الرئيسة \  واحة اللقاء  \  عن نشوء "مسألة درزية"

عن نشوء "مسألة درزية"

11.08.2018
مرزوق الحلبي


الحياة
الخميس 9/8/2018
هذا الشرق شديد الولع بإنتاج المسائل ـ مسألة الأرمن مرة والمسألة الكردية ومسألة الأقباط والإزيديين ومسألة الفلسطينيين. وأخشى أننا في سبيلنا إلى مسألة جديدة هي "المسألة الدرزية". وهي مسألة ملتهبة في موقعين متجاوريْن، في إسرائيل وفي جبل الدروز جنوب سورية. والقضية في الموقعين متشابهة من حيث جوهرها على رغم الاختلاف في التفاصيل والحيثيات. ففي جبل العرب يقف الدروز أمام نظام متوحّش يخيّرهم بين الاندماج في توحّشه كفاعلين أو التحوّل إلى ضحية لتوحّشه. وفي إسرائيل، يقف الدروز بعد قانون القومية الذي سنّه الكنيست أمام خياريْن: إما أن ينخرطوا في نظام الأبرتهايد الذي أسسه القانون كمرتزقة وكقوة ضاربة أو الانحياز لمصلحة قوى في المجتمع اليهودي تُريد الحفاظ على الوضع القائم لجهة دولة يهودية ـ ديموقراطية تتوصّل إلى تسوية ما مع الفلسطينيين. أما دروز لبنان فمحنتهم مستمرّة منذ اغتال نظام الأسد الأب كمال جنبلاط واحتلّ لبنان ومنذ انقلب "حزب الله" على اتفاق الطائف ووضع البلد وبيروت تحت رحمته.
في العقيدة الدرزية، رواية تتحدث عن "المِحنة" التي ستُحيق بهم في الآخرة! وعليه سنجد الكثيرين من أتباع المذهب الدرزي يتحدثون بعد مجزرة السويداء قبل أسبوعين عن أن "المِحنة" هنا. ويقولونها بتركيب لغوي مجازي طريف وهو أنه سـ "تضيق حلقة الميم على أعناق الموحّدين"! ففي سورية يُفاوض ضباط روس دروز الجبل طالبين عودة المتخلفين الخمسين ألفاً للخدمة وملء الفراغ الناشئ عن قلة عدد المجندين واضطرار الإيرانيين وميليشياتهم إلى الانسحاب من محافظة درعا وفق الطلب الإسرائيلي. والمطلب الأساس في المفاوضات تجريد "شيوخ الكرامة" الذين يحمون المتخلفين عن الخدمة من السلاح وإخضاعهم للنظام المتمدّد جنوباً. المفاوضات التي يُشرف عليها الروس هي غطاء لسلسة من الضغوطات والتهديدات بدأت من سنوات مفادها الخضوع أو أنكم أنتم لقمة سائغة في فم داعش أو الفصائل التي لا حسب لها ولا نسب المؤتْمَتة في ورشة مخابرات النظام. وهي ليست مجرّد تهديدات فحسب، بل مجزرة بالفعل وبالاحتمال مسلّطة فوق رقاب الدروز كما رأينا في السويداء وباديتها.
أما في إسرائيل التي بدت أوضاع الدروز فيها مستقرّة بعض الشيء ـ بمعنى انعدام أي خطر وجودي عليها ـ فقد ألفى الدروز أنفسهم أمام قانون القومية الذي يُسقط عنهم مواطنتهم الكاملة ويجعلها مشروطة تماماً ورهينة مزاج المجتمع اليهودي الذي أعلن أنه يمتلك كل الأرض بين بحر ونهر حصرياً من حيث السيادة وتقرير المصير والملكية، للشعب اليهودي الذي فيها والذي لم يأتِ إليها بعد. القانون في نصّه ودلالته يتنكّر لمسيرة ستة عقود كان الدروز فيها جزءاً من المشروع الصهيوني ـ الإسرائيلي في موقعهم السياسي وتجنيدهم القسري. وعندما احتجوا مدعومين بشرائح واسعة من المجتمع اليهودي خيّرهم رئيس الحكومة في جلسات المفاوضات الماراثونية بين أن يكونوا مرتزقة مسلوخين عن انتمائهم العربي المشرقي مرهونين للسيد اليهودي وبين أن يذهبوا إلى سورية ـ جبل العرب! أما احتجاجهم الذي قضّ مضجع نتانياهو لأنه حرّك الشارع اليهودي ضده، فأتى حتى الآن بخطاب المواطنة/ الهويّة الإسرائيلية التي يُصادرها قانون القومية الجديد ويُلغيها لمصلحة مواطنة يهودية حصرية.
مع هذا، كان هذا الاحتجاج الخجول كافيا لأن يُحرّك النزعات اليهودية اليمينية العنصرية المُستعلية ضدهم واتهامهم بأنهم "غير مخلصين ولا يقدّرون معروف الشعب اليهودي معهم وحمايته لهم"، وعرّضهم لموجة تحريض مسمومة من نتانياهو وأوساطه! فوضعهم هذا مجدداً في خانة الدفاع عن صورتهم كمُحبّين لإسرائيل الدولة والعلم ومُخلصين لهما أيّما إخلاص.
الدروز في سورية رفضوا إلى الآن الإملاءات الروسية ومشروعات النظام، مُصرّين على أنهم لن يكونوا أداة لتقتيل الشعب السوري ولا لتدمير حاضرته، وهو الموقف الوطني الذي رسّخه "شيوخ الكرامة" ورئيسهم وحيد البلعوس الذي اغتالته مخابرات النظام مع 50 من رجاله في 2015. لكن في الوقت ذاته زاد الشحن والتوتّر الداخلي بين قلّة مؤيّدة للنظام بحجة أن لا خيار آخر، وبين كثرة تريد الوطن بغير النظام وتوحّشه لكنها تعرف الثمن الباهظ لذلك.
أما الدروز في إسرائيل الذين سلختهم المؤسسة الإسرائيلية عن مجموعة انتمائهم العربية فيجدون أنفسهم في وضع يُدافعون فيه عن إسرائيليتهم التي تترك لهم وللفلسطينيين عموماً في إسرائيل هامشاً من الحريات والمكانة في مواجهة تهويد المواطنة وخفض مكانتهم كجماعة في خريطة الجماعات داخل إسرائيل. من هنا، تأكيدهم المطالبة بمكانة متساوية كجزء من وضع سياسي ـ دستوري يضمن المساواة والمواطنة المعترف بها لكل الجماعات في الدولة. ورفضوا إلى الآن خطة الحكومة أن تكون لهم مكانة خاصة ـ ليست كاليهود ـ لكن أفضل من الفلسطينيين داخل إسرائيل. وقد أفشلت قياداتهم هذا المشروع الذي اعتبروه تطويباً لهم للمرة الثانية كمرتزقة. وهذه المرّة ليس في إسرائيل الدولة "اليهودية ـ الديموقراطية" التي تحتلّ الفلسطينيين بل إلى جانب نظام أبرتهايد إسرائيلي آخذ بالتنامي والظهور إلى العلن.
أما الدروز في لبنان فيقفون غير قادرين على الحركة لا في حدود الوطن المأزوم ـ لبنان ـ ولا تجاه الأخوة في إسرائيل أو سورية. وكل ما استطاعوا القيام به حيال الوضع في سورية هو التبرّع بالموارد وطلب التروي والتسلّح بالحكمة.
أرجّح أن الأوضاع في الموقعين ـ دروز إسرائيل ودروز سورية ـ مرشحة للتطور باتجاه التصعيد مع الاختلاف في طبيعة التصعيد في الحالتين. ففي إسرائيل لا يزال الأمر يحصل في الحيز السياسي الذي يوفّر هامشاً من الحريّات، أما في سورية فقد يذهب في مسار عنيف يفرضه النظام مدعوماً من الروس المعروفين بتوحّشهم في الشيشان.