الرئيسة \  كتب  \  عناوين من المكتبة العالمية والعربية في أسبوع

عناوين من المكتبة العالمية والعربية في أسبوع

16.04.2017
Admin

إعداد مركز الشرق العربي
15/4/2017
 
عناوين الكتب
  1. سلوكيات الفساد تطغى على المشهد الصيني
  2. البهيموت: في وصف النازية المتفلتة من كل قيد
  3. "كنت في الرقة": توثيق للجرائم أم تبييض للإرهاب؟
  4. جان بودريار :روح الارهاب
  5. بيتر كونرادي  :من خسر روسيا؟ كيف دخل العالم حرباً باردة جديدة
  6. نهاية أوروبا.. وعصر الظلام القادم
  7. أفق فلسطين : نحو سلام عادل
  8. أيّ دروس في زمان «بريكست»؟ 400 عام على طرد الأندلسيين المسلمين من بلادهم
  9. أرض جوفاء.. "هندسة" إسرائيل للنظام العنصري
 
 
سلوكيات الفساد تطغى على المشهد الصيني
تأليف: منكسين بيي - عرض ومناقشة: محمد الخولي
التاريخ:27 يناير 2017
يكاد هذا الكتاب يشكل صيحة تحذير، لا بالنسبة للصين وحدها، ولكن بالنسبة لسائر الدول والكيانات السياسية التي تجتاز مراحل مفصلية من التحول من نظم وأساليب الحكم الشمولية إلى حيث تعتمد وتتبع نظماً تقوم على أساس الديمقراطية الليبرالية بكل ما تنطوي عليه من متطلبات الشفافية والمساءلة وإقرار حقوق القواعد الشعبية.
ويحفل الكتاب بحقائق مزودة بإحصاءات موثوقة لما يشوب المشهد الصيني في الوقت الراهن من آفة سلوكيات رأسمالية المحاسيب كما يصفها المؤلف، وهي ظاهرة سلبية بدأت بالذات مع إصلاحات الزعيم دينغ شياو بينغ التي خففت سطوة الدولة على كبرى المؤسسات الاقتصادية.
لم يكن الاغريق يعرفون أن لفظة كرونوس في لغتهم العريقة سوف تؤول في زماننا الراهن إلى أن تصدق على ظاهرة بالغة السلبية في عالم السياسة ودنيا الحكم وساحات الاقتصاد.
لقد اشتق منها عالمنا مصطلح كروني بمعنى طول الزمن، ومن ثم بمعنى الصديق القديم والصاحب الذي طال الأمد على مصاحبته وصداقته. ومن هذا المعنى جاء تعبير محاباة قدامى الأصدقاء والتحيز لمصالحهم، ولو كان ذلك للأسف على حساب مصالح الاخرين.
ثم تطوّر هذا المصطلح إلى حيث صاغوه في الانجليزية المحدَثة على أنه كروني كابيتاليزم. وحين جهدنا في نقله إلى عربيتنا الشريفة المعاصرة توصلنا إلى المصطلح الذي بات ذائعاً في الآفاق وهو: »رأسمالية المحاسيب«. وهذا هو العنوان الذي اختاره مؤلف الكتاب الذي نعايشه في ما يلي من سطور.
رأسمالية المحاسيب في الصين
الكتاب الصادر مؤخراً عن جامعة هارفارد بقلم البروفيسور الصيني الأصل مكسين بيي، أستاذ أصول الحكم في الجامعات الأميركية.
وعلى الرغم مما قد يعكسه الكتاب من موقف حاد تجاه المشهد الصيني الراهن، إلا أن نهج التحليل الانتقادي الذي يتبعه المؤلف، وهو في أصوله كما ألمحنا من أهل الصين ويجيد لغتها، مازال مفيداً في قراءة سلبيات هذا المشهد، الذي يكاد يقارب نظيره في روسيا الراهنة،.
فيما يمكن أن يفيد هذا العرض التحليلي في تنبيه كل الدول التي ما برحت تجتاز مراحل الانتقال وأطوار التحول من نظم ونظريات ومنظومات تجاوزها الزمن، وباتت تقتضي تطوراً في المسارات والتوجهات والأفكار على السواء.
ولأن رأسمالية المحاسيب تنصرف بداهة إلى سلوكيات مرفوضة تقوم على أساس محاباة المقرّبين وتمييز لحساب الصديق والقريب والمنافق على حساب جموع المواطنين من أصحاب الحقوق المشروعة، فإن المؤلف لا يتورع عن إضافة عنوان فرعي لهذا الكتاب في عبارة تقول: ديناميات اضمحلال النظام الحاكم.
تتمثل انطلاقة هذا الكتاب في اللحظة التي تولّى فيها دينغ شياو بينغ ثاني الزعماء التاريخيين للصين الشعبية مقاليد الحكم في البلد الأسيوي الكبير. كان ذلك بعد وفاة زعيمها رقم واحد وهو ماو تسي تونغ (1893- 1976). أعلن بينغ عن قراره باتباع نهج جديد يكاد يكون مغايراً لسلفه موضحاً أن تطبيق الاشتراكية في حكم الصين لن يلتزم حرفياً بالفكر الماركسي بل سيكون له خصائصه الصينية الأصيلة.
سلبيات
لكن أحوال الصين بعد رحيل دينغ شياو بينغ، آلت إلى سلبيات تمثلت، برأي مؤلف كتابنا، إلى تزايد التوترات الاجتماعية وتفشي آفة الرشوة وتفاقم حالة اللامساواة بين فئات المجتمع وشيوع سلوكيات الفساد مما هيأ أكثر من فرصة سانحة للتكسب لحساب الفئات المحظوظة من الأصدقاء والأقرباء وطبعاً على حساب جموع المواطنين العاديين ولدرجة هيأت المناخ لنشوء طبقة جديدة من المليارديرات التايكونات الذين باتوا يتطلعون إلى أن يخدمهم في مساكنهم الفاخرة فئة السقاة على طريقة أرستقراطية الانجليز على نحو ما نشرته »نيويورك تايمز«.
ويذهب المؤلف أيضاً إلى أن هذه الظاهرة بدأت مع استهلال عقد التسعينات من القرن العشرين حيث بدأ تطبيق تعاليم دينغ في كسر احتكار الدولة وسيطرة الأخيرة الحاكمة على كل مقدرات البلاد.
وكان ذلك في جوهره النظري أمراً إيجابياً. لكن ما لبث أن تحوّل إلى النهج السلبي متمثلا كما يوضح مؤلفنا في تحويل المقدرات المؤسسات، المصالح الاقتصادية من سيطرة البيروقراطية الحكومية إلى حيث تخاطفتها أيادي ومصالح المسؤولين الحكوميين ودوائر البيزنس وبارونات الرأسمالية المستجدة.
وتم ذلك كما يضيف الكتاب أيضاً، بهدف مراكمة الثروات من خلال الاستيلاء بطرق ملتوية على الممتلكات التي كانت في السابق في حوزة الدولة الصينية وضمن ممتلكاتها العمومية، وخاصة في مجالات الأراضي المشاع والموارد الطبيعية والأصول التي كانت تضمها المشاريع التي كانت خاضعة لإدارة الدولة.
تورطوقبل أن يشهر القارئ أو المحلل سيف الانتقاد أو التشكك في نوايا المؤلف، فإن البروفيسور منكسين يبادر على طول الصفحات إلى تجميع ما يزيد على 200 حالة فساد تورّط فيها العديد من مسؤولي الحكومة، بل ومسؤولي إنفاذ القوانين، فضلا عن العديد من رجال الأعمال وأعضاء تشكيلات الجريمة المنظمة.
وفي خضّم هذا الخليط من فساد الذمم وانتهازية السلوك وخلل المعاملات، تجلت ظاهرة رأسمالية المحاسيب بكل تداعياتها السلبية على الدولة والحزب الحاكم والمجتمع الصيني بشكل عام.
ظاهرة سلبية
ثم يعلق المؤلف على هذه الظاهرة السلبية موضحاً أن المسألة ليست مقتصرة على مجرد السلوك غير القويم، ولا حتى على الخلل في توزيع المغانم أو المزايا:
لكن الخطأ الأفدح بنظره، مازال متمثلا في أن استمرار هذه الظاهرة من شأنه أن يجعل من أي محاولة جادة ومخلصة للتحول نحو الديمقراطية أو الحكم الرشيد سوف تصادف صعوبات كأداء، وهي صعوبات يراها المؤلف كامنة تحت سطح الصورة الايجابية التي تتسم بها أحوال الصين الدولة والحزب والنظام في الوقت الراهن.
ثم إن المشكلة لا تقتصر في رأي مؤلفنا على المستويات القيادية العليا في الحزب الشيوعي الحاكم أو في بيروقراطية الدولة الصينية: لقد زادت المشكلة حدّة من واقع امتداد فساد رأسمالية المحاسيب إلى حيث باتت تشمل مستويات شتى، بعيداً عن مستوى القمة أو القيادات العليا، وإلى حيث وصلت إلى المستويات القاعدية التي تضم مسؤولين من المستوى المتوسط وأحياناً المستويات الدنيا.
وكله يتم بالطبع على حساب مصالح أوسع قواعد الجماهير من أصحاب المصلحة الأصليين في إدارة الشأن العام.
المؤلف
البروفيسور منكسين بيي أستاذ وخبير متخصص في دراسة النظام وإدارة شؤون الحكم في جمهورية الصين الشعبية وفي علاقات الولايات المتحدة مع الصين، إضافة إلى قضايا التحول الديمقراطي في الأقطار النامية على وجه الخصوص.
وقد نال درجة الليسانس باللغة الانجليزية من جامعة الدراسات الدولية في شنغهاي، وبعدها نال درجتي الماجستير والدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة هارفارد بالولايات المتحدة.
ويُعد المؤلف مرجعاً في قضايا التحولات السياسية والاقتصادية التي ما برحت تطرأ على المشهد العام في جمهورية الصين الشعبية.
تأليف:  منكسين بيي
عرض ومناقشة: محمد الخولي
الناشر: جامعة هارفارد
تاريخ الصدور:  نيويورك، 2017
عدد الصفحات: 376 صفحة
========================
البهيموت: في وصف النازية المتفلتة من كل قيد
تحرير : نواف رضوان
عرب 48
صدر حديثًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب فرانز ليوبولد نويمان البَهيموت: بنية الاشتراكية القومية (النازية) وممارستها 1944-1933، ترجمة حسني زينة (863 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا). وهذا الكتاب ليس تحليلًا للرايخ الألماني فحسب، بل مساهمة أساسية في علم الاجتماع السياسي أيضًا؛ إذ يتطرق إلى وحش الدولة النازية المتفلت من كل قيد.
في مقدمة الكتاب، وعنوانها انهيار جمهورية فايمار، يشير نويمان إلى انهيار أول تجربة ديمقراطية في ألمانيا (سميّت نسبة إلى مدينة فايمر، مكان انعقاد الجلسة الأولى للجمعية الوطنية الألمانية في 6 شباط/ فبراير 1919) بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى؛ إذ فشلت كل محاولات ترسيخ نظام ديمقراطي طويل الأمد حينها، فالأحزاب اليمينية رأت في الديمقراطية أنموذج حكم غريبًا فرضه المنتصرون، ورفضت شريحة واسعة الإقرار بمسؤولية ألمانيا عن اندلاع الحرب. وتزامنت بداية انهيار جمهورية فايمر مع بداية الكساد العظيم الذي أنهك الاقتصاد الألماني وزاد عدد العاطلين وعمّق مظاهر التطرف؛ ما مهد الطريق أمام النازية لتصعد إلى السلطة.
الدولة والزعامة
قسم نويمان كتابه في ثلاثة أقسام. يتألف القسم الأول، النمط السياسي للاشتراكية القومية (النازية)، من ستة فصول. في الفصل الأول، الدولة التوتاليتارية، يفصل المؤلف تقنيات الفكر الدستوري المضاد للديمقراطية، والتنسيق الشامل للحياة السياسية، والدولة التوتاليتارية في الحرب. يقول: 'كان مذهب الدولة التوتاليتارية يرضي مختلف الأنصار التقليديين للرجعية الألمانية: أساتذة الجامعات، والبيروقراطيون، وضباط الجيش، وكبار الصناعيين، كما كان مقبولًا من العالم الغربي إجمالًا؛ ذلك أنّ أي نظرية سياسية تكون فيها الدولة مركزية ومسيطرة ومؤتمنة على المصالح العامة تتسق مع تراث الحضارة الغربية مهما كان هذا التراث ليبراليًا. فالتراث الغربي لا يعدّ الدولة آلة قمعية مضادة لحقوق الإنسان، بل هي كيان يسهر على مصالح الكل ويحمي هذه المصالح في وجه تعديات أي جماعات مخصوصة'.
في الفصل الثاني، ثورة الحزب ودولة 'الحرَكة'، يحدد المؤلف ثلاثة أنماط من العلاقة بين الحزب والدولة في دول الحزب الواحد. ففي إيطاليا، أُدمج الحزب في الدولة؛ والحزب هو عضو من أعضاء الدولة، وهو حزب الدولة. وفي روسيا السوفياتية، يُمنح الحزب السيطرة الكاملة على الدولة. ويقع الأنموذج الألماني بين هذين النموذجين، ولا بد لتحليله من أن يتم 'لا لإرضاء فضول الفقهاء الدستوريين والإداريين بل لإيضاح المشكلات الأساسية المتعلقة بأين تقع السلطة السياسية وإلى أي مدى تغلغلت الأفكار النازية في الجيش والإدارات المدنية'. ويعرض أيضًا مسائل الاحتجاج الأيديولوجي على الدولة التوتاليتارية، والدولة الثلاثية المكونات، والإس إس وشبيبة هتلر، والبيروقراطية العقلانية، والحزب بوصفه آلة.
في الفصل الثالث، الزعيم الكاريزمي في دولة الزعامة، يبحث نويمان في سيكولوجية الكاريزما. وفي رأيه، قدم الإصلاح اللوثري والكالفني تبريرات نظرية لاعقلانية للسلطة السيادية غير المحدودة، ولم يكن هذا الإصلاح من بين الحركات التي أطلقت حقبة الليبرالية والحقوق الطبيعية والمساواة والعقلانية. يقول: 'بينما واجه لوثر الشر في العالم بعدالة النظام الإنجيلي، باعتبار هذا النظام محتويًا على بذور الاعتراض الممكن والثورة، وضع كالفن العالمين الزمني والديني في تناغم وانسجام عبر فرض عقيدته الجديدة على الدولة'. فالإنسان عند كالفن ليس كائنًا عقلانيًا محبوًّا بنور العقل، وهو عاجز عن أن يبصر ويقود حياته بمقتضى أحكام العقل.
العرقية الجرمانية
يفصّل نويمان في الفصل الرابع، الشعب العرقي مصدر الكاريزما، مسائل الأمّة والعرق، والعرقية في ألمانيا، ونظريات معاداة السامية، وتنقية الدم والتشريعات المعادية لليهود، وأَرْينَة الأملاك اليهودية، وفلسفة العداء للسامية. يقول: 'النازية هي أولى الحركات المعادية للسامية التي دعت إلى القضاء التام على اليهود. غير أنّ هذه الغاية ليست إلا جزءًا من خطة أشمل عرفت بتنقية الدم الألماني'. والنص الأساس للتشريع المتعلق بتحسين النسل هو قانون 'الحيلولة دون النسل المعتل وراثيًا' الذي يسمح بالتعقيم في حالات البلاهة الوراثية وجنون الفصام وهوس الاكتئاب وداء الصرع الوراثي ورقاص هنتنغتن والعمى والصمم الوراثيين والتشوه البدني المفرط.
في الفصل الخامس، رايخ ألمانيا الكبرى: المجال الحيوي وعقيدة مونرو الجرمانية، يقول نويمان: 'إن لتاريخ الجغرافيا السياسية أهمية أكثر من عابرة بالنسبة إلينا لأنه يوفر لنا شاهدًا ممتازًا على الطريقة التي اعتمدها النازيون في تحوير المذاهب الموجودة أصلًا وتغييرها لدمجها في خططهم الفكرية والعملية. فهم لم يبتكروا الجغرافيا السياسية أكثر مما ابتكروا فكرة رايخ ألمانيا الكبرى. إنّ ما فعلوه إنما هو استثمارها بطريقة أنجح بكثير من الإمبرياليين الألمان السابقين'.
أمّا في الفصل السادس، نظرية الإمبريالية العرقية، فيبحث نويمان في الديمقراطية والإمبريالية، ومواجهة الشعب البروليتاري حكم الأثرياء، والعناصر الماركسية المزيفة في نظرية الإمبريالية الاجتماعية، والأسلاف القوميين للإمبريالية الاجتماعية، والإمبريالية الألمانية، وعلاقة الديمقراطيين الاجتماعيين بالإمبريالية، والعلاقة بين الإمبريالية العرقية والجماهير. يقول: 'ثمة نوعان أساسيان من الإمبريالية يُعرفان عادة بإمبريالية المترفين وإمبريالية الفقراء. وينبغي لكل واحدة منهما أن تقسم إلى أقسام فرعية. وكل واحدة تختلف عن الأخرى من حيث الأيديولوجيا، والتقنية، والغاية'. وهذا لا يعني أنّ الدول المترفة تبقى مترفة إلى الأبد، بل يمكن أن تتحول إلى معتدية في ظل أوضاع معيّنة، لكنها عندئذ تصبح فاشية.
اقتصاد الرايخ
يضم القسم الثاني، الاقتصاد الاحتكاري التوتاليتاري، أربعة فصول. في أولها، اقتصاد لا يطاوله علم الاقتصاد؟، يتناول المؤلف قضيتي رأسمالية الدولة وأسطورة الدولة التشاركية؛ فيجد أنّ النظرية الاقتصادية النازية لا تتطابق مع مذاهب رأسمالية الدولة، وأنه لا وجود لنظرية اقتصادية نازية 'ما خلا الشعار القائل أنّ المصلحة العامة أهم من المصلحة الخاصة، وهو شعار يتكرر في كل مناسبة ممكنة، ويستعمل لتغليف كل قرار اقتصادي'؛ فالنظام الاقتصادي النازي براغماتي، لا يشبه مطلقًا نظريات المراتب الاجتماعية أو التشاركية، توجّهه الحاجة إلى أعلى مستوى ممكن من الفاعلية والإنتاجية الذي لا بد منه للمضي في الحرب.
في الفصل الثاني، تنظيم الأعمال، يدرس نويمان الوضع السياسي للأعمال في جمهورية فايمار والتنظيم السياسي للأعمال في ظل النازية. يقول: 'تتمتع الدولة بسلطة لا حدود لها. وفي استطاعتها قانونيًا، أن تفعل كل شيء تقريبًا؛ وفي وسعها أن تصادر أموال أي كان. ونحن إذا ما حملنا منطوق القانون على ظاهره فسوف يتكون لدينا انطباع بأن ألمانيا بلد تسوده رأسمالية الدولة، على الرغم من أننا لم نأت بعد إلى ذكر التحكم في القوى العاملة والاستثمارات، والعملة. غير أنّ القانون كاللغة لا يعبّر دائمًا عن الواقع؛ بل كثيرًا ما يحجبه'.
وفي الفصل الثالث، الاقتصاد الاحتكاري، يتناول المؤلف قضايا الملكية والتعاقد، وسياسة الكارتيل النازية، ونمو الاحتكارات. وبحسبه، فرضت الكرتلة الإجبارية بحكم القانون، ومُنح وزير الاقتصاد الفدرالي صلاحية إنشاء كارتيلات إجبارية، لإرغام رجال الأعمال غير المنضمين على الانضمام إلى الكارتيلات القائمة.
أمّا الفصل الرابع، الاقتصاد الأمري، فيعرض فيه المؤلف مسائل القطاع المؤمّم، والقطاع الحزبي، والسوق والتحكم في الأسعار، ونهاية الرأسمالية المالية، والتجارة الخارجية والاكتفاء الذاتي، والتحكم في القوى العاملة. يقول: 'كان في وسع النازية، طبعًا، أن تؤمم الصناعة الخاصة. لكنها لم تفعل ذلك ولم تكن تريد أن تفعله. ولِمَ تفعل؟ فللنازية وكبار الصناعيين المصالح نفسها بالنسبة إلى التوسع الإمبريالي. النازية تسعى وراء المجد وتثبيت حكمها، والصناعيون يسعون إلى الاستعمال الكامل لطاقاتهم وغزو الأسواق الأجنبية'.
ملكي جمهوري
يضم القسم الثالث، المجتمع الجديد، فصلين. في أولهما وعنوانه الطبقة الحاكمة، يدرس نويمان البيروقراطية الوزارية في ألمانيا النازية، والتراتب الهرمي في الحزب، وعلاقة الحزب بالإدارات الحكومية وبالقوات المسلحة، والقيادات الصناعية والزراعية، وشركة النفط القارية بوصفها أنموذجًا للطبقة الحاكمة الجديدة، ومسألة تجديد الطبقة الحاكمة؛ فيجد أنّ الحركة النازية قررت أن تنتقي من كتلة السبعين مليون نسمة نواة من الرجال، 'وتوحِّدها وتعهد إليها بالمهمة الخاصة المتمثلة بقيادة الدولة، نواة ينمو أعضاؤها منذ الصبا على فكرة سياسة عضوية... لذلك فإن الدولة النازية هي، إذا شئنا استعمال المفاهيم القديمة لوصف بنيتها، نظام ملكي على أساس جمهوري'.
أمّا في الفصل الثاني، الطبقات المحكومة، فيتناول المؤلف مبادئ التنظيم النازية، والطبقة العاملة في ظل جمهورية فايمار، والجبهة العمالية، وقانون العمل، والتنظيم الصارم لأوقات الفراغ، والأجور والدخول بوصفها وسائل للتحكم في الجماهير، والدعاوة والعنف، والقانون والإرهاب النازيين. يقول: 'لا تثق النازية بالمجتمع، وهي لا تثق بطيب إرادته. النازية لا تثق بقدرة مختلف المنظمات على تسوية خلافاتها على نحو يترك سلطة النازية من دون إزعاج. وهي تتخوف من الهيئات شبه المستقلة في داخلها، وتنظر إليها باعتبارها بؤرًا للاستياء والمقاومة. لهذا السبب تطوي النازية جميع المنظمات تحت جناحيها وتحولها إلى هيئات إدارية رسمية. وتستعيض عن المبدأ التعددي بالتنظيم الأحادي، الكلي، والتسلطي. هذا هو المبدأ الأول من مبادئ التنظيم الاجتماعي النازي'. كما تقوم على تذرير الفرد؛ فهي تُقوَّض الجماعات كالأسرة والكنيسة والتضامن الناشئ من العمل المشترك في المصانع والمتاجر والمكاتب.
فرانز ليوبولد نويمان منظر ماركسي يهودي ألماني، من أعضاء 'مدرسة فرانكفورت' وأوائل مفكري 'النظرية النقدية'. مع صعود النازيين إلى السلطة، تحوّل اهتمامه إلى تحليل القوة الاقتصادية وعلم النفس السياسي. في منفاه الأميركي، صار عالمًا سياسيًا وأحد مؤسسي العلوم السياسية الحديثة.
حسني زينة: كاتب ومحقق ومترجم لبناني. من مؤلفاته: العقل عند المعتزلة (1980)، وجغرافيا الوهم (1989). ترجم ثروة الأمم لآدم سميث، وفكرة التاريخ عند العرب لطريف خالدي.
========================
"كنت في الرقة": توثيق للجرائم أم تبييض للإرهاب؟
عرب ٤٨/ رويترز
تحرير : محمود مجادلة
من جديد، اختار الكاتب التونسي هادي يحمد، أن يمشي بين الألغام، حين اقتحم عالم تنظيم 'الدولة الإسلامية' (داعش)، مفككا حصونه عبر شهادة مؤثرة من مقاتل تونسي هرب منه لأنه أكثر تطرفا وراديكالية من التنظيم نفسه.
شهادة الهارب من التنظيم كانت محور كتاب 'كنت في الرقة'، الذي صدر نهاية الشهر الماضي، وجاء في 268 صفحة وتوسط غلافه صورة لعنصر سابق لداعش يرتدي بزة عسكرية.
وحقق الكتاب مبيعات كبيرة تزامنا مع معرض الكتاب في تونس، وفجر الجدل من جديد في بلد يعاني من هجرة نحو ثلاثة آلاف من مواطنيه للقتال ضمن تنظيمات متشددة في سورية والعراق وليبيا. ويتعطش كثير من التونسيين لفهم هذه الظاهرة التي تؤرقهم وتؤرق السلطات في بلادهم.
يستعرض الكتاب شهادة لجهادي تونسي اسمه محمد الفاهم، ويومياته المثيرة، من بينها غزوات وحروب ومشي على بقايا الأشلاء الآدمية وأصوات مفخخات ورائحة البارود والدماء. ويمضي الكتاب في سبر أغوار مقاتلي داعش فرادى وجماعات، ليخلص باعتراف الجهادي محمد الفاهم نفسه بأن حلم داعش ليس إلا وهم تخلى عنه بمحض إرادته.
لكن المثير في شهادة هذا المقاتل أن هروبه من داعش لم يكن فقط بسبب ما قال إنه دفع قادة التنظيم للمهاجرين من المقاتلين في الصفوف الأمامية للمعركة كوقود حرب، ولا بسبب البطش الدموي للتنظيم ولا بسبب جلده 20 جلدة.
السبب الرئيسي لهروبه أن هذا المقاتل التونسي كان يحمل أفكارا أكثر تشددا من التنظيم نفسه، ويرى أن الصورة التي رسمها للتنظيم لم تكن تلك الصورة التي كان يحلم بها والتي من أجلها قطع الصحراء التونسية هربا نحو ليبيا قبل الوصول إلى تركيا وبدء رحلة أخرى للوصول 'لدولة الشام'.
الفاهم لم يكن يفهم مثلا كيف يقبل قادة داعش مقولة 'يعذر الجاهل بجهله في الدين' في التعامل والتساهل أحيانا مع من يسميهم عامة الناس في الرقة، وهو الذي قطع آلاف الكيلومترات لتطبيق الشريعة بكل قوة وصرامة تحت راية 'الدولة الإسلامية'.
ولد الفاهم لعائلة ميسورة الحال في دورتموند الألمانية في نيسان/ أبريل 1990، ولم يدم بقاؤه هناك سوى خمس سنوات بسبب عودة العائلة إلى تونس خوفا عليه من السقوط في ما قالت أمه إنه انحلال أخلاقي، ليسقط بعد نحو 20 عاما في براثن التطرف.
الكاتب، هادي يحمد، لم يشأ أن يروي شهادة الفاهم بالشكل التقليدي، بل ترك الشهادة تتكلم على لسان محمد الفاهم نفسه في صيغة 'أنا' فجاءت مثيرة مشوقة تنتقل من مرحلة زمنية إلى أخرى في حياته. ولم يخش يحمد انتقادات بأنه قد يسقط في 'تبييض الإرهاب' حين يمنح الفاهم فرصة للحديث عن رحلته في صفوف 'داعش'.
وقال يحمد، الذي طالما عرف بانتقاده الشرس للإسلاميين، 'لا أخشى هذه الاتهامات لأني لا أسعى لإظهاره في مظهر الضحية ولا أحمله هو فقط المسؤولية بل أحمل المسؤولية لنمط ثقافي اجتماعي كامل.'
ويعي يحمد أن الأسلوب المعتمد 'هو مخاطرة ولكنها واعية ومقصودة رغم أنها أشبه بالمشي على الألغام'.
ويروي الفاهم تفاصيل عاشها في الرقة ومدن سورية ويلقي الضوء على صورة داخلية للتنظيم والصراعات والتصفيات الداخلية وأيضا خلافات عميقة بين شق متشددين وآخر أقل تشددا.
الكاتب اختار أن يقلب الأحداث الزمنية لرحلة الفاهم المثيرة، فبدأ من بلدة منبج السورية في نهاية كانون الثاني/ يناير 2016، حين باع الفاهم بندقيته الكلاشنيكوف وبدأ رحلة الهروب من التنظيم باتجاه تركيا، ليلقي بنفسه في مرحلة ما بعد 'داعش'.
بعد ذلك عاد الكاتب ليروي على لسان الفاهم حلم الشام، وكيف وصل لتركيا في 2015، وهناك لم يلق أي صعوبات للوصول إلى حلم 'تنظيم الدولة' ليكتشف أنه لم يكن سوى سراب لا يلبي رؤيته المتشددة للإسلام أحيانا ويضحي بمقاتليه ممن لا يقولون على الدوام 'السمع والطاعة'.
وروى الفاهم تفاصيل 'غزوات' تدمر وتعرضه للجلد بسبب تقاعسه عن معارك لضيقه وملله أسلوب قادة داعش الذين لا يريدون أي مجادلة أيديولوجية.
انتقل بعد ذلك الراوي في فلاش باك ليستعيد طفولته في دورتموند، ثم فترة مراهقته في تونس، وبدء مسيرة شاب محافظ أصبح بعد الثورة متشددا واعتقل عدة مرات قبل أن يصبح مقاتلا يسفك الدماء في الرقة وتدمر وتل أبيض.
ويقول يحمد إن فكرة إصدار الكتاب كانت في البداية مواصلة للبحث في ظاهرة الجهاديين التونسيين، بعد كتابه السابق 'تحت راية العقاب'، لكن حصوله على هذه الشهادة المؤثرة كان كفيلا بأن يغير خطته لتصبح الشهادة قلب الكتاب ومحوره لأنها تصور التنظيم من الداخل وفكره ورعبه وجاذبيته ووعوده واحباطاته من خلال رحلة أحد مقاتليه.
ويحمد صحافي مختص في شؤون الحركات الإسلامية والأقليات، عرف أيضا بتحقيقاته الصحفية ذات الطابع الاجتماعي والسياسي.
وقد أحرز يحمد العديد من الجوائز من بينها جائزة أفضل تحقيق صحافي، أسندتها له جمعية الصاحفيين التونسيين عن تحقيقه حول 'المحكوم عليهم بالإعدام في تونس'.
واضطر يحمد للهجرة إلى فرنسا هروبا من المضايقات والملاحقات الأمنية بعد تحقيق جريء في 2002 عن أوضاع السجون في تونس، قبل أن يعود إلى بلده بعد الثورة التونسية التي أنهت حكم زين العابدين بن علي.
========================
جان بودريار :روح الارهاب
السبت، 15 ابريل 2017 02:09 م
محيط - سميرة سليمان
عناوينه
الإرهاب “فيروس” أصاب العالم بالهوس الأمني
المؤلف: جميعنا إرهابيون والشر يسكننا
قواعد اللعبة تغيرت وكل نظام مهيمن يفرز إرهاباً
الإرهاب هو الحرب العالمية الرابعة التي لا يمكن تجنبها
الإرهاب أحد الأعراض الجانبية للعولمة
الإرهاب الذي يضرب العالم، جعلنا نبحث عن كتابات الغرب التي تناولت الأمر، وكيف يرون الإسلام، وهل هو مقترن بالفعل بالإرهاب. “محيط” توقف عند كتاب الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي جان بودريار “روح الإرهاب” الصادر عن “سلسة الفكر” التابعة للهيئة العامة للكتاب ومن ترجمة الناقد السوري بدر الدين عرودكي، وهو مجموعة مقالات نُشرت من قبل في صحيفة “اللوموند” الفرنسية.
وللحديث عن الإرهاب ينطلق عالم الاجتماع من حادثة 11 سبتمبر وتفجير البرجين حيث يصفها بأنها “أم الأحداث”.
في البداية يرى بورديار أننا جميعا إرهابيون.حيث يقول أن “المخيلة الإرهابية تسكننا جميعا دون أن نعرف”، بل ويذهب إلي أننا جميعا بدون استثناء ربما نكون قد حلمنا بما حدث من تفجير برجي التجارة العالميين فيما عرف بأحداث 11 سبتمبر، “لا يمكن لأحد ألا يحلم بتدمير أية قوة صارت علي هذه الدرجة من الهيمنة”، ويزيد أن الإرهابيون الذين فجروا البرجين هم من فعلوا، لكننا نحن الذين أردنا ذلك.
المؤلف لا يصورنا علي أننا أشرار بالفطرة بل يوضح الأسباب التي تدفعنا دون أن ندري لنكون أشرارا ولتتولد لدينا الرغبة الطبيعية في تدمير الولايات المتحدة الأمريكية فيقول: “لا حاجة لغريزة موت أو تدمير، إذ بصورة منطقية جدا، يستثير تضخم القوة الإرادة لتدميرها”.
ولمزيد من التوضيح يقول بودريار: الإرهاب شأن الظل الملازم لكل نظام هيمنة، وأن تجمع كل الوظائف والتكنولوجيا والفكر والأوراق في يد نظام واحد، فإنه بذلك يرغم الآخر علي تغيير قواعد اللعبة، بل ويفرز خصمه، وفي إطار هذا التحليل يؤكد المؤلف أن ما حدث في 11 سبتمبر ليس صدمة حضارات ولا صدمة أديان، بل ويتجاوز الإسلام وأمريكا، ويصدمنا أكثر حينما يقول: “الحرب تلازم كل نظام عالمي وكل سيطرة مهيمنة، ولو كان الإسلام يسيطر علي العالم لوقف الإرهاب ضد الإسلام”!.
ويضيف: عندما يكون الوضع محتكرا على هذا النحو من قبل قوة عالمية، عندما نواجه هذا التكثيف المذهل لكل الوظائف من قبل الآلية التكنولوجية والفكر الواحد، فما هو الطريق الآخر المتاح سوى طريق التحويل الإرهابي للوضع؟ إنه النظام ذاته الذي أوجد الشروط الموضوعية لهذا الإجراء المعاكس العنيف، فهو إذ جمع الأوراق بأكملها بين يديه يُرغم الآخر على تغيير قواعد اللعبة. والقواعد الجديدة شرسة لأن الرهان شرس.
الإرهاب وفق عالم الاجتماع الفرنسي كالفيروس في كل مكان، هنك انتشار عالمي للإرهاب الذي بات شأن الظل الملازم لكل نظام هيمنة مستعداً في كل مكان لأن يستيقظ كعميل مزدوج، لم يعد هناك أية حدود فاصلة تسمح لمحاصرته فهو في قلب هذه الثقافة التي تحاربه.
من هنا، يمكن الحديث، وفقا لبودريار، عن حرب عالميَّة رابعة وليست ثالثة، ذلك أنَّ محورها الرئيس هو العولمة. فالحربان العالميتان الأوليان تعكسان الصورة الكلاسيكيَّة للحرب. الأولى وضعت حدّاً لتفوق أوروبا وللعهد الاستعماري، والثانية حطَّمت النازيَّة، والثالثة وقعت تحت ما يُسمَّى الحرب الباردة، وانتهت بالقضاء على الشيوعيَّة. وكلُّ حرب من هذه الحروب قادتنا إلى وضع عالمي جديد. أمَّا الحرب الجديدة فيعتقد جان بودريار أنَّها أصبحت شاملة، بحيث لم يعد بإمكان أحد الفرار منها أو تجنّبها. إنَّها في قلب هذا النظام العالمي الجديد.
الإرهاب لا أخلاقي، وتكتيك النموذج الإرهابي يتمثل في استثارة طفرة من الواقع وجعل النظام ينهار تحتها، ولذلك فإن كل القوة المرئية لا تستطيع شيئاً ضد الموت الزهيد لكنه الرمزي لبعض الأفراد.
إرهاب جديد
علينا أن ننتبه –وفقاً لتحليل الفرنسي بورديار - إلى أن إرهابا جديداً قد ولد، شكل من الفعل الجديد الذي يمارس اللعبة ويستحوذ على قواعدها كي يتمكن من التشويش عليها. لم يقتصر الأمر على أن هؤلاء الناس لا يناضلون بأسلحة متكافئة ما داموا يراهنون على موتهم، وإنما استحوذوا على كافة أسلحة القوة المهيمنة.
المال والمضاربات في البورصة، التقنيات المعلوماتية وتقنيات الطيران، وزيادة في الحيلة، فقد استخدموا شئون الحياة اليومية الأمريكية المبتذلة كغطاء، ينامون في الضواحي، يقرأون ويدرسون في أجواء عائلية قبل أن يستيقظوا ذات يوم كقنابل موقوتة. إن السيطرة التي لا تشوبها شائبة على هذه السرية هي إرهابية لأنها باتت تثير الشك في أي فرد: ألم يصبح أي إنسان مسالم إرهابياً بالقوة؟.
إذ تمكن هؤلاء في أن يعيشوا دون أن يفطن إليهم أحد، فإن كل واحد منا إذاً مجرم لا يفطن إليه أحد – وكل طائرة صارت هي الأخرى مشتبهة – وربما يتطابق ذلك مع شكل لا واع من الإجرام المحتمل، مقنع ومكبوت بعناية.
الإرهابيون مع امتلاكهم الأسلحة التي هي أسلحة النظام يمتلكون فضلاً عن ذلك سلاحاً حاسما: موتهم. ولو أنهم اكتفوا بمقاتلة النظم بأسلحته الخاصة به لقضي عليهم على الفور.
لكن السلاح الرمزي بامتياز – يقصد الموت – يضاعف الطاقة المدمرة إلى ما لا نهاية. الأمر لديهم ليس عقد عمل بل عهد وواجب وتضحية. و”انتحارهم” لا يعتبر بطولة فردية، بل هو فعل قرباني جماعي.
ويؤكد بورديار أن الإرهاب الانتحاري كان هو إرهاب الفقراء، أما هذا الإرهاب فهو إرهاب الأغنياء. وهذا ما يخيفنا على وجه الخصوص، ذلك أنهم أصبحوا أغنياء فلديهم كل الوسائل.
الإرهاب والإسلام
كان المفكر الفرنسي وعالم الاجتماع جان بودريارمن المفكرين الذين توقفوا أمام مفهوم، “الإرهاب” بغية توضيحه أو ربما فكّ الارتباط الشرطي بينه وبين الإسلام. وهو الارتباط الذي حاول الغرب التسويق له بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، من أجل خلق صورة ذهنيَّة عن الإسلام بوصفه ديناً للعنف، ومن ثمَّ الإرهاب. وكان هذا المفهوم تمهيداً لحديثه عن الحرب العالميَّة الرابعة.
يكتب جان بودريار: “الإرهاب شيء لا أخلاقي، والضربة الإرهابيَّة التي استهدفت برجي التجارة العالمي في نيويورك، هذا التحدي الرمزي، لا أخلاقيَّة، وهي جواب عن عولمة هي نفسها لا أخلاقيَّة. وإذن فلنكن نحن أيضاً لا أخلاقيين، وإذا ما نحن أردنا أن نفهم شيئاً فإنَّه يتوجب علينا أن نمضي إلى ما وراء الخير والشر.
ولأنَّنا نجد أنفسنا لأوَّل مرَّة أمام حدث لا يتحدى الأخلاق فقط، وإنَّما كلَّ شكل للتفسير أو التحليل، فإنَّه يتحتَّم علينا أن نكتسب ذكاء الشر، لقد ظللنا نحن الأوروبيين نعتقد بنوع من السذاجة أنَّ تطوُّر الخير، وانتشاره في كل المجالات (العلوم، التكنولوجيا، الديمقراطيَّة، حقوق الإنسان)، يمكن أن يقود إلى هزيمة الشر. لا يبدو أنَّ هناك أحداً أدرك أنَّ الشرَّ والخير يتقدَّمان ويتطوَّران معاً، وفي الوقت نفسه، وبالحركة نفسها، وأنَّ انتصار أحدهما لا يؤدّي بالضرورة إلى هزيمة الآخر، بل إلى عكس ذلك تماماً”.
لقد حاولت وسائل الإعلام، بحسب بودريار، أن تلصق تهمة الإرهاب بالإسلام، فالنظام العالمي، المتمثل في شبكة المصالح الرأسماليَّة العالميَّة، لا بدَّ أن يخلق لذاته عدواً محدَّد المعالم يستطيع من خلاله أن يحقق مصالحه، فكان هذا العدو هو الإرهاب، وكيما يصبح محدَّد المعالم تمَّ لصقه بالإسلام.
في حين أنَّ هذا الارتباط غير حقيقي في جوهره، لأنَّ الإرهاب تمَّ توليده من داخل النظام ذاته ولم يأتِ من خارجه، “لا يتعلق الأمر بصدام الحضارات أو الأديان، كما يتعدَّى بكثير محاولة اختزاله في المواجهة بين الولايات المتحدة الأمريكيَّة والإسلام. صحيح أنَّ هناك تقابلاً بينهما، لكنَّه تقابل يكشف أنَّ العولمة تخوض صراعاً مع ذاتها”.
مع انمحاء الشيوعية والانتصار العالمي للقوة الليبرالية، انبثق عدو شبحي منتشرا في كل أنحاء العالم، عداء موجود في أعماق كل منا، والإسلام ليس إلا الجبهة المتحركة لتبلور هذا العداء، كما أن الإرهابيين يستخدمون أسلحة القتل التي صنعتها الولايات المتحدة إلي جانب سلاح الموت، فالرجال يتمنون الموت بقدر ما يتمني الأمريكيون الحياة، ولأن الانتحار في عقيدة الإرهابيين ليس بطولة فردية، بل هو فعل قرباني جماعي”.
وعن الحل، يجيب جان بودريار قائلاً: “ليس هناك حلٌّ في نظري لهذه الحالة القصوى، وعلى أيَّة حال، لا أعتقد أنَّ الحرب بهذه الكميَّة الهائلة من الأسلحة المدمّرة، وبهذا العدد المخيف من الجيوش، وبهذه الأخبار الكاذبة، وهذه الخطب المزيفة والمضحكة، قادرة على أن تقضي على الإرهاب وجذوره...”.
الهوس الأمني
يضع جان يده على المشكلة الكبرى التي يتركها الإرهاب، وتتمثل في أن كافة الاستراتيجيات الأمنية ليست إلا امتدادًا للإرهاب، وأن الانتصار الحقيقي للإرهاب يتمثل في أنه استطاع أن يُغرق الغرب كله في هوس أمني، أي في شكل مموه من الإرهاب المستمر، فالشبكة البوليسية على مستوى الكرة الأرضية هي على قدر من التوتر.
ويرى أن الإرهاب حرب ذاتية داخل جسد العولمة.. فالعولمة لم يعد لها عدو خارجي بعد الحرب الباردة، فتشكلت فيروسات ممرضة في خلاياها.. فمرض العولمة الداخلي هو عنفها حين تحتكر رواية الحقيقة وتنفي رواية الآخرين، باحتكارها للعلم والتكنولوجيا والمعلومات والسوق، ليتم من خلالها تعريف وحيد لا يقبل التنوع للثقافة والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
وهذا هو حال الإرهابيين، الذين قد يدمرون أي هدف في أي وقت وأي مكان، ولا يمكن تحديدهم في بلد معين ولا طبقة ولا مهنة معينة، ويصعب توقع تنفيذ وقت ومكان ونوعية أهدافهم القادمة، وبالتالي لا يمكن السيطرة عليهم.. إنهم أشباح ضد العولمة من داخل خلايا العولمة! فلا عدو خارج العولمة يمكن أن يردعها، وعندما لا يوجد لديك عدو خارجي ستضعف مقاومتك من الداخل وتتورط بأمراضك الداخلية.. الإرهاب هو من الأعراض الجانبية للعولمة!.
الإرهاب لا بنطوي في الأساس على معنى، ولا يمتلك هدفاً ولا يقاس بنتائجه الحقيقية. إنه يدفع الأشياء ببساطة إلى حدودها القصوى، إلى الذروة إنه يهيج وضعاً ما .
========================
بيتر كونرادي  :من خسر روسيا؟ كيف دخل العالم حرباً باردة جديدة
تاريخ النشر: الجمعة 14 أبريل 2017
إن الثقة بين روسيا والولايات المتحدة باتت في أدنى مستوياتها، هكذا قال وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون خلال اجتماعه بنظيرة الروسي سيرجي لافروف أول من أمس الأربعاء في موسكو، على خلفية التوتر الشديد الذي اعترى العلاقات بين البلدين بسبب الخلاف حول الملف السوري. ولكنه توتر يعزى أيضاً إلى جملة من الملفات الخلافية الأخرى، كما يكرس فشلَ سياسة الإدارة الأميركية السابقة تجاه روسيا، التي كانت تطمح إلى طي صفحة خلافات الماضي وبدء صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين.
الآمال في شراكة بين روسيا والغرب تحطمت إذن، وفي كتاب «من خسر روسيا؟» يسعى الكاتب والصحافي البريطاني بيتر كونرادي، الذي أمضى سبع سنوات في تغطية الشؤون الروسية لحساب وكالة الأنباء «رويترز»، لشرح أسباب المنحى السيئ الذي نحته العلاقات بين الغرب وروسيا في السنوات الأخيرة.
كونرادي يستهل كتابه بالحديث عن إصلاحات جورباتشوف، وسقوط الدول الشيوعية المدعومة من الاتحاد السوفييتي في أوروبا الشرقية (في 1989)، ثم انهيار الاتحاد السوفييتي نفسه (1991)، وسنوات بوريس يلتسين (التسعينيات). ثم ينتقل لوصف انهيار الاقتصاد الروسي وزمن الندرة وشظف العيش الذي تكبده ملايين الروس. ويحكي عمليات خصخصة الشركات والصناعات المملوكة للدولة وما تخللها من فساد وعمليات نصب واحتيال قام بها أشخاص اغتنوا بشكل سريع وشكّلوا لاحقاً الأوليغارشية المعروفة. كما يتحدث أيضاً عن تدني معنويات الروس في وقت تراجعت فيه قوة بلدهم ومكانتها في العالم، وعن شعورهم بالخيانة عندما توسع «الناتو» شرقاً، حتى في الوقت الذي احتفى فيه الزعماء الغربيون بنهاية الحرب الباردة ورحبوا بروسيا كشريك، مسلطاً الضوء على الفرق الكبير بين الدعم الشفوي الذي كانوا يقدمونه للإصلاحات الروسية ومساعداتهم المالية المتواضعة جداً.
ثم يتذكر انتخابات 1996 الروسية، التي أشاد بها الرئيس الأميركي بيل كلينتون باعتبارها انتصاراً للديمقراطية، على رغم أن الأولغارشيين موّلوا حملة بوريس يلتسين الانتخابية مقابل حصولهم على حصص في قطاعات مملوكة للدولة بأسعار زهيدة جداً. كما يصف فترة الرئاسة المضطربة في عهد يلتسين الذي كان معتل الصحة. غير أن إدارة كلينتون أثنت على يلتسين لأنه شجّع الإصلاحات الديمقراطية وإصلاحات السوق، حيث كان كلينتون يعتبره سداً منيعاً في وجه الحزب الشيوعي الروسي، الذي كان يزداد شعبية بموازاة ازدياد بؤس الروس.
ولئن كانت تغطية كونرادي لفترة التسعينيات لا تحمل بين طياتها أي جديد، إلا أنها تقوم بشيء مهم إذ تُظهر أن جذور السلطوية والفساد والرأسمالية القائمة على المحسوبية التي تميز روسيا الآن، بحسب منتقديها، إنما تعود إلى تلك الفترة. والأهم من ذلك هو أنها تبين أن الخلافات العديدة التي تقسّم روسيا والغرب حالياً بدأت قبل رئاسة فلاديمير بوتين. ولنأخذ هنا، على سبيل المثال، رفض بوتين الشديد لتوسيع «الناتو» شرقاً. فالمؤلف يذكّرنا بأن يلتسين، ناهيك عن قيادة الجيش الروسي، عارض بقوة أيضاً توسع الحلف. لا بل إنه حتى بعض الليبراليين الروس، مثل بوريس نيمتسوف -الذي أصبح لاحقاً مناوئاً لبوتين وقُتل رمياً بالرصاص على أحد جسور موسكو في فبراير 2015- كانوا يتوقعون رد فعل قوياً، إلا أن كلينتون كان يقلل من شأن تلك التوقعات ويصفها بـ«السخيفة». وفي التسعينيات، اضطرت روسيا، التي كانت ضعيفة اقتصادياً وتعتمد على المساعدات الغربية، للموافقة على توسع «الناتو» شرقاً في اتجاه حدودها وقد فعلت ذلك على مضض. وحينها قال يلتسين قولته الشهيرة، بعد أن فشل من جديد في ثني كلينتون عن ذلك: «حسناً، لقد حاولت». وبالمثل، وبينما كان الزعماء الغربيون ينددون بسعي بوتين لإقامة مناطق نفوذ، يُظهر كونرادي أنه في زمن يلتسين أيضاً كان الروس يؤمنون بأن لبلادهم الحق في السعي وراء نفوذ في بلدان الاتحاد السوفييتي السابق، وخاصة أوكرانيا.
واليوم، هناك خلافات كبيرة بين روسيا والغرب حول عدد من الملفات، أبرزها ملفات سوريا وأوكرانيا وتوسيع «الناتو» والاتهامات الغربية لروسيا بمحاولة التأثير على الانتخابات في الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا، وهي خلافات يذهب البعض إلى حد وصفها بالحرب الباردة الجديدة. ولكن العلاقات لم تكن دائماً على هذا القدر من السوء بين الجانبين، بل على العكس. ذلك أن لقاءات بوتين الأولى مع الرئيس الأميركي جورج دبليو. بوش، ورئيس الوزراء توني بلير، وأمين عام «الناتو» جورج روبرتسون كانت ودية للغاية. كما كان بوتين أيضاً يقدّم روسيا باعتبارها جزءاً من الغرب، لا بل إنه فاجأ مخاطَبيه عندما اقترح عليهم انضمام روسيا إلى الحلف. وبعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر في واشنطن ونيويورك، لم يتأخر بوتين في الاتصال بالبيت الأبيض للتعبير عن تضامنه وعرض المساعدة. والواقع أنه لم يكتفِ بعرضها وإنما قدمها فعلياً خلال حرب واشنطن ضد أفغانستان تحت حكم «طالبان». وعلى رغم أنه كان ضد انسحاب جورج دبليو. بوش من اتفاقية الحد من الصواريخ الباليستية لعام 1972، والغزو الأميركي للعراق، وضم «الناتو» لدول البلطيق الثلاث إستونيا ولاتفيا وليتوانيا، إلا أنه تعامل مع كل ذلك أيضاً بكثير من الهدوء والتروي ورباطة الجأش.
بيد أن نقطة التحول وقعت مع الثورتين الديمقراطيتين في جورجيا في 2003-2004 وأوكرانيا في 2004-2005، اللتين شكّلتا المنعطف الذي بدأت فيه العلاقات بين الجانبين في التدهور، وفق كونرادي. ذلك أن الحكومات الغربية شجعت المحتجين وصفقت لهم، ومن جانبها، كانت المنظمات غير الحكومية الأميركية والأوروبية قد موّلت ودرّبت لفترة طويلة المنظمات المطالبة بالديمقراطية في جورجيا وأوكرانيا. وبالنسبة لبوتين، فإن تلك الحركات الديمقراطية كانت تمثل جهداً غربياً جديداً يروم إضعاف روسيا في منطقتها، كما كان يَعتبر الديمقراطية وحقوق الإنسان مطيةً أو ورقةً يلجأ إليها الغرب متى شاء للضغط على بعض الدول وابتزازها، بينما يتغاضى عنها ويطرحها جانباً حين التعامل مع بلدان أخرى.
وفي مؤتمر ميونيخ الأمني السنوي في 2007، وجّه بوتين سهام انتقاداته للولايات المتحدة التي اتهمها بفرض قيمها على الآخرين، والتسبب في انعدام الاستقرار، والتصرف بعجرفة. وظل بوتين متشبثاً بهذه الاتهامات التي لاقت جاذبية كبيرة داخل روسيا، وهو ما جعل كثيراً من الروس يرون فيه تجسيداً للقطيعة مع التسعينيات، الفترة التي كان فيها بلدهم، الذي كان يقوده زعيمٌ مدمن وغريب الأطوار، في حالة فوضى سياسياً، وعلى حافة الانهيار الاقتصادي، ويعامَل بإذلال من قبل الغرب.
كان سن بوتين لا يتجاوز السابعة والأربعين عندما انتُخب رئيساً لروسيا في سنة 2000. وكان ينضح بالقوة والحيوية، في تباين قوي مع ضعف وترهل يلتسين الطاعن في السن، مثلما يقول المؤلف. وبالاستفادة من ارتفاع أسعار النفط، التي تضاعفت أربع مرات بين 2000 و2008، عمل بوتين على تقوية وتحديث الجيش الروسي الذي استعمله في جورجيا في 2008 وفي أوكرانيا في 2014.
ولئن كان ثمة حدث واحد يفسّر القطيعة التي حدثت بين روسيا والغرب، فإنه، وفق كونرادي، الانتفاضة الشعبية التي اندلعت في أوكرانيا عندما عمد الرئيس فيكتور يانوكوفيتش إلى قطع المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي بشأن اتفاقية شراكة ومال نحو روسيا. فكان أن سارعت الحكومات الغربية إلى احتضان الانتفاضة التي قامت ضده، حيث زار السيناتور الأميركي جون ماكين ومساعدة وزير الخارجية الأميركية فيكتوريا نولاند كييف وتحدثا مع المحتجين.
وفي الحادي والعشرين من فبراير، رعى الاتحاد الأوروبي اتفاقاً بين يانوكوفيتش وزعماء المعارضة ينص على إجراء انتخابات رئاسية مبكرة. غير أنه عندما نددت الحشود المحتجة بذلك واعتبرته خيانة، كان يانوكوفيتش قد انتهى سياسياً. وفي اليوم التالي، فر الرئيس المعزول إلى خارج البلاد. ولكن بالنسبة لبوتين، لم تكن تنحية يانوكوفيتش سوى مؤامرة غربية أخرى. ولاحقاً، اغتنم المسؤولون الروس مكالمة هاتفية في كييف بين نولاند والسفير الأميركي هناك جيفري يات حول تشكيلة حكومة ما بعد يانوكوفيتش، اتصال اعترضته أجهزة الاستخبارات الروسية وكان مصيره الحتمي النشر على موقع يوتيوب. ثم عمد بوتين إلى التصعيد أكثر حين ضمَ شبه جزيرة القرم، بأغلبيتها الروسية، ودعمَ الانفصاليين في شرق أوكرانيا بالسلاح والجنود. ثم رد الغرب على ذلك بأن فرض عقوبات اقتصادية على روسيا، وأبعدها من مجموعة الثمانية الكبار في ما مثّل شهادة وفاة رسمية لسياسة «بدء صفحة جديدة» التي أطلقتها إدارة أوباما.
ولكن، من خسر روسيا؟ هل هم زعماء روسيا الذين يُتهمون بالفشل ليس فقط في بناء دولة ديمقراطية ولكن أيضاً في جعل روسيا شريكة للغرب؟ أم الغرب، الذي لم يكن جاداً أبداً بشأن احترام مصالح روسيا، ناهيك عن إقامة شراكة معها؟ كونرادي لا يجازف بتقديم جواب صريح وقاطع عن هذا السؤال. ولكن بالنظر إلى تعقيدات الموضوع وتشعباته، يمكن القول إنه حسناً فعل، فلا أحد يستطيع لومه.
محمد وقيف
الكتاب:  بيتر كونرادي  :من خسر روسيا؟ كيف دخل العالم حرباً باردة جديدة
المؤلف: بيتر كونرادي
الناشر: وانوورلد بابلِكيشنز
تاريخ النشر: 2017
========================
نهاية أوروبا.. وعصر الظلام القادم
تاريخ النشر: 08/04/2017
تأليف: جيمس كريتشك عرض وترجمة: نضال إبراهيم
مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، باتت صورته الصامدة خلال عقود مهتزة، حيث تخرج تحليلات هنا وهناك تفيد باحتمال خروج دول أخرى منه، ما يضع المستقبل الأوروبي على المحك. ويجد مؤلف هذا العمل أن غياب أوروبا عن الساحة العالمية سيكون «مأساة» ليس للدول الأوروبية وحدها، وإنما للولايات المتحدة الأمريكية وللعالم. لأن وجود أوروبا أضعف وأقلّ تأثيراً يعني تفكك كيان سياسيّ واجتماعي واقتصادي يحافظ على توازن عالمي، مما سيؤدي إلى اختلالات ليس من السهل تصور عواقبها.
يأتي كتاب «نهاية أوروبا: ديكتاتوريون، ديماغوجيون وعصر الظلام القادم» (288 صفحة، منشورات جامعة يال، 2017) للكاتب الصحفي والباحث الأمريكي جيمس كريتشك في مرحلة شديدة الحساسية فيما يتعلق بالراهن الأوروبي والعلاقات المتشابكة فيما بين الدول الأوروبية ثم علاقة القارة مع العالم. وإذ يحمل عنوان الكتاب رسالة متشائمة حول واقع أوروبا ومستقبلها في ظلّ حالة تبادلية من السياسات التي ترسم علاقاتها والعلاقات التي تضع سياستها في القضايا كافة، فإن الكاتب لا يغفل فرصة التصريح بأن ثمة أملاً في أن تستطيع أوروبا إنقاذ الكيان الذي حافظت عليه لعقود، وحفظ لها بالتالي تماسكها الذي بات اليوم مهدداً أكثر من أي وقت مضى.
أوروبا وغياب الدور الأمريكي
في كتابه، يسجّل جيمس كريتشك، بمزيج من العمل الصحفي والسرد التاريخي، أن أوروبا التي كانت تعدّ معقل القيم الليبرالية والديمقراطية، هي ذاتها التي باتت اليوم تعاني المشاكل التي كانت تعتقد أنها تجاوزتها منذ عقود. إذ إن ظواهر من نوع معاداة السامية، القومية الشعبوية واستخدام العنف والقوة العسكرية في مناطق النزاع باتت تهدد اليوم بتفكيك الكتلة الأوروبية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية. يحدد كريتشك في دراسته نقاطاً أساسية توضح مواضع الضعف في الاتحاد الأوروبي؛ السياسة الضحلة والمخادعة للقادة الذين دفعوا باتجاه خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، بالإضافة إلى الدور الذي لعبته موجة الهجرة الكبيرة والعلاقة المتوترة بين المجتمعات الأوروبية والأقليات المسلمة.
وهذا كله يأتي مع تهديد الإدارة الأمريكية الجديدة بتجاهل الدور التقليدي الذي كانت تضطلع به الولايات المتحدة في أوروبا، كمناصر لنظام العالم الليبرالي وضامن لأمن القارة. وبهذا، يزداد التهديد الجدي بأن تصبح أوروبا وحيدة في مواجهة هذه التحديات «غير المسبوقة»، بحسب تعبير كريتشك.
يتألف الكتاب من مقدمة بعنوان «الكابوس الأوروبي»، يليه ثمانية فصول، يشكّل كل واحد منها دراسة حالة لبلد أوروبي محدد. الفصل الأول: «روسيا: على حافة أوروبا». الفصل الثاني: «هنغاريا: ديمقراطية من دون ديمقراطيين». الفصل الثالث: «ألمانيا: عودة رابالو؟» (بالإشارة إلى معاهدة رابالو عام 1922 والتي اتفقت على أساسها كل من ألمانيا وروسيا على تقاسم مناطق النفوذ والمكاسب بعد معاهدة برست ليتوفسك (1918) التي خرجت روسيا إثرها من الحرب العالمية الأولى. ) ثم الفصل الرابع «الاتحاد الأوروبي: أزمة غير متوقعة». يليه الفصل الخامس: «فرنسا بلا يهود»، والسادس «بريكست: من بريطانيا العظمى إلى إنجلترا الصغيرة». ثم الفصل السابع «اليونان: من الأحزاب السياسية إلى الشعبويين»، والفصل الثامن «أوكرانيا: برلين الغربية الجديدة». ثم تأتي خاتمة بعنوان: «الحلم الأوروبي». وهو يشير في أكثر من مكان لكتاب مهم هو «الحلم الأوروبي» للباحث الأمريكي جيريمي ريفكن (تُرجم إلى العربية عام 2016 وصدر عن دار الفارابي)، وهو دراسة شاملة للتحوّل الذي عاشه المجتمع الأمريكي إبان انهيار مفهوم الحلم الأمريكي والتوجه نحو حلم آخر بديل متمثّل بالحلم الأوروبي، على اعتبار أن أوروبا باتت تشكل كياناً مقابلاً ومنافساً للولايات المتحدة في التأثير العالمي. وحيث إن «الحلم الأوروبي أكثر راحة وأكثر أماناً، ورخاء، ويؤدي إلي إطالة أمد الحياة البشرية». ويشير كريتشك إلى التنظيم الجغرافي والفكري لفصول الكتاب، بغية تقديم سياق متسلسل للأزمات التي باتت تعصف بأوروبا.روسيا وانتهاك القانون الدولي
في الفصل الأول من الكتاب، «روسيا: على حافة أوروبا»، يبدأ جيمس كريتشك بتقديم رؤية يحاول أن تكون قريبة ودقيقة للأزمة متعددة الأوجه التي تواجهها أوروبا، من روسيا شرقاً وصولاً لأزمة المهاجرين في الجنوب. وهي من ضمن أزمات ما فتئت تتفاقم لا سيما مع عدم قيام الولايات المتحدة، متمثلةً بإدارة الرئيس ترامب، بتحقيق دورها التقليدي والاكتفاء بالتعبير دائماً عن نظرة قلقة ومقلقة بشأن العلاقة مع حلف شمال الأطلسي (ناتو) والاتحاد الأوروبي وروسيا. وبالتالي، يحاول الكاتب عبر خبرته التي اكتسبها من سنوات التنقل في الدول الأوروبية والاطلاع على أزماتها عن قرب تقديم رؤية متكاملة قدر الإمكان للتحديات الحاضرة. وهو يبدأ بروسيا التي خصّها بالفصل الأول، انطلاقاً مما يراه رغبة روسية في «تدمير» الاتحاد الأوروبي. وهو في هذا لا يتردد في استخدام لغة قاسية لوصف الإجراءات الروسية تجاه أوكرانيا أولاً وضمّ شبه جزيرة القرم تالياً. فهو يصف التصرف الروسي ب «الانتهاك الواضح للقانون الدولي، وخرق القواعد السياسية الدولية».
ويشير إلى أن هذه الحالة من ضمّ مناطق جغرافية بقوة السلاح تعدّ الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، وهو ما يدفع المراقبين للتساؤل حول جدوى الوثائق الدولية والمعاهدات إن لم تتخذ الإجراءات الرادعة المطلوبة. على اعتبار أن روسيا تقدم رسالة مضمونها أنها غير معنية بالالتزام بالبند الخامس من معاهدة حلف شمال الأطلسي (ناتو) أو ببيان بودابست (1994). وهو ما ينذر بخطر تكرار هذه الخروقات لاحقاً من دول كبيرة تجاه دول أصغر وأقلّ إمكانية وقدرة. وفي هذه المسألة، يمكن ربط هذا الفصل بالفصل الثامن الذي يسمّي فيه الكاتب أوكرانيا «برلين الغربية الجديدة». ويوجه اللوم للدول الأوروبية التي فضّلت علاقاتها مع روسيا على محاسبة هذه الأخيرة على انتهاكاتها للقانون الدولي. وهذا عائد، جزئياً، إلى عدم إدراك تلك الدول لحقيقة ما تقوم به روسيا فعلياً، وأهدافها غير المعلنة، وهو ما سيحمّل إدارة الرئيس ترامب في الجانب الآخر من المحيط مسؤولية إعادة ضبط العلاقات مع روسيا. ويقول إنه «إذا لم تستمر قيم أمريكا وأوروبا بتشكيل المستقبل كما فعلتا في الماضي، فإن هذا سيتيح المجال لقوى متسلطة لفعل ذلك.
ألمانيا: تحديات السياسة والصدمة الثقافية
في تناوله لحالة ألمانيا، يحذّر كريتشك مما يسميه «تقاطع مخاطر البوتينية والإسلاموفوبيا» الذي سيكون عائقاً أمام إعادة انتخاب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، التي تواجه منافسة شرسة من مارتن شولتز، رئيس الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني ورئيس البرلمان الأوروبي «العاجز»، وفق توصيف الكاتب، منذ عام 2012. ومع موقف ميركل من التعددية الثقافية، إلا أن قبولها بوجود مليون لاجئ مسلم في ألمانيا سيكون عاملاً رئيسياً في إضعاف وضعها السياسي عموماً وفرصها في الفوز بالانتخابات خاصة.
تقوم السياسة الألمانية على تقبّل حذر للتعددية الثقافية، مع خلق توازن في العلاقة مع روسيا من جهة، والولايات المتحدة في الجهة الأخرى. ومع هذا، فإن العلاقة الألمانية-الأمريكية تبدو مملوءة بالتناقضات، وهو ما لا يمكن أن تخفيه صورة الدولة الصديقة والحليفة التي تبدو بها حالياً تجاه أمريكا. كما أن ألمانيا مسؤولة عن سياسة استقبال هذا المدّ الكبير من المهاجرين الشرق أوسطيين، على الرغم من المخاوف التي عبرت عنها دول أوروبية أخرى مراراً حول عدم القدرة على استيعاب هذا التدفق الكبير من المهاجرين واحتوائهم ودمجهم.
وصل هذا التدفق غير المسبوق إلى ذروته في فترة الهجرة الكبرى بين 2015-2016، وأدى إلى حصول توتر كبير بين الأوروبيين والأقليات المسلمة. وكان من مسببات هذا التوتر وصوره، على وجه الخصوص، التباين الجذري للمهاجرين من الدول التي تحمل نظرة خاصة ومواقف محددة تجاه المرأة، بما يختلف كلياً مع ما هو متبع في الغرب. وتعدّ هذه من النقاط الإشكالية للغاية، وتسببت بمشاكل كبيرة. وبحسب الأرقام، فإنه من بين 1.5 مليون طالب لجوء ممن وصلوا إلى أوروبا عام 2015، كانت نسبة الذكور 73 في المئة.
في البداية، كان هناك توجّه لعدم الإبلاغ عن بعض حالات التحرش الجنسي بدافع خلق حسّ عام لنفي صفة الإسلاموفوبيا عن المجتمع. لكن نقطة التحول كانت في ليلة رأس السنة الميلادية عام 2015، يوم حصلت حادثة التحرش بنساء ألمانيات خارج محطة القطار الرئيسية في كولونيا. يومذاك، قدّمت أكثر من 650 امرأة شكاوى جنائية تتراوح بين تعرضهن للتحرش وصولاً إلى محاولات الاغتصاب.
ونتيجة لهذه الصدامات الثقافية والزيادة في عدد الضربات الإرهابية في أنحاء القارة، أعيدت مرة أخرى إجراءات التحقق من الهوية في المعابر الحدودية التي كانت مفتوحة في السابق، وأخذت دول مثل ألمانيا والسويد، تحت ضغط الاحتجاجات الشعبية بتخفيض أعداد المهاجرين المقبولين.
مستقبل الحلم الأوروبي
يعود الكاتب إلى فكرة الحلم الأوروبي، وهو وإن حمل عنوان كتابه رؤية متشائمة عبر تعبير «عصر الظلام»، فإنه يصرّ على أن ثمة ما يمكن عمله؛ وهو تذكر التاريخ والقيم والاستعادة الواعية للمفاهيم التي وحدت أوروبا وخلقت ذلك الكيان الذي حافظ على استقرار القارة لعقود. وهو يركز على قيم الديمقراطية الليبرالية ورأسمالية السوق الحرة. ويصرح أن على الديمقراطيات الأوروبية (والأمريكية) تخصيص المزيد من الموازنات ورفع الإنفاق على الجانب العسكري بغية الدفاع عن هذه القيم التي تسعى دول أخرى لتحطيمها. إذ إن غياب أوروبا عن الساحة العالمية سيكون «مأساة» ليس للدول الأوروبية وحدها، وإنما للولايات المتحدة الأمريكية وللعالم. لأن وجود أوروبا أضعف وأقلّ تأثيراً يعني تفكك كيان سياسيّ واجتماعي واقتصادي يحافظ على توازن عالمي، ما سيؤدي إلى اختلالات ليس من السهل تصور عواقبها.
في خاتمة الكتاب يقول: «يجب أن ينتهي وقت التخبط. فمن أجل أن نضمن أن العقود السبعة الماضية مما يشبه اليوتوبيا كانت هي القاعدة، لا مجرد استثناء تاريخي، فإن أوروبا بحاجة ماسة لتجديد مراكز قوتها الليبرالية من جهة، والاستعداد لاستخدام القوة للدفاع عن نفسها من جهة أخرى». ويتطرق إلى استقبال أوروبا للمهاجرين واللاجئين المسلمين، ويطالب بأن تكون إجراءات دمجهم في المجتمعات الأوروبية مشروطة بإنتاجيتهم، مع التزام هذه الدول بمبادئ الرفاه الاجتماعي وقطاع الأعمال الخاصة. ويقول إنه هناك الكثير مما هو على المحك، كالسفر من فرنسا إلى ألمانيا من دون جواز سفر، أو وجود تلك الإجراءات البيروقراطية المكثفة في بروكسل. ويكرر مطالبته بأوروبا تحمل قيم وأفكار عصر التنوير، تعزز دورها العالمي في إنتاج المنجزات الحضارية والقدرة على حمايتها، وإلا فإن الديماغوجيات والديكتاتوريات ستحوّل هذه الحضارة إلى فوضى، وسيتم تغليب المصلحة الفردية على مصلحة الدولة والخير العام، وستنتفي مميزات الهوية الأوروبية وسيختفي دورها. وأقل ما يقال عن هذه الحالة أنها انهيار، وبالتالي، فإن المستقبل -إذا تحققت هذه المخاوف لأي سبب من الأسباب- لن يكون سوى عصر ظلام جديد.
نبذه عن المؤلف
ولد الكاتب الصحفي والباحث الأمريكي جيمس كريتشك عام 1983. يعمل مراسلاً لموقع «ذا دايلي بيست» الإلكتروني، وهو زميل باحث في مبادرة السياسة الخارجية في واشنطن. له مقالات صحفية في العديد من وسائل الإعلام مثل «واشنطن بوست» و«ذا ويكلي ستاندرد»، «وول ستريت جورنال» و«فورين بوليسي». يعيش في العاصمة الأمريكية واشنطن. نال كتابه «نهاية أوروبا» ترحيباً ملحوظاً في وسائل إعلام أوروبية، وهو نتاج ست سنوات من البحث والمتابعة والتنقل بين العديد من الدول الأوروبية لجمع مادة الكتاب. ظهر في العديد من منصات التواصل والمحطات التلفزيونية لمناقشة أفكار الكتاب ورؤيته لمستقبل الاتحاد الأوروبي.
========================
أفق فلسطين : نحو سلام عادل
تاريخ النشر: 15/04/2017
تأليف: ريتشارد فولك
عرض وترجمة: نضال إبراهيم
هل القضية الفلسطينة ضائعة بالمفهوم العام وسط الصراعات العالمية؟ إلى أية درجة يمكن أن تؤدي محادثات السلام إلى حلول ترضي الجانبين الفلسطيني و«الإسرائيلي»؟ هل هناك آمال تلوح في الأفق بالنسبة للشعب الفلسطيني، وسط التوسع «الإسرائيلي» في استيطانه وجبروته، وانتهاكه القوانين الدولية في كل مناسبة.
يناقش هذا العمل للبروفسور الأمريكي ريتشارد فولك التحولات في الصراع الفلسطيني- «الإسرائيلي» والطرق التي يمكن أن تؤدي إلى سلام شامل وعادل، مع التوقف عند آراء المفكر الراحل إدوارد سعيد.
بعد أن عاش المجتمع الفلسطيني سنوات من الاحتلال العنيف، يستكشف الآن طرقاً مختلفة للسلام. ويشمل ذلك السعي إلى نيل الحقوق بموجب القانون الدولي في أماكن مثل الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية، مع وضع تشديد جديد على التضامن العالمي والعمل غير العنيف من خلال حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (بي دي إس)، وغيرها. ويعمل البروفيسور ريتشارد فولك داخل الصراع «الإسرائيلي» / الفلسطيني على مدى عدة عقود، حيث درسه عن قرب وعمق، وما يحاول أن يقدمه في عمله هذا «أفق فلسطين»، هو النظر عن كثب إلى هذه التحولات، ويقدم تحليلاً دقيقاً لأحد أكثر القضايا إثارة للجدل في عصرنا.
التعقيدات السياسية
 
يستكشف فولك، في كتابه الصادر حديثاً عن دار «بلوتوبرس» البريطانية باللغة الإنجليزية في 196 صفحة، التعقيدات والترابطات داخل تاريخ وسياسة فلسطين/ «إسرائيل»، في الوقت الذي ينخرط فيه داخل العلاقات المعقدة التي خلقها الصراع ضمن المجتمع العالمي. وهو يدحض الفكرة القائلة إن النضال الفلسطيني قضية ضائعة، ويقدم تكتيكات وإمكانات جديدة للتغيير. كما أنه يضع الصراع المستمر في السياق، مما يعكس إرث إدوارد سعيد، ويستند إلى أهمية أفكاره كنموذج إنساني للسلام الذي يدرك الصعوبات الهائلة التي تواجه التوصل إلى حل للنضال الطويل. ويعد فولك، أحد أكثر الأصوات رسوخاً وموثوقية في الصراع، يعرض الآن لمحة تاريخية أكثر استدامة وتركيزاً حتى الآن.
ويشير الكاتب إلى أنه ليس هناك قضية سياسية خلال العقد الماضي مثيرة للقلق ومحبطة للهمة بالنسبة له كما هو الحال في الفشل للتوصل إلى سلام عادل ومستدام للشعب الفلسطيني. ويقول: «هذا الكتاب يحاول أن يصور المراحل الأخيرة في النضال الفلسطيني وطموحاته. وأن أي مستقبل محترم يعتمد على الفلسطينيين و«الإسرائيليين» لإيجاد طرق خلاقة للعيش معاً بطريقة تعود بالفائدة على الطرفين».
ويضيف: «خلال إعداد هذا الكتاب، تأثرت كثيراً بسنواتي الست (2008-2014) في العمل كمقرر خاص للأمم المتحدة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 1967 تحت رعاية مجلس حقوق الإنسان».
 
مستقبل الصراع
 
يقول الكاتب إنه «مع نهاية 2016، يبدو أن مستقبل الصراع الفلسطيني «الإسرائيلي» يستعد لدخول مرحلة جديدة. فمن جانب، مع الإجماع المثير للإعجاب، ندد مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة بالتوسع الاستيطاني «الإسرائيلي» في القرار رقم 2334، الذي امتنعت الولايات المتحدة من التصويت عليه. أكد هذا العمل الرمزي أن الدول الكبرى في العالم تبقى ملتزمة بنتيجة عادلة للصراع، وتحترم الحقوق الفلسطينية بموجب القانون الدولي، وأن الأمم المتحدة سوف تستمر في لعب دور حيوي خلال هذه العملية».
ويضيف فولك: «في الوقت نفسه، فكرة تحقيق سلام مستدام في شكل حل الدولتين، مع الاحتفاظ بالموقع الرسمي في الأمم المتحدة وفي الأوساط الدبلوماسية، يبدو أنه بعيد وصعب الإدراك أكثر من أي وقت مضى. ويبدو أن الحكومة «الإسرائيلية» الحالية غير مهتمة بتسوية عبر المفاوضات مع ممثلين عن الشعب الفلسطيني. علاوة على ذلك، يفتقد الفلسطينيون إلى قيادة موحدة، ولا يمتلكون في الوقت الراهن التمثيل الشرعي بالكامل. بالإضافة إلى ذلك، تشير التطورات الميدانية إلى أن «إسرائيل» تدفع بالأحداث إلى الاستيلاء على القدس وأغلب الضفة الغربية، بالتالي يجعل من غير المنطقي تأسيس دولة فلسطينية متمتعة بالسيادة على أساس نهج حل الدولتين».
ويوضح الكاتب أنه «في الواقع، على الرغم من استمرار النضال الفلسطيني على الساحة الدولية، خاصة في الأمم المتحدة، فإن هناك عدم ثقة كاملة تقريباً في حل الدولتين المقترح وفي قدرة الدبلوماسية التقليدية على خلق اتفاق بين «إسرائيل» وفلسطين. بدلاً من ذلك، مسألة وجود أمل يعتمد على تغيير التوازن الحالي للقوى، بالتالي فإن الحكومة «الإسرائيلية» موجهة لإعادة حساب مصالحها في طرق تجعل من الممكن تصور تسوية سياسية مستدامة وعادلة مع الحركة الوطنية الفلسطينية. مثل هذا التغيير، إذا ما حدث، ستكون نتيجة مقاومة فلسطينية أعيد تنشيطها في وجه الاحتلال «الإسرائيلي» الذي يدخل عامه الخمسين وحركة التضامن العالمية التي تظهر حملة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، المتأسسة لتحدي الممارسات والسياسات «الإسرائيلية» التي تنتهك القانون الدولي».
كما يشير الكاتب في الكتاب إلى أن الآمال والتوقعات الفلسطينية في الوقت الراهن يبدو أنها متوقفة على نشاط الشعب أكثر مما هو على دبلوماسية الحكومات والأمم المتحدة. وإذا ما تغيرت علاقة القوى لخلق دبلوماسية منتعشة وأكثر توازناً بالاستناد إلى عملية سلام أصلية ربما تساهم في مستقبل يقود إلى حل.
الآمال الفلسطينية
ويستكشف الكاتب تفاصيل هذه الآراء في سلسلة من المقالات الرصينة، وقسم العمل بعد المقدمة والتمهيد، في أربعة أقسام رئيسية هي: أولاً، التصور الناشئ لفلسطين، وينقسم إلى أربعة فصول هي: مؤشرات الصراع، دبلوماسية أوسلو: وجهة نظر تاريخية قانونية، إعادة التفكير بالمستقبل الفلسطيني، التصوّر الفلسطيني الناشئ، ويناقش فيه التصورات الفلسطينية والأجندة والتكتيكات الموجودة من ناحية السياق السياسي الشامل الذي تأسس فيه الإطار الدبلوماسي قبل فترة طويلة من استحضار عملية السلام إلى «إسرائيل» وفلسطين التي فقدت مصداقيتها بعمق بعد عقود من الإحباط.
ويتناول الاهتمام المتزايد الذي يعطى لنشاط المجتمع المدني سواء على صعيد المقاومة الفلسطينية للاحتلال أو التضامن العالمي مع الصراع الفلسطيني لأجل تقرير المصير والحقوق بموجب القانون الدولي، ويأتي ذلك بشكل خاص في استجابة لحالات الفشل الأولى من الصراع المسلح وإحباطات أخيرة أكثر على الصعيد الدبلوماسي.
أما القسم الثاني فهو بعنوان «حرب الشرعية لفلسطين»، وينقسم أيضاً إلى خمسة فصول هي: «العنف واللاعنف في النضال لأجل حقوق الإنسان في فلسطين» (كتبها المؤلف بالاشترك مع فيكتوريا ميسن)، القانون الدولي، الفصل العنصري، الاستجابات «الإسرائيلية» لحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، واستخدام القانون الفلسطيني والبحث عن سلام عادل، فلسطين تصبح دولة، والسعي إلى الدفاع في المحكمة الجنائية الدولية. وتسلط هذه الفصول الضوء على التغير الاستراتيجي والتكتيكي في التأكيد على أنه يعتمد بشكل متزايد على تشكيلة من المبادرات السلمية، على الصعيد الداخلي والخارجي، المصممة لفضح وتشويه وتحدي السياسات والممارسات «الإسرائيلية» اللأخلاقية واللاقانونية. كما يتطرق هذا الفصل إلى التوترات الإقليمية القائمة في الشرق الأوسط وكيفية حلها، والتغيرات التي يمكن أن تحدث في الموقف الأمريكي والأوروبي تجاه قضايا المنطقة، والقضية الفلسطينية على وجه الخصوص.
وبعنوان «الصهيونية ومعاداة السامية في الساحة الدولية» يتألف القسم الثالث من فصلين هما: «الصهيونية والأمم المتحدة»، و«الخارجية الأمريكية، تعريف معاداة السامية وإنسانية إدوارد سعيد»، ويتوقف هذا القسم عند الاستجابة «الإسرائيلية» العنيفة ضد هذه التكتيكات الفلسطينية الأخيرة من خلال تبني سلسلة من التكتيكات لمصلحتهم، من بينها حملات عدوانية لتشويه حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، والمنظمات الحقوقية الأخرى المناصرة للقضية الفلسطينية. ويشير الكاتب إلى أن هذا الرجوع«الإسرائيلي»إلى الخلف يتجنب معالجة التحديات الأساسية لسياساتها وممارساتها، ويركز على جهودها المبذولة في تشويه عمل الناشطين والمنتقدين، إلى درجة اتهام الأمم المتحدة بانحيازها للفلسطينيين، واعتمادها على أشكال مختلفة من التخويف سواء في الداخل أو في الخارج.
على خطى إدوارد سعيد
ويأتي القسم الرابع والأخير من هذا العمل بعنوان «إرث وصوت إدوارد سعيد»، وينقسم إلى فصلين هما: «عملية السلام الفاشلة»، و«فلسطين كقضية ضائعة»، مخصصاً لتناول الوجوه المختلفة والمتعددة لإرث إدوارد سعيد، كأكثر صوت إنساني فلسطيني مؤثر، وما يجسده من دعوة إلى ترسيخ القيم الإنسانية في الصراع القائم. ويشير الكاتب إلى أنه من الواضح أن «إدوارد سعيد في نهاية حياته وضع آماله على حل الدولة الواحدة التي يمكن للفلسطينيين و«الإسرائيليين» أن يعيشوا فيها معاً ضمن دولة علمانية واحدة تقوم على المساواة بين الشعبين من خلال التزام قوي بتطبيق قوانين حقوق الإنسان على كل من يعيش ضمن حدود هذه الدولة». كما يتطرق إلى جوانب أخرى من كتابات إدوارد سعيد عن القضية الفلسطينية.
ويخرج الكاتب في ختام عمله بعدد من الخلاصات، ومما يقوله في النهاية: اسمحوا لي أن أنهي عملي إذاً، مع إعادة تأكيد على العلاقة المعقدة بين معرفتنا المحدودة، خاصة المستقبل، وإرادتنا السياسية والأخلاقية، التي تمتلك حرية لا يمكن اختزالها لخلق آفاقها الخاصة. ولهذا السبب وحده، يبدو أنه لا بد من تقديم الدعم للانضمام إلى إدوارد سعيد وسلافوي جيجك في إعلان دفاعنا عن القضايا الضائعة، وفي هذا المثال نجد أمامنا قضية الشعب الفلسطيني الذي تم التضحية به بشكل صامت لفترة طويلة. وكما استطاع بعض العنصريين البيض البقاء في جنوب إفريقيا بعد حل نظام الفصل العنصري، سوف يأخذ الأمر معجزة سياسية قريبة من المقارنة مع التجربة السابقة للوصول إلى سلام عادل ومستدام في فلسطين، من شأنه أن يأتي بالكرامة المتساوية للشعبين. بهذه الكلمات أنهى مع مقطع من قصيدة للشاعر دبليو. إتش. أودين: «هؤلاء الذين يوشكون على الموت يطلبون معجزة».
نبذة عن المؤلف
عمل ريتشارد فولك في موقع المقرر الخاص للأمم المتحدة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية من 2008 إلى 2014. وهو أستاذ فخري للقانون الدولي في جامعة برينستون وزميل باحث في الدراسات الدولية في جامعة كاليفورنيا في سانتا باربرا.
ورغم أنه ينتمي لعائلة يهودية إلا أنه يناصر القضية الفلسطينية، ويتنكر للجانب العرقي لديه المتعلق باليهودية وإسرائيل، ويعرّف نفسه بأنه أمريكي، ويجد أن من مهمته «أن يكون مشغولاً بالتغلب على الظلم والتعطش إلى العدالة في العالم، وهذا يعني احترام الشعوب الأخرى بغض النظر عن جنسيتها أو دينها، والتعاطف في مواجهة المعاناة الإنسانية أياً كانت أو وجدت». وهو مؤلف لأكثر من عشرين كتاباً من بينها «الفوضى والثورة المضادة: بعد الربيع العربي».
أما بالنسبة لمؤهلاته فهو حاصل على بكالوريوس العلوم في الاقتصاد من كلية وارتون، جامعة بنسلفانيا في عام 1952 قبل إكمال درجة البكالوريوس في القانون في جامعة ييل. وحصل على شهادة الدكتوراه في القانون من جامعة هارفارد في عام 1962. وقد تأثر في بداياته بقراءات لكارل ماركس وهربرت ماركيوس وسي. رايت ميلز، وطور اهتمامه بالمشاريع التي تهدف إلى إلغاء الحرب والعدوان، وهو من أنصار التوجّه البشري نحو التمتع بروح عالمية، تكون الحدود فيها مفتوحة أمام الجميع لأجل الخير الإنساني. كما كان من المعارضين لغزو العراق في 2003، حيث اعتبرها جريمة عدوانية ضد السلام الدولي.
========================
أيّ دروس في زمان «بريكست»؟ 400 عام على طرد الأندلسيين المسلمين من بلادهم
الخميس - 16 رجب 1438 هـ - 13 أبريل 2017 مـ رقم العدد [14016]
لندن: ندى حطيط
مهما كانت مرجعيتك العرقيّة أو الدينية أو الثقافيّة، فإن قراءة تاريخ الأندلسيين - الذين يُطلِقُ عليهم الإسبان المعاصرون تسمية الموريسكيين أي المور الصغار - وحرب التطهير التي شنها ملوك إسبانيا ضد الإسبان المسلمين من سقوط غرناطة - آخر ممالك المسلمين في الأندلس - عام 1492 إلى الترحيل المأساوي النهائي لنحو نصف المليون منهم عام 1614 تصيب القلب بغصة لا يمكن أن يشفى منها أبداً، وتمثّل حلقة من أفظع حروب التطهير العرقيّة - الدينيّة التي نفذتها دول ضد أقليّات من مواطنيها، ليس آخرها نكبة 1948 في فلسطين المحتلة.
«حروب التطهير» هذه يمكن أن تتكرر في عصرنا الحالي، وها هو المؤرخ البريطاني ماثيو كار يحذر العالم، في خاتمة كتابه «دماء وإيمان» الذي صدرت طبعته الجديدة أخيراً في لندن، من أن موجة الغضب المتصاعد في غير ما بلد عبر الغرب على ضفتي الأطلسي مستهدفةً الأجانب وخصوصاً المسلمين منهم، ستنتهي لأن تأخذنا إلى أجواء «هولوكوست» جديد ضد الأقليّات، في استعادة مؤلمة لما وصفه أحد الكتّاب الأوروبيين في القرن السابع عشر بأنه «الحل الإسباني النهائي لمسألة لا حل لها».
لقد شهدت أحداث تلك الفترة المؤلمة من تاريخ أوروبا اهتماماً بدا استثنائياً بين المؤرخين في العقود الأخيرة، لكنه بقي على الأغلب حبيس أبراج الأكاديميات ولم ينتقل إلى إطار الثقافة الشعبيّة، ولذا فكتاب كار محاولة جريئة لنقل التجربة إلى الجمهور الأوروبي المعاصر دون اتخاذ موقف محدد مع أي من الطرفين، ومن خلال التركيز على تقديم روايات ونصوص متنوعة لأفراد عاشوا آلام تلك المرحلة وكتبوا انطباعاتهم وشهاداتهم، علَّنا في أيام «البريكست»، وترمب، والشوفينية المتصاعدة يوماً فيوماً، نتعلم شيئًا يمنع البشريّة من تكرار إيقاع الألم بالآخر - المختلف - لمجرد الاشتباه في اختلافه.
يبدأ كار تاريخه من لحظة الأفول النهائي لممالك المسلمين في الأندلس. كانت غرناطة وقتها تمثل للنخبة المسيحيّة الحاكمة - وعلى الرغم من توقيعها على اتفاقيات سلام وتعايش مع الممالك الإسبانية في قشتالة والأراغون - نقطة ضعف استراتيجية كان لا بد من استئصالها، إذ كانت لها منافذ على البحر، وجيش لا بأس به وقد ينتهي بها الأمر إلى فتح أبوابها للأتراك العثمانيين الذين بدا نجمهم يلمع في جنوب أوروبا.
شن تحالف الملكيْن إيزابيلا وفيرديناند حرباً صليبية استمرت نحو 10 أعوام ضد غرناطة انتهت بسقوطها النهائي عام 1492. كانت تلك النقطة من مسار التاريخ مُغرقة برمزيتها بما أطلقته من نهايات وبدايات. ففي إحدى ليالي يناير (كانون الثاني) الباردة ذلك العام انتهت التجربة الأندلسيّة الفريدة - على مستوى البشريّة - لإمكان بزوغ مناخ ثقافي وعلمي فائق في إطار مجتمع متنوع سمته التسامح وقبول الآخر، إذ كانت تلك البقعة من الكوكب ولعدة قرون، وعلى رغم بعض الحروب الأهلية وصراعات الحدود والانقلابات الدمويّة، كأنها جنّة تعايش بين مدن - دول وطوائف وإثنيات وأنجزت كتباً وعلوماً وثقافة وفنوناً وموسيقى مذهلة، أقلّه مقارنة بمحيطها الأوروبي المائل إلى التعصب والتوحش والظلاميّة. أما بالنسبة للإسبان الكاثوليك فقد كانت تلك لحظةَ توحيدِ شبه الجزيرة الإيبيريّة واستعادتها من (الغزاة) المسلمين، وانطلاق الإمبراطوريّة الإسبانيّة التي استعمرت ما سُمي بالعالم الجديد.
بين هذه النهايات والبدايات، كانت هناك بداية أخرى أشبه ما تكون بنهاية؛ إنها مأساة مواطني الأندلس - مسلمين ويهوداً وحتى مسيحيين غير كاثوليك - الذين سقطت دولتهم الأخيرة، وتحولوا في يوم وليلة إلى أقليّة ورعايا غير مرغوب بهم من قبل الكاثوليك المنتصرين.
قرر الملوك الإسبان أن الديانة الوحيدة التي سيسمح بها في البلاد هي الكثلكة، وكل من لا يريد التحول عن دينه المختلف فتنبغي عليه مغادرة الأراضي الإسبانيّة من غير رجعة. وهكذا عُمّد ملايين المسلمين الذين رغبوا بالبقاء في بلادهم ككاثوليك، وطُرد اليهود الإسبان وبعض المسلمين بجلافة بعد أن أُجبروا على بيع ممتلكاتهم بقيم رمزيّة ودفع تكاليف ترحيلهم من البلاد.
لكن ذلك لم يحلّ مشكلة النقاء العرقي التي وظفتها الطبقة الحاكمة لضمان استمرار سيطرتها الغاشمة على الإمبراطوريّة وكانت زادتها الكنوز المسروقة من القارة الأميركيّة صلفاً فوق صلف، إذ إن كثيرًا من الإسبان المسلمين قبلوا التعميد تظاهراً، لكنهم في بيوتهم احتفظوا بدينهم، بل وتآمروا لشن ثورات وانتفاضات عدة ضد الحكم الجديد قمعت جميعها بعنف غير مسبوق، وأطلقت تجربة محاكم التفتيش سيئة الذكر التي كانت تصدر أحكاماً شديدة القسوة على كل من يُشك بحسن تحوله إلى الكثلكة بأقل الأشياء حتى لو كان ذلك من خلال الاستحمام - الذي كان عادة مستهجنة عند المنتصرين. بدا بعدها أن الفريقين قد وصلا إلى نقطة اللاعودة، وبدأت دوائر الحكم الإسبانيّة تسعى للبحث عن حلول أكثر جذريّة للتخلص من أقليتها الموريسكية، فكان قرار ترحيل ما يقارب المائة ألف منهم من مدنهم إلى عمق الأراضي الإسبانيّة في الشمال. لم يعد الإسبان هنا يفرقون بين موريسكيين خانعين كما رعاياهم في قشتالة وأراغون وبين الموريسكيين المتمردين شديدي الأنفة من الغرناطيين. الجميع كانوا بالنسبة للكاثوليك المنتصرين بمثابة مجرمين ولصوص وقطاع طرق ينبغي تنظيف البلاد منهم. وهكذا أرسل آلاف الموريسكيين إلى حتفهم عبر البحر باتجاه مستعمرات إسبانيا الجديدة، وابتدعت خلال عدة عقود أساليب فظّة للتخلص منهم ودفعهم للهجرة، إلى أن تبلور القرار النهائي بطردهم من البلاد عام 1609، إذ تم تجميع ما يقارب نصف المليون من السكان الموريسكيين بالعنف وأرسلوا إلى الموانئ لترحيلهم نحو شمال أفريقيا.
يصوّر كار مشاهد تدمي القلوب عن العذابات التي أُخضع لها هؤلاء المهجرون من بلادهم، إذ قضى آلاف منهم حتى قبل أن تحملهم السفن، وتفرقت العائلات، وانتهى كثير من الأطفال المسلمين إلى ترك أهلهم بالرضا أو بالعنف كي تنقذ أرواحهم بالتحول إلى الكاثوليكية، وحتى الذين نجوا من أعواء الترحيل المذلّ ونزلوا على شواطئ أفريقيا تلقفتهم عصابات لصوص شمال أفريقيا التي وجدت فيهم لقمة سائغة. وقد شاهد كار لوحات فنيّة من تلك الفترة - يحتفظ بها الآن في مجموعات خاصة - تصور انتصارات الكاثوليك على الموريسكيين الذين قاوموا محاولات اجتثاثهم من أرضهم في معركة الريف الفالانسي الأخيرة، وإحداها تُصور الجُرف الذي ألقت عشرات النساء المسلمات بأنفسهن وأطفالهن منه إلى الموت لتجنب الترحيل القسري.
اللافت في سيرة الألم هذه أمران أساسيان يثيران الرعب من إمكان استعادة المشهد القاسي راهناً؛ أولهما أن الحكام الكاثوليك لإسبانيا افتعلوا عداوات غير مبررة ضد الموريسكيين لتجييش شعوبهم، على الرغم من أن ذلك كان بالضرورة ضد مصالح البلاد الاقتصادية - حتى لو وضعنا المسألة الأخلاقيّة جانبًا - فالموريسكيون كانوا نتاج مجتمع متحضر أبدع في الحرف والصناعات والزراعة، وهكذا كان فقدانهم نزيفاً اقتصادياً أنهك الإمبراطوريّة الإسبانية، واعتبره المؤرخون أحد عوامل سقوطها لاحقاً. فالتعصب الأعمى لا شك يسمحُ للنخبة المهيمنة بأن تقود الشعوب إلى العمل حتى ضد مصالحها. أما الأمر الآخر فهو وثائق تلك المرحلة - التي اطلع عليها كار - وتظهر أن تياراً عريضاً من كوادر الدولة الإسبانيّة وقتها كانوا مصدومين من فظاظة قرارات السلطة وغير متعاطفين معها بالمطلق لمعرفتهم بحقائق الأمور على الأرض. ومع ذلك فهم كانوا ينتهون دوماً إلى تنفيذ تلك القرارات ضد رعاياهم وجيرانهم وأصدقائهم. أي أن تنفيذ برامج القتل والترحيل والتطهير العرقي التي تستهدف الآخر المستباح يتم من قبل أناس عاديين، غير فاسدين ربما وغير متحاملين يمكنهم - دون التعارض مع أي من مبادئهم الأخلاقيّة - أن يشتركوا وبكل إخلاص في تنفيذ تعليمات السلطة مهما بلغت بشاعتها وانعدام إنسانيتها.
«دماء وإيمان» صرخة في وجه أولئك الذين يريدون أن يحولوا بعنصريتهم المقيتة اليوم مستقبل البشريّة إلى مساحة مظلمة كما كانت إسبانيا قبل 400 عام من اليوم.
========================
أرض جوفاء.. "هندسة" إسرائيل للنظام العنصري
عرض/محمود الفطافطة
تؤكد مضامين كتاب "أرض جوفاء.. الهندسة المعمارية للاحتلال الإسرائيلي" ما جاء في تقرير منظمة الإسكوا الذي يتهم إسرائيل بتأسيس نظام فصل عنصري ضد الفلسطينيين وتقسيمهم إلى أربع فئات تخضع كل منها لترتيبات قانونية مختلفة.
يؤكد الكتاب أن هذا النظام العنصري يمثل وسيلة لفرض الهيمنة والقمع والتفتيت على الشعب الفلسطيني وأرضه، كما يكشف عن طبيعة هذه الإستراتيجية الإقصائية المُعقدة والمفزعة القائمة في أواخر العصر الكولونيالي الحديث، مع الإشارة إلى أن الكتاب ليس معنيًا بعرض تاريخ شامل للسيطرة الإسرائيلية على امتداد أربعة عقود، ولا برسم لوحة مفصلة لوجودها المكاني الحاضر فحسب، بل يسبر غور البنى المختلفة للاحتلال المناطقي.
-العنوان: أرض جوفاء.. الهندسة المعمارية للاحتلال الإسرائيلي
-تأليف: إيال وايزمان
-ترجمة وتحقيق: باسل وطفه
-الناشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت-لبنان
-عدد الصفحات: 430 صفحة
-الطبعة: الأولى 2017
تشكل فصول الكتاب ما يمكن اعتباره "سبرا أرشيفيًا"، يخوض في تاريخ وأسلوب عمل الآليات المختلفة التي رسخت، ولا تزال، نظام الاحتلال وممارسات السيطرة. ويبين أن منطق الفصل أو "الأبارتايد" ضمن المناطق الفلسطينية المحتلة فاق منطق التقسيم على المستوى القومي بأشواط، وشكل توليفة تناسب بناء "مستوطنات سلمية" في بعض الأحيان، وترتيبات حكومية بيروقراطية في أحيان أخرى، هدفها إقصاء وتغييب كل ما له علاقة بالإرث التاريخي والمشهد الجغرافي والديمغرافي للفلسطينيين.
جذور الاستحواذ والهيمنة
يقدم الكتاب تحقيقاً في التحول الذي طرأ على المناطق الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، ويبحث في السبل التي رسخت حضور القوانين الإسرائيلية بصيغها المختلفة في الحيز المكاني، ويحلل التصورات الجغرافية والمناطقية والمدنية والمعمارية، إلى جانب الممارسات التي أقامتها وعززت بنيانها. ومن هذا الباب، يرسم الكتاب صورة عن ماهية الاحتلال الإسرائيلي وجذوره، وتطوره والآليات المختلفة التي يعمل بها.
يكشف المؤلف الدلالات التاريخية والسياسية التي تستنبطها الوسائل الفاضحة للسيطرة الإسرائيلية للأراضي الفلسطينية. وفي هذا الإطار، يحلل الكاتب مدلولات وأبعاد ونتائج تفاصيل: نموذج المستوطنات، والمعمار المبهم للمنازل، وبناء التحصينات وأساليب الحصار، والآليات المحلية للتحكم بالتداول المالي وضبط السيولة، وتقنيات الخرائط ووسائل المراقبة، والتكتيكات القانونية لضم الأراضي، والأسلحة المتطورة العالية التقنية، ونظريات المناورات العسكرية المعقدة. هذه جميعها تمثل مؤشرات على العقليات السياسية والصراعات المؤسساتية ومستوى الخبرات التي وطَدها الاحتلال الإسرائيلي.
يشير الكتاب إلى أنه رغم أن السيادة السياسية تتمثل تقليدياً في سيطرة الدولة على الحيز الأرضي، فإن المجال الجوي فوق الأراضي الفلسطينية هو الميدان السياسي الأكثر فاعلية والأكثر إثارة للجدل في الوقت الحالي.
ويؤكد وايزمان أنه في سياق جميع المفاوضات السياسية حتى اليوم أصرت إسرائيل على أن أي تنازلات مناطقية تقوم بها على الأرض ستكون مشروطة باحتفاظها بالسيطرة على المجال الجوي فوقها، بحيث إنها تقوم بالمراقبة الجوية فوق الأرض الفلسطينية من دون أن تتعرض للمساءلة.
يتطرق هذا الكتاب إلى مسار الإستراتيجية الإسرائيلية بدءاً من تأثير الأركيولوجيا في التخطيط المديني، وإعادة صياغة مفهوم الدفاع على يد شارون خلال حرب 1973، ثم عبر تخطيط المستوطنات وأشكالها المعمارية، وصولاً إلى الخطاب الإسرائيلي وتنفيذ الحرب المدينية والاغتيالات الموجهة من الجو.
التحجير ووسائل التجريد
وفي هذا الكتاب، يركز الفصل الأول على القدس وعنوانه: "القدس: تحجير المدينة المقدسة"، حيث يبين أنه عقب احتلال المدينة عام 1967 تم وضع خطة شاملة لها، تضمنت رسومات وتعليمات شفهية هدفها ضمان وحدة القدس، وبناء المدينة على نحوٍ يردع أي إمكانية لإعادة تقسيمها.
ويشير إلى أن هذه الخطة أسفرت على مدى أربعين عاماً من الاحتلال عن بناء اثني عشر "حيا" يهودياً متباعداً ومتجانساً مع المناطق المحتلة المتضمنة في المدينة، وقد تم بناؤها بحيث تكمل حزاماً من النسيج المعماري يطوّق الأحياء والقرى الفلسطينية الملحقة بالمدينة ويشطرها نصفين.
"يؤكد وايزمان أن التفكير الإسرائيلي في مواقع الأحياء الجديدة وتنسيقها لم ينطو على ابتكار بيئة لمنفعة السكان اليهود فحسب، بل كوسيلةٍ لمنع القدس من أن تؤدي دورها بوصفها مدينة فلسطينية، ولمضاعفة الصعوبات أمام مستقبل الوجود الفلسطيني فيها"
ويذكر الكاتب أن المناطق الصناعية أُقيمت خارج الأحياء الجديدة على هوامش المنطقة المحلية بما يُبقي فلسطينيي الضفة الغربية -مورد القوة العاملة الرخيصة و"المطواعة"- بعيداً عن المدينة نفسها. ويوضح أن المقومات الأساسية للتخطيط والعمارة في القدس مثلت تكتيكات ووسائل للتجريد من الملكية، مضيفا "في ظل "الاعتباط" الذي يتسم به نظام الاحتلال الإسرائيلي، لا تخضع حياة المقدسيين وأملاكهم وحقوقهم السياسية إلى عنف مستديم نتيجة أفعال الجيش الإسرائيلي المتكررة فحسب، بل أيضاً نتيجة تضييق الخناق عليهم في سياق عملية إعادة تشكيل مجالهم الحيوي على الدوام، وبصورةٍ لا يمكن التنبؤ بها".
يؤكد وايزمان أن التفكير الإسرائيلي في مواقع الأحياء الجديدة وتنسيقها لم ينطو على ابتكار بيئة لمنفعة السكان اليهود فحسب، بل كوسيلةٍ لمنع القدس من أن تؤدي دورها بوصفها مدينة فلسطينية، ولمضاعفة الصعوبات أمام مستقبل الوجود الفلسطيني فيها.
هذا التفكير تجلى في تحليل وايزمان لعشرات الخرائط والصور للخطط الإسرائيلية التي أحبطت إمكانية قيام دولة فلسطينية مستقلة أو قابلة للحياة عمليا. وقد شارك المهندسون والمخططون والسياسيون والجيش الإسرائيلي في وضع سياسات تتعلق بكل صغيرة وكبيرة: شركات الكهرباء، والمجاري، والمياه، والطرق، والتجارة والقيام بتنفيذها بكل الوسائل وإن لزم الأمر عبر سياسات القتل والتهجير.
التعمية والتدمير
يعتبر الكاتب أن الجانب الثقافي أدى دورا إضافياً مهما في عملية الاستعمار الإسرائيلي لهذه المدينة، وتمثل في محاولة "تأهيل" المناطق المحتلة والملحقة، وتعديل مظهرها الغريب، في نظر اليهود الإسرائيليين، إلى موطن مألوف.
ويقول: "إن العمارة قد جسدت لغة بصرية اتُخذت وسيلة للتعمية على حقائق الاحتلال ولدعم مطالب التوسع المناطقي في محاولة لتعزيز السرديات القومية حول الانتماء، بالتوازي مع التضييق على السرديات الأخرى، أو حتى حجبها تماما".
يناقش المؤلف، بإسهاب، نظرية" التدمير المُخطط" من خلال أبرز نموذج في ذلك، وهو قيام الاحتلال الإسرائيلي في العاشر من يونيو/حزيران 1967 بتنفيذ أول عملية تغيير محلي نوعية في المناطق المحتلة، وهي هدم حي المغاربة بأكمله، بحيث قام الجيش بعملية الهدم هذه من دون أمر حكومي مُعلن.
ويبين أنه بعد شهرين من احتلال إسرائيل للقدس أُعلن عن البلدة القديمة برمتها موقعا أثريا يُمنع البناءُ فيه بغرض إجراء المسح الأركيولوجي الذي لم يمثل ذريعة "لعودة" إسرائيلية تحتل الأراضي الفلسطينية فحسب، بل "موطئا" لحق تاريخي أصيل أمكن تطويره إلى نموذج بناء على يد المعماريين الإسرائيليين.
 
"المهمة التي أُلقيت على عاتق المعماريين والمصممين الإسرائيليين ضمن الحدود المحلية للمدينة لم تكن تتلخص في بناء المنازل والعمل على تطوير "النمط القومي" الجديد فحسب، بل الحفاظ على "التوازن السكاني" أيضا"
ووفق الكاتب، فهؤلاء الأركيولوجيون التوارتيون الإسرائيليون "عملوا على ليّ عنق التاريخ عبر تهميشهم للمكتشفات في الطبقات الأعلى والأحدث التي تعود إلى العصور الإسلامية والعثمانية خلال عمليات الحفر، وفي المتاحف أيضاً، إذ يعمدون إلى صرف النظر عنها باعتبارها تمثيلات لمراحل تاريخية خاملة، وتُنبذ بذريعة أنها "حديثة للغاية"، أو تُترك نهباً للتحلل والبوار".
الترحيل والقنبلة!
وقد تمثل هذا الفعل (ليّ عنق التاريخ) في استخدام الأركيولوجيا التوراتية لإضفاء الشرعية على الزعم القائل إن العمارة الفلسطينية المحلية يهودية في الأصل، كما سوغت تعريف "الأسرلة" بوصفها ثقافة محلية "أصيلة" استأثر بها الوافدون الفلسطينيون الجدد وشوهوا ملامحها.

ويرى الكتاب أنه في خضم مساعيهم لإرساء المعايير السكانية والجغرافية ضمن الخطط الشاملة، أسهم المخططون والمعماريون في بلدية القدس، إلى جانب العاملين لمصلحتهم، في السياسة القومية القائمة على التهجير القسري؛ الذي يُعتبر جريمة وفقاً للقانون الدولي، ويُشار إليه ضمنا في الدوائر الإسرائيلية على أنه "الترحيل الصامت".
ويوضح أن المهمة التي أُلقيت على عاتق المعماريين والمصممين الإسرائيليين ضمن الحدود المحلية للمدينة لم تكن تتلخص في بناء المنازل والعمل على تطوير "النمط القومي" الجديد فحسب، بل الحفاظ على "التوازن السكاني" أيضاً، الذي كان معدله ضمن الحدود التي أُعيد ترسيمها خلال حرب 1967: ثلاثة أفراد يهود مقابل فرد فلسطيني واحد.
وفي هذا الخصوص، يورد الكاتب ما صرحت به مهندسة المدينة "إلينور بارزاكشي" عام 1993، والتي عكست تصريحاتها ماهية السياسة الحكومية الجارية حينما أوجزت آلية عمل الإدارة المحلية في التعامل مع هذه المشكلة: "هناك قرار حكومي للمحافظة على التناسب بين السكان العرب واليهود في المدينة بما نسبته 28% من العرب و72% من اليهود". وقد شكلت سياسة المحافظة على "التوازن السكاني" دعامة المنطق الكامن وراء كل خطة شاملة جرى تصميمها لتطوير المدينة.
 
ونظراً إلى عدم تحقيق هذه السياسة النتائج المنشودة، خاصة في ظل رؤية الاحتلال أن معدل النمو السكاني المرتفع للفلسطينيين في القدس يشكل "قنبلة سكانية موقوتة"، سعت السلطات الإسرائيلية إلى اتخاذ خطط عديدة، استلزمت المحافظة على التوازن السكاني عبر "الممكنات الإسكانية" عبر تطبيق واحدة من خطتين سياسيتين أو كلتيهما: تدعم الأولى الإسكان في الأحياء اليهودية، في حين تضع الأخرى قيوداً على التوسع الفلسطيني.
هذه الخطة العملية تجلت نتائجها عبر العديد من القرارات، منها بناء 90 ألف وحدة سكنية لليهود في جميع أجزاء القدس الشرقية منذ عام 1967، في حين تُصدر حوالي 100 رخصة بناء للفلسطينيين في المدينة كل سنة، لتتسبب بالنتيجة في أزمة سكن فلسطينية مع عجز يفوق 25 ألف وحدة سكنية.
طرق من طوابق!
"يُمثل كتاب "أرض جوفاء.. الهندسة المعمارية للاحتلال الإسرائيلي" أرضية معرفية واسعة تبرهن على مضامين وآليات ومخاطر النظام السياسي والعسكري الذي تنتهجه إسرائيل بوصفها دولة احتلال لأرض الغير"
وحسب وايزمان، فإن المخططين الإسرائيليين سعوا إلى تجميع مكانين جغرافيين منفصلين ومتداخلين وفق مبادئ تمنع التقاطع المباشر أو التقاء المستوطنين والفلسطينيين مباشرة. مناطق للمستوطنين في الأعلى منتشرة على التلال المطلة، المنتقاة بعناية والموصولة بطرق حديثة جيدة، ومناطق أخرى للفلسطينيين مزدحمة تتكون من المدن والبلدات والقرى أسفل التلال وفي سفوح الجبال والوديان والمنخفضات.
وفق ذلك، فإن المستوطنات تشكل حواجز بين الفلسطينيين والمقدسيين كذلك في المناطق الجبلية المأهولة من ناحيتي الشرق والغرب، وتجزئتها عبر حركة المرور شرقا باتجاه إسرائيل وغربا وبالعكس وما يلزمها من طرق عريضة محمية من الجيش والمستوطنات المقامة بالقرب منها والمطلة على هذه الطرق التي تتقاطع مع طرق فلسطينية قديمة وأدت إلى إلغائها، مما سينتج عنه عدد من التجمعات الفلسطينية المعزولة حول المدن الكبرى موصول ببعضها عبر إشراف إسرائيلي كامل.
ويعالج الكتاب أيضا مسألة الطراز المعماري للبناء الذي يعزز وجود الاحتلال في القدس، إلى جانب تواطؤ المعماريين في تصميمها. كما يقوم بقراءة لسياسة العمارة الإسرائيلية والمنهج الذي تتضافر وفقه القوى الاجتماعية والاقتصادية والقومية والإستراتيجية في عملية التنظيم، إضافة إلى شكل المنازل وتنميقها والبنية التحتية والمستوطنات.
يشرح الكاتب دور "الهندسة المعمارية" ومساهمتها في وضع بُنى وتركيبة الاحتلال بجزئياته وتفاصيله في القدس، منوها إلى أن المهندسين هم سياسيون وعسكريون وخبراء ونشطاء آخرون وقد ساهموا جميعاً في هندسة الاحتلال.
يُمثل كتاب "أرض جوفاء.. الهندسة المعمارية للاحتلال الإسرائيلي" أرضية معرفية واسعة تبرهن على مضامين وآليات ومخاطر النظام السياسي والعسكري الذي تنتهجه إسرائيل بوصفها دولة احتلال لأرض الغير. نظام يقوم على المرتكزات الأساسية للحركة الصهيونية المتمثلة في: الاحتلال، والإلغاء، والإحلال، والعنصرية. هذه المرتكزات جميعها نفذتها إسرائيل ضد المكان والإنسان الفلسطينيين بصورة ممنهجة ودائمة، لعلها تُلغي هذا الشعب من خريطة الحضور والبقاء، لكنها فشلت، وستفشل، لأنها دولة مستعمرة، لا دولة "أصلانية".
========================