الرئيسة \  مشاركات  \  غربة الفقه السياسي

غربة الفقه السياسي

18.08.2018
د. سعد الكبيسي


(الأسباب) ح1
قد لا نعجب حين نرى ظواهر التطرف والغلو أو ظواهر التمييع والشرعنة في وسط يعج بالنوازل والمشكلات وينتظر من علماء الأمة ومفكريها الحلول لكبرى القضايا التي تهم الشأن العام
قلة قليلة من أصحاب الفكر والفقه يقوم بمهمته
حيث نجد الفقه السياسي وفقه الشأن العام يعاني من غربة عند كثير من نخبنا الشرعية والفكرية لذا تجد الفوضى
والخلط الشديد في موضوعات هي الاكثر أهمية وآثارا في حياة المسلمين وتحديد مصائرهم أفرادا وجماعات
كما لا يخطئ الناظر حين يلاحظ أن هناك فصاماً نكداً بين بعض علماء الشرع والسياسة، أو بتعبير آخر ضعف فقه السياسة الشرعية عند جمهرة كبيرة من علماء الشرع، حتى ممن عرف بالتضلع والتقدم فيه، وقد يكون لذلك جملة من الأسباب نذكر أهمها:
1. الأسباب التاريخية، إذ لا حاجة إلى التأكيد على أن الشرع الحكيم أعطانا منهجاً متكاملا وقيماً شاملة موجهة في مجال الادارة والحكم والسياسة، فالنبي (عليه الصلاة والسلام) كان المبلغ والمعلم والمربي وقائد الجيش ورئيس الدولة، فهو حين كان يقيم الدولة والحدود ويجاهد ويهادن ويحارب ويسالم ويزاول الشورى ويضع المواثيق والمعاهدات فإنه كان يضع الأطر الإسلامية والقواعد العامة للفقه السياسي في الإسلام، ومضى على هذه السنة الخلفاء الراشدون، لكن بعد ذلك في حقبة الملك العضوض والتي واكبتها حقبة الاجتهاد الفقهي والتدوين، فإن ما كتب في مجال الفقه السياسي أو السياسة الشرعية على رغم ثرائه فإنه لم يكن يؤخذ بكليته في مجال الممارسة تبعاً لعدة عوامل، فلو نظرنا إلى مجال التطبيق السلطاني لاجتهادات الفقه السياسي لوجدناها حاضرة وبقوة في مجالات الجهاد والعلاقات الدولية والحسبة والحدود والسياسة الاقتصادية والمالية والقضاء، إلاّ أن الفتور أصاب مجالاً واحداً تجمد الاجتهاد فيه إلاّ في نطاق ضيّق وهو مجال الشرعية للحاكم ومزاولة الشورى في تعيينه، مع أن هذا الجمود لم يكن على وتيرة واحدة، بل كانت هناك ثورات إجتهادية وفقهية كانت تثري الساحة الإسلامية بين آونة وأخرى، تعيد الأمة إلى المنهج الصحيح في اختيار أولي الأمر فيها، كما نلحظ ذلك في كتابات أبي يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني واجتهادات الأئمة الأربعة وصولاً إلى كتابات السرخسي والجويني والغزالي والماوردي وإبن أبي يعلى والعز بن عبد السلام وابن تيمية وابن القيم وغيرهم.
لكن التراجع الكبير إنما حصل مع بداية حقبة العصر الحديث مع الدولة العثمانية، متزامنا مع التراجع الحاصل في مناشط الحياة كافة في الدولة والمجتمع، وكل ذلك كان تراجعاً، ولم يكن توقفاً أو شبه توقف كما حصل بعد سقوط الخلافة وقيام الدولة العلمانية.
2ـ الاجتهاد في الفقه السياسي يحتاج إلى قدر عال من النباهة والفطنة والذكاء لما فيه من تعقيدات وملابسات، وتقدير للمصالح والمفاسد مع ما يرافقها من شوائب وأخلاط وملابسات
إذ لا توجد في الدنيا مفاسد محضة ولا مصالح  محضة، والوصول إلى الإفتاء السياسي يتطلب الإلمام بعدة علوم، فمهمة العالم الشرعي المفتي في القضايا السياسية أصعب وأشق بكثير من مهمة السياسي نفسه، إذ أن المفتي السياسي يحتاج إلى معرفة بحيثية النازلة السياسية وتفاصيلها والمصالح والمفاسد والموازنة بينهما ليصل إلى فتواه.
والحقيقة فإن الأمة تعاني من الندرة في وجود مثل هؤلاء العلماء النابهين الأذكياء، كون التخصص الشرعي _ غالباً _ ما يتجه إليه من لا يجد كلية أخرى تقبله وتؤويه من اصحاب المعدلات المتدنية، وممن لا يملكون الطاقات والمؤهلات الذهنية المطلوبة لهذا التخصص العظيم، مع قلة العائد المادي المرجو منه، إلى آخر قائمة الأسباب الأخرى، ولهذا قل عندنا العلماء المبرزون في الفقه عموماً والفقه السياسي خصوصاً.
3ـ المناهج الشرعية المقررة في التعليم الديني قد أقصيت منها مفردات الفقه السياسي في الجهاد والقضاء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعلاقات الدولية، إذ أن الدولة العلمانية –التي تفصل الدين عن السياسة- قد أبقت على مفردات المناهج الشرعية في العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية وغيرها مما لا يشكل خطراً على السلطة، أو يصوغ تصوراً لدى الدارسين الشرعيين عن الحكم والإدارة والاقتصاد والقانون الدولي والدستوري، وبذلك تم علمنة المؤسسات الشرعية التعليمية مع علمنة الدولة والمجتمع.
لقد درسنا المناهج الشرعية في الدراسات الاولية والعليا، لكننا لم ندرس حتى ولا من بعيد شيئاً من مفردات الفقه السياسي، ولتتعزّز المشكلة بغياب تدريس هذه العلوم في المساجد أيضاً لينتج لنا بعد ذلك اما متعلم يجنح نحو الغلو والتطرف والتكفير أو نحو التسيب والشرعنة والعيش في الماضي
4ـ إن السياسة الشرعية قائمة على المتغيرات والتكتيكات المصلحية بطبيعة الحال، فإن معرفتها تحتاج إلى فقه عميق للواقع والى الايغال في معرفة الأزمنة والأمكنة والأحداث والأشخاص والعدو والصديق والعواقب والمآلات، مما يتطلب جهداً علمياً إستثنائياً وص
براً فريداً على البحث، ومما يجعل مهمة المفتي السياسي في اعتقادي أصعب وأعقد مهمة في الساحة الاسلامية.
5ـ الممارسات اللا شرعية واللا أخلاقية لكثير من الحكام قديما وحديثا، جعلت مصطلح السياسة يشكل استفزازاً لعقول ونفوس كثير من العلماء، مما أضاع ويضيع فرصاً عظيمة في الإصلاح والتغيير على مستوى الدولة والمجتمع، فأصبح يمدح في القديم من ابتعد عن السلطان والقضاء، وفي زماننا أصبحت عبارة (السياسة خساسة) تجري على ألسنة كثير من علماء الشرع.
وقد تكون السلوكيات غير الشرعية وغير الأخلاقية مبرراً مقبولاً للبعد عن السلطة، إلاّ أنه ينبغي عدم نسيان الأوجه الأخرى للمسألة، وهي أن القرب من السلطة من عالم ثقة ذي افق وعلم، فيه من المصالح ما لا يعلمها إلاّ الله، فالنبي (عليه الصلاة والسلام) كان السياسي والمفتي وكذلك الخلفاء الأربعة ومعاوية (رضي الله عنهم) وعمر بن عبد العزيز ورجاء بن حيوة وأسد بن الفرات وأبو يوسف وابن حزم والماوردي والغزالي والقاضي الفاضل وإبن تيمية والعز بن عبد السلام وغيرهم مما كان له رأي واجتهاد في الفقه السياسي، وتأثير على القرار والموقف السياسي وأثر في الحياة العلمية والسياسية على السواء.
فالقضية خاضعة لقانون المصالح والمفاسد في القرب أو البعد من السلطة الحاكمة.
غربة الفقه السياسي
ح2 (الآثار )
د. سعد الكبيسي
لقد مر معنا في المقال السابق الحلقة الاولى اسباب غربة الفقه السياسي ونريد هنا في الحلقة الثانية بيان بعض الآثار لهذه الغربة على الساحة الإسلامية:
1ـ عدم ممارسة المجتمع الإسلامي لحقوقه السياسية بسبب الملك العضوض في القديم والحديث والذي جعله فقيراً أو بالأحرى معدماً من الحد الأدنى من الثقافة والوعي السياسي، فشعوبنا الإسلامية في هذا المجال تعاني من السطحية والبساطة حيث يسوقها الحكام وتدفعها العواطف وتنقصها الخبرات، حتى أصبحت الشعوب ـ بما فيها الحركة الإسلامية ـ أحياناً رصيداً جاهزاً لاستثماره في تصفية الحسابات واستدعائه إلى حروب غير محسوبة، وليست لها أي مصلحة في خوضها، أو حتى في قطف ثمارها إن كانت لها فيها مصلحة.
قلة الوعي السياسي هذه جعلت المجتمع الإسلامي ينظر إلى النخبة السياسية المسلمة أنها تلوث نفسها فيما لا ينبغي، فضلاً عن ألقاب الخيانة والعمالة والتآمر والنفعية التي تطلق جزافاً ومن غير وعي.
كل ذلك دفع نخبة العلماء إلى الانسحاب من الساحة خوفاً من غضب الجماهير بدلاً من أن تمارس دورها الحقيقي في توعية الجمهور من المسلمين توعية شرعية سياسية صحيحة، تراعى فيها مصالح الأمة العليا وتدرأ عنها المفاسد الكبرى.
وتجلى عدم الاستعداد لتحمل تبعات تثقيف وتوعية الجماهير عن بقاء الجماهير تزمجر في الهواء، وتمجد من يخدعها، وتقرر هي من يقودها –دون وعي- ولو إلى الهاوية، وبذلك الانسحاب تنتفي الحاجة إلى الاجتهاد الشرعي في السياسة ونوازل الأمة، لان الجماهير هي التي تجتهد فيها، ويبقى للعالم دوره في الزواج والطلاق والبيوع والحيض والنفاس!!!.
ثم ما تلبث هذه الجماهير أن تصحو وتتعلم ولكن للأسف بعد فوات الأوان.
2ـ إن المستجدات والنوازل في السياسة والاقتصاد تعد الأكثر والأغلب في عصرنا لما حدث ويحدث من تطور وتجدد هائلين في هذين البابين.
وإن هذا التطور معقد أشد التعقيد إلى الحد الذي يجعل الاجتهاد الفردي فيه شاقاً وقليل الجدوى والإصابة، ويجعل غرائب الفتاوى وساذجها تظهر، وتجعل الأفراد من العلماء المخلصين يفرون إلى غيرها من الاجتهادات لما فيها من هذا التعقيد، فتبرز الحاجة أكثر إلى المؤسسات البحثية الشرعية الجماعية لتضم هؤلاء العلماء، وتوفر لهم المعطيات والمعلومات والمصداقية.
لقد سدت مجامع الفقه الإسلامي المتعددة كثيرا من النقص وبذلت في هذا الصدد جهوداً مباركة، لكن غالب قراراتها في المعاملات المالية والطبية والاجتماعية، وليس لها فتوى في الفقه السياسي، ربما لسببين:
الأول: لأن الفتوى فيه خاضعة لظروف هذا البلد أو ذاك وليس من الصواب وجود فتاوى عامة.
الثاني: وجود الأنظمة السياسية التي لا تطلق العنان للاجتهاد في مثل هذا الباب.
3ـ إن المستجدات والنوازل السياسية عولجت من كثير من فقهائنا ومفتينا من خلال التفتيش في بطون الكتب عن فتاوى السابقين لمشاكل الحاضر، وكم بين الماضي والحاضر من فروق واختلافات، فمثلاً موازين القوة والضعف، ودار الكفر ودار الإسلام، وآليات الشورى والانتخاب، وتصنيف الأعداء، وفقه الأقليات، والحاكم المسلم الذي لا يحكم بالإسلام، وغيرها كلها طرأ عليها التغير الشديد الذي يحتاج إلى الاجتهاد الواعي، المبني على المصالح والمفاسد في متغيرات المسائل لا في ثوابتها ـ والثوابت قليل في باب السياسة الشرعية ـ، والضعف هنا نشأ من خلال أقيسة مع الفارق، يقوم بها بعض الفقهاء فيقيسون الماضي على الحاضر، وفي هذا ما فيه من الخطأ الجسيم إذ الفتوى تتغير زماناً ومكاناً وشخصاً.
4ـ إن العلماء والساسة المسلمين حملة مبادئ وقيم، والسياسة قائمة على المصالح المتغيرة والتكتيكات المرحلية التي تحقق وتخدم القيم والمبادئ والاستراتيجيات الكبرى، ونحن مأمورون بتحصيل أعلى المصالح ودفع أعلى المفاسد، وفي ذلك من النسبية وألوان الطيف وعدم الحصول على الحالة المثالية ما تجعل الكثير لا يستوعب، أو يتحمل نفسياً كثيراً من السياسات النسبية الممكنة التي تجلب المصلحة وتدفع المفسدة في حدود الممكن، فيسارع إلى الإنكار قبل الاستعلام، والى رؤية المفاسد دون المصالح، وإلى التطلع إلى الكمال المستحيل دون الممكن المستطاع.
وبذلك ابتعد الكثير من العلماء أو أبعدوا أنفسهم أو أبعدهم السلطان عن الحياة، فلا حصلوا على الكمال الموهوم، ولا جلبوا للمسلمين المصالح المرجوة أو دفعوا المفاسد المتوقعة، وما أمرنا ألاّ بما يستطاع، مما أنتج عزوف الكثير من سواد المسلمين عنهم، ليتعلقوا بذيل علماني أضاع عليهم الدين والدنيا، وتمكّن عندهم الشعور بأن هؤلاء الفقهاء يعيشون في متاهات التاريخ، ولا يفقهون من سياسة الدنيا والناس وتدبيرهم شيئاً، والأولى أن يبقوا في مساجدهم وصوامعهم.
5ـ عدم اتضاح الكثير من الخطوط الفاصلة بين المفتي والسياسي، ولا اعني طبعاً الفصل بينهما فقد يكون المفتي سياسياً ويكون السياسي مفتياً إذا ما جمع التمكّن في الفقه والسياسة، ولكن أعني عدم اتضاح مجال كل واحد منهما، لأنه في الحقيقة وجود المفتي السياسي والسياسي المفتي عزيز ونادر في مثل أحوال عالمنا المعاصر، والمشكلة تكمن في لعب المفتي دور السياسي وهو بعيد عن ألاعيبها وتكتيكاتها ومصالحها ومفاسدها، إذ يحتاج بالضرورة المشورة من أهل الاختصاص من الساسة الثقات ليصدر الحكم الشرعي المناسب، وبالعكس نجد السياسي يلعب دور الفقيه والمفتي وهو يجيز لنفسه كثيراً من الأحكام التي لم تبن على الضرورة أو تبنى على المصلحة الملغاة، إذ هي مفسدة في حقيقة الأمر.
والذي اقترحه في هذا المجال:
أولاً: الضغط في اتجاه تضمين المناهج في المؤسسات التعليمية الرسمية مقررات في السياسة الشرعية، وفتح الأقسام الخاصة بها في جامعات العلوم الإسلامية والعلوم السياسية، وبدرجة أقل في جامعات الإدارة والاقتصاد والقانون.
ثانيا: التركيز على أولوية تدريس السياسة الشرعية في التعليم الديني المستقل والحلقات العلمية الخاصة.
ثالثا: فتح الحوار مع العلمانيين الذين يتصورون أن الفقه السياسي الإسلامي قائم على الثوابت والمطلقات والحلال والحرام دون  مراعاة المصالح، واجزم بدون أدنى شك أن الكثيرين منهم سيصدمون بعد معرفة نظرية الشريعة في الإدارة والحكم.