماً بالعمالة والتخوين لمن يشارك، رغم أن المنتديات كانت علنية ومفتوحة للجميع، للحضور أو المشاركة وحرصت دائما على السقف الوطني والمسؤولية الوطنية، في تجربة فريدة "خاصة خالصة" تتحايل على الخطوط الحمر والممنوع.
بالتوازي، وفي الأول من كانون الثاني أصدر 55 محاميا سوريا بيانا طالبوا بمراجعة دستورية شاملة وبإلغاء القوانين والمحاكم الاستثنائية وإطلاق الحريات العامة وفي 10 من كانون الثاني، صدر "بيان الألف"20، انتقد تماهي السلطة والدولة وتماهي الشخص والمنصب الذي يشغله، وصبغ الدولة بصبغة الحزب الواحد واللون الواحد والرأي الواحد.. وطالب بوقف العمل بقانون الطوارئ وإلغاء الأحكام العرفية والمحاكم الاستثنائية.. وإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين.. وإطلاق الحريات السياسية.. وإصدار قانون انتخاب ديمقراطي.
الأحداث تتسارع وكل يوم تشهد الساحة السورية تطورا جديدا. هذا النشاط المكثف المترافق مع مضايقات خفيفة من السلطة تتوج بالعفو العام الذي أصدره بشار الأسد في 17 من كانون الثاني الذي شمل مئات المعتقلين السياسيين من جميع التيارات الإسلامية واليسارية، وهذا ما دفع كل شيء للأمام ورفع السقف وكبرت الأحلام.
أنتم في سوريا
أحست السلطة بحرارة الأجواء وتنبهت لحساسية ما يجري، وإن ما يجري أمر لو تعلمون عظيم. يظهر وزير الإعلام عدنان عمران ليصرح بأن "دعاة المجتمع المدني استعمار جديد". بعد أيام من هذا التصريح وتحديدا في السابع من شباط 2001 ألقى د. رضوان زيادة محاضرة في منتدى الحوار الوطني بعنوان "المأزق السياسي وإشكالية التغيير الديمقراطي في سوريا"، وهي أول محاضرة تدخل في معالجة الوضع السوري مباشرة دون مقاربات عيانية عن الواقع العربي، وقد شهدت اهتماماً إعلامياً لافتاً لاسيّما لجهة طرحها لسيناريوهات التحول الديمقراطي المستقبلية.21
في اليوم التالي للمحاضرة جرى الإعلان عن شروط لتقييد نشاط المنتديات أو بالأحرى وقفها نهائياً من خلال وضع شروط تعجيزية لتنظيمها وترافق ذلك مع تعميم من القيادة القومية لحزب البعث تتهم فيه المثقفين السوريين بأنهم "عملاء ومرتبطون بالخارج". بذلك لجمت السلطة الآمال بتحقيق انفتاح وحراك سياسي.
مرة أخرى عبد الحليم خدام يتصدر المشهد وفي اجتماع دعا له في مدرج جامعة دمشق 18 من شباط، هاجم المثقفين السوريين ووصفهم بعملاء السفارات والمدسوسون أما الأطروحات التي تدعو إلى إحياء المجتمع المدني رأى فيها دعوة لــ"جزأرة سورية" (ربطا بأحداث الجزائر الدامية وقتها لا تزال قريبة العهد).
خدام الذي طلب من النائب رياض سيف ورفاقه انتظار قانون الأحزاب -كان يعلم أنه يكذب- قال أيضا  "لدينا آلية عمل سياسي سنطورها، ولكن لن نستعيض عنها بآليات أخرى قبل أن يتوفر أمن الطعام والعمل للناس... إذا استغرق هذا سنة أو سنتين أو ثلاثا فهي ليست مشكلة"22.
ذَوَى الربيع..
عادت الملاحقات الأمنية المكثّفة وزاد الضغط على المثقفين ومنعت محاضراتهم ومنعوا من السفر، أوقف منتدى الحوار الوطني برنامج محاضراته وأعلن النائب رياض سيف تحويله إلى مضافة قبل أن يُعلن نهائياً إغلاقه في بيان رسمي صدر في 12 من آذار 2001، وفي حديث مع وكالة الصحافة الفرنسية وبعد أن رفعت الحصانة عنه وحركت دعوى قضائية ضده بتهمة الطعن في الدستور، قال "يبدو أن ربيع دمشق قد انتهى"، ليصبح هذا المصطلح أشبه بالتعبير التاريخي الذي يُطلق لوصف مرحلة تاريخية مرّت بها سوريا، ويستخدم في رثاء تلك الأيام.
حزيران 2001 زار بشار الأسد باريس والتقى الصحفيين على هامش الزيارة وأجاب عن سؤال متعلق بربيع دمشق وهذه كانت إجابته، ربما يجوز عرض ما قاله على سبيل السخرية، لكن هذا نص الإجابة حرفيا وهو منشور في صحيفة تشرين 28 من حزيران 2001..
"كلمة ربيع لا تعنينا كمصطلح فالربيع هو فصل مؤقت.. يعجب البعض والبعض الآخر يحب الشتاء وإذا أردنا ان ندخل في التحليل نقول: إن الثمار تأتي في الصيف، ولكن لا يوجد ثمار من دون ربيع تتفتح فيه الأزهار، ولا يوجد ربيع دون أمطار تهطل في الشتاء، ونحن لانبحث عن التكرار بآلاف وملايين السنين. هذه الفصول الأربعة موجودة عبر التاريخ ونحن نبحث عن التطوير. كلمة التطوير مناقضة لكلمة ربيع أو أي فصل. نحن لا نبحث عن عملية الفصول الأربعة وإنما نبحث عن عملية تطوير حقيقية..."
النذر
حاول القائمون على الكثير من المنتديات الحصول على تراخيص ولم يفلحوا. لجنة منتدى الحوار الوطني قررت اجتماع أعضائها كل أسبوعين دون محاضرات، تُناقش الوضع العام في البلاد، وتحولاته.
الهيئة التأسيسية للجان إحياء المجتمع المدني أصدرت عدداً من البيانات وفي الخارج دعا مثقفون مبعدون إلى تشكيل مجموعة عمل تهدف إلى مساندة المثقفين في الداخل.
في 30 من تموز 2001 صدر بيان عن لجنة إدارة منتدى الحوار الوطني تعلن فيه عودة النشاط، أذاعت وسائل إعلام أجنبية وعربية النبأ باعتباره حسب وصفهم "عودة جديدة لربيع دمشق". وفي 5 من آب ألقى رياض الترك محاضرة في منتدى جمال الأتاسي دعا فيها إلى نقل سوريا من حالة الاستبداد إلى الديمقراطية.
بالتزامن مع ذلك أعلن عضو مجلس الشعب مأمون الحمصي إضرابا عن الطعام احتجاجا على حالة الطوارئ، وأصدر بيانا يطالب فيه برفع الطوارئ فاعتقل ونزعت عنه الحصانة البرلمانية، ليكون أول نائب سوري يعتقل في قضية سياسية رغم الحصانة البرلمانية.. وعاد أيلول.
أيلول الأخير "الأسود"
كانت الأنظار متجهة إلى منتدى الحوار الوطني الذي أعلن عن محاضرة للمفكر السوري برهان غليون الذي آتى إلى دمشق خصيصاً من باريس كي يفتتح نشاط المنتدى ورغم التهديات الأمنية المباشرة أقيمت المحاضرة في موعدها ومكانها يوم 5 من أيلول تحت عنوان "مستقبل الإصلاح والتغيير في سوريا: نحو عقد وطني جديد".
غصّ منزل رياض سيف مكان المحاضرة بالحضور، واستمر النقاش 5 ساعات متواصلة حيث قدَّم أكثر من 30 شخصاً مداخلاتهم وتعقيباتهم.23
مرت المحاضرة بسلام، لكن في اليوم التالي بدأت السلطات موجة من الاعتقالات طالت النائب رياض سيف وكانت اعتقلت رياض الترك، وتاليا جميع من كانوا رواد الربيع ونشر فرع الأمن السياسي لائحة تضم ثلاثين مثقفاً سيجري اعتقالهم وفعلا اعتقل معظمهم أخرهم كان في 11 من أيلول/ سبتمبر 2001.
وكما شاءت الأقدار بأن تعطي فرصة للتغيير في أيلول الأول، شاءت أن يكون نفس اليوم الذي ستهاجم به الولايات المتحدة الأميركية ليتحول اهتمام الإعلام بشكل مطلق وتام بعيدا عن سوريا والسوريين وهمومهم وربيعهم الذي صار خريفا، يمر ثقيلا بصمت دون أن يسمع ضجيج الضحايا.
إن العالم لن يشبه نفسه بعد الحادي عشر من أيلول 2001، وسوريا أيضا لن تشبه نفسها، إذ سُحقت آخر زهرات الربيع في ذاك اليوم وعادت دمشق مكسورة الخاطر إلى ظلمات حكم الأسد بعد أن تنفست هواء نظيفا لنحو عام تقريبا بين أيلولين.
كان ربيعا، لكن بلادا يحكمها أسد باستمرارية 50 عاما لا تزهر فيها الأَرْبعة.
بعد ربيعين تقريبا، وفي 2003 يستعير الراحل حاتم علي الاسم والحالة ويقدم مسلسل ربيع قرطبة بصورة بديعة عن نص رائع لوليد سيف يحكي عن الفترة التي ازدهرت فيها قرطبة قبل زمن ملوك الطوائف. ويقدم شخصية محمد بن أبي عامر "محملة ببعض الأخطاء التاريخية" لكنها تحكي سيرة من وصل للحكم فوعد وأكثر.. وتمكن، فطغى وتجبر، ونسي ما كان وعد، ينتهي الربيع بموت صبح.. وكأنه يتنبأ ويحذر.
"حكم المنصور سبعة وعشرين عاما.. على أن الدولة بعده لم تلبث غير سنوات معدوات حتى انهارت.. واجتاحت جموع الثورة الزهراء والزاهرة وكانت عناصرها من جميع الطبقات والفئات والمشارب..."24
وبعد عشرين عاما سيتذكر العالم أحداث الحادي عشر من أيلول وما حدث في الولايات المتحدة وينسى ربيع دمشق وتنسى سوريا التي تطحن وأهلها منذ عشر سنين وسيكتب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في يوم الذكرى "لن ننسى أبدا.. سنقاتل دائما من أجل الحرية".
1 مداخلة للراحل ميشيل كيلو مع إذاعة سويسرا العالمية 2001
2: باتريك سيل - صحيفة الحياة 12 حزيران 2000
3: بشار الأسد من خطاب القسم، تموز 2000
4: ديفيد ورومسار، خبير في شؤون الشرق الأوسط في المعهد الأمريكي لأبحاث السياسة العامة "على واشنطن مساعدة بشار" مجلة المجلة اللندنية  - حزيران 2000
5: برهان غليون - عطب الذات
6: وائل السواح - مقدّمات الثورة السورية (5): جدل السياسة والثقافة: لمن الأولوية
7: رياض سيف – سيرة ذاتية وشهادة للتاريخ
8: أنطوان مقدسي - رسالة إلى الرئيس السوري: من الرعية إلى المواطنة صحيفة الحياة آب 2000
9: رياض سيف – سيرة ذاتية وشهادة للتاريخ
10: رياض سيف – سيرة ذاتية وشهادة للتاريخ  - التسقيف تعني وضع سقف وهي  كلمة استعملها الراحل ميشيل كيلو للتعبير عن رفضه إعطاء حق الفيتو لرياض سيف على أسماء من سيدعون للمنتدى وقال "ما بدنا رياض سيف يسقفنا" وبعدها افترق كل منهم بطريق
11: روى هذه الحادثة د. رضوان زيادة في مقابلته على تلفزيون سوريا في برنامج المنعطف
12: رضوان زيادة - ربيع دمشق: قضايا - اتجاهات - نهايات
13: رضوان زيادة - من أجل مجتمع مدني في سوريا
14: سمير سعيفان - تجربة الإدارة بالأهداف في سوريا 1999 – 2000، مركز حرمون
15: مصطفى طلاس في حوار مع مجلة "المجلة" أيار 2001
16: رضوان زيادة - من أجل مجتمع مدني في سوريا
17: رياض سيف – سيرة ذاتية وشهادة للتاريخ
18: رضوان زيادة - ربيع دمشق: قضايا - اتجاهات - نهايات
19: سمير قصير - سوريا تحيا، أيلول 2000
20: الوثيقة الأساسية لــلجان إحياء المجتمع المدني، وقع عليها ألف مثقف وناشط مدني، عُرفت اختصارًا بـ “بيان الألف“.
21: رضوان زيادة - من أجل مجتمع مدني في سوريا
22: وكالة الصحافة الفرنسية 18/2/2001
23: رضوان زيادة - من أجل مجتمع مدني في سوريا
24: مشهد الختام في مسلسل ربيع قرطبة بصوت حاتم علي – إنتاج 2003