الرئيسة \  واحة اللقاء  \  عن مسألة درعا من خارجها

عن مسألة درعا من خارجها

16.09.2021
موفق نيربية


القدس العربي
الاربعاء 15/9/2021
في المحادثات الروسية ـ الأمريكية – الأردنية أواخر عام 2018 في عمان، بوجود غير مباشر- لكنه طاغٍ لإسرائيل، وافق الروس على استمرار احتفاظ مسلّحي درعا بسلاحهم. ويبدو أن ذلك كان مريحاً للأطراف الثلاثة الأخرى، بمعنى المحافظة على إمكانية معينة لأهل المنطقة بالدفاع عن أنفسهم.. لكن ضدّ من؟ غالباً في وجه الفرقة الرابعة (ماهر الأسد) وهي المدعومة بوضوح من قبل إيران.. هنا تكمن مصلحة أردنية – إسرائيلية في الحفاظ على وجود سدٍّ أمام تقدم الإيرانيين، الذين لم يكلّوا ولم يملّوا من محاولة ذلك، حتى الأسبوع الماضي أيضاً.
في حزيران/يونيو من العام التالي، بعد المحادثات المذكورة أعلاه، حدث لقاء “غير مسبوق” بين مسؤولي الأمن القومي في الولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل، بولتون وباتروشيف وبن شبات، وكان اجتماعاً استراتيجياً مهماً لم يهمل كلّ عوامل الصراع في المنطقة.
ومن الواضح أن خلوّ جنوب غرب سوريا من الإيرانيين كان نقطة رئيسة في ذلك الاجتماع، تعهدت روسيا بالحفاظ عليه مبدئياً، لكن ليس بشكلٍ مطلق، كما ظهر لاحقاً، مقابل دمج ذلك الاتفاق في إطار آستانا – 2017 الذي خطط لإنشاء أربع مناطق لخفض التصعيد، كما سمّاها. ومنذ أيام آستانا تلك، كان واضحاً أن تصفية منطقتين من تلك الأربع – في ريف دمشق وشمال حمص- أمرّ مُسلّم به، مع استمرار المنطقتين الأخريين لتسوية أولاهما، إدلب، مع تركيا انطلاقاً من حساسية وضعها واختلاطه بقضية جبهة النصرة واللاجئين. وتسوية ثانيتهما، درعا، مع إسرائيل والأردن والولايات المتحدة بسبب حساسيتها الشديدة من التمدّد الإيراني، ولا بأس بممارسة كلّ المناورات الممكنة لضرب الأطراف بعضها ببعضها الآخر، خصوصاً من حيث عدم انطباق المصلحة الروسية في كلّ مناحيها مع تلك الإيرانية.
 
استطاع سكان جنوب غرب سوريا في درعا والسويداء والقنيطرة، أن يؤمّنوا حتى الآن كرامتهم، إضافة لمصالحهم
 
تعمل إسرائيل على ضمان مصالحها في المنطقة المجاورة لها من طريقين: الاستمرار بتوجيه الضربات الجوية والصاروخية، لكلّ محاولات إيران لتعزيز وجودها في قربها وتطويره؛ ومتابعة سياساتها “الإنسانية” في دعم اللاجئين المستجدّين هناك بكلّ أشكال الدعم، وتقديم المساعدات بشكل مباشر أو غير مباشر- عن طريق المنظمات الإنسانية، القناة التي يرغب الروس بأن يستخدمها الإسرائيليون، وهي الاستراتيجية التي اتبعتها منذ عام 2013؛ والأمر الذي يؤسس من وجهة نظرها لأوضاع أكثر ملاءمة للحفاظ على الهدوء الاستراتيجي الذي فقد بعض معالمه، التي أسّسها التزام حافظ الأسد الممتاز باتفاقية فصل القوات 1974 هناك، كما يمكن أن يؤسس أيضاً لسلام أكثر راحة واستقراراً في المستقبل؛ ومن جهة أخرى يريح الأردنيين قليلاً من احتمالات تدفق اللاجئين عليه في موجات جديدة، إضافة إلى ذلك، لا تفتأ إسرائيل تستخدم نفوذها الأمريكي لتطبيق الضغوط السياسية أيضاً.
تشبه إسرائيل تركيا في أكثر من اتّجاه: فكلتاهما كانت موافقة على التدخل العسكري الروسي كلٌّ ينطلق من مصالحه؛ وكلتاهما تعرّضتا لفخٍّ غير مرغوب فيه، واضطرتا إلى هضم الدرس حين أسقطت تركيا طائرة حربية روسية، وحُمِّلت إسرائيل مسؤولية سقوط طائرة استطلاع روسية؛ فاتّجهت القيادتان هنا وهناك إلى تفهّم المصالح الروسية، وأهمية عدم التمادي في استفزاز الغطرسة القيصرية القديمة – الجديدة. وفي الوقت ذاته، هنالك شبه أيضاً في درجة الحساسية المفرطة لدى الأتراك والإسرائيليين، من حيث” الأمن القومي” للبلدين، أحدهما فيما يخصّ إيران وحزب الله كنقطة دينامية تؤثّر في الاستراتيجية الإقليمية لإسرائيل، والثاني فيما يخص الكرد وقضيتهم القومية كنقطة دينامية تؤثّر في الاستراتيجية التركية إقليمياً كذلك، لدى إدارة أردوغان. وتدرك القيادة الإيرانية بدهائها القديم أهمية جنوب غرب سوريا وجنوب لبنان في استفزاز وابتزاز الإسرائيليين والأمريكيين على الأقل، ولضمان تعزيز وجودها ذاك، لا تتحفّظ بدفع قوى قريبة منها في المناوشات الاستراتيجية اللازمة، حتى في إطار قوات النظام نفسه، كالفرقة الرابعة أو” لواء الغيث” حيث يتعذّر دفع “فاطميون” الأفغان، و”زينبيون” الباكستانيين أو حزب الله اللبناني الأعزّ والأقرب والأقوى.
ويريد الروس تحصين وجودهم الاستراتيجي في غرب المتوسّط، واستثمار نجاحاتهم السورية في التبادلات السياسية في أماكن أخرى من العالم، وأخيراً قطف الثمار الاقتصادية من حربهم تلك في إعادة الإعمار والعقود الطويلة الأجل في الموانئ والثروات الباطنية.. وتمثّل مبادراتهم العسكرية الهجومية دفاعاً عن الميزتين الأوليين، في حين تحتاج الثالثة إلى التهدئة والتسويات والمصالحات، وهو برنامج مركز مطار حميميم “الروسي” والجزء الأثير في استراتيجيته. وفي الحالات جميعها يكون وجود واستمرار نظام الأسد ضمانة مهمة، مع أنها قد تكون مؤقتة وحسب، حتى تحقيق حسم أكثر وضوحاً.
يبدو أن الروس يرغبون كذلك بالالتزام بأسس اتفاق 2018، لكنهم اشتغلوا مؤخّراً على توجيه رسائل ثلاثية، على الأقل، إحداها إلى إسرائيل تعكس بعض الضيق من تزايد واستمرار الغارات الإسرائيلية على المصالح الإيرانية، وتأثير ذلك في الهيبة العسكرية الروسية (وكانت معالجة ذلك غالباً في صلب محادثات ليبيد في موسكو الأسبوع الماضي) وتريد منها المزيد من الحذر وعدم المساس بقدرات النظام السوري ذاته؛ وثانيتها إلى إيران لتخميد اندفاعها الدائب نحو الجنوب؛ وثالثتها إلى كلّ من النظام والمعارضة للمزيد من الانضباط والالتزام.
من جهته، ابتدأ النظام مسيرته لاستعادة نفوذه ووجوده في الجنوب، على نمط هجومه في يونيو 2018، لتصفية مناطق خفض التصعيد في الغوطة شرق دمشق وفي شمال حمص، وشاركه الروس في ذلك الهجوم، مع تحاشي استخدام الطيران – كما حدث دائماً ومؤخراً – لتحييد الإسرائيليين. وبنتيجة ذلك الهجوم، تحققت سيطرة متفاوتة للطرفين المهاجمين، وتراجع نسبي غير مطلق للطرف المعارض والأهالي. وكانت السيطرة على الطريق الدولي والمعابر على الحدود هدفاً مهماً، يدغدغ مصلحة الأردنيين التجارية في الوقت ذاته.
في خضم تلك الخريطة المتشابكة للقوى والديناميات المتنوعة، استطاع سكان جنوب غرب سوريا في درعا والسويداء والقنيطرة، أن يؤمّنوا حتى الآن كرامتهم، إضافة إلى مصالحهم في علاقة جيدة مع الجيران في الأردن، وفي عدم الانقطاع عن باقي الوطن السوري، وفي حماية أنفسهم من التهجير.. كلّها معاً، حتى الآن. لتحقيق ذلك، كانت المناورة من قبل أهل حوران مع الروس ضرورة
(بعد أن تخلّت الولايات المتحدة عن مركزها المتميّز سابقاً هناك)؛ فكان تبادل المصالح معهم في فكرة الفيلق الخامس ولوائه الثامن خصوصاً، الذي ينتمي إسمياً وحسب إلى قوات النظام وجيشه، وهو يحاول الجمع بين عقوده مع الروس مع مراعاة مصالح أهله وعشيرته. وكانت أيضاً وحدة أهل درعا في ذلك الإطار، وتمسّكهم بإرثهم المرن الصلب معاً، وتمسّكهم بكونهم السباقين إلى الثورة منذ انطلاقها، واستحقوا من أجل تضحياتهم وصلابة مواقفهم أن يُطلق على درعا اسم” مهد الثورة السورية”. ذلك ينسجم أيضاً مع ما يجري في السويداء (وهذا يحتاج إلى حيّز أكثر اتساعاً لمعالجته)؛ ولو كان المساران متميّزين. وهو يحتاج كذلك إلى وعي في مستوى ذلك التعقيد الكبير، وإلى حشد التضامن الوطني لاستعادة وحدة البلاد على عقد يتضمّن الحرية والكرامة، والديمقراطية والعدالة.
وفي المستقبل المنظور، ستبقى التقلبات هي السمة المميزة للجنوب السوري. الأمر الذي أشارت إليه دراسة مفيدة لمؤسسة كارنيجي في العام الماضي. وكما فعل الروس والإيرانيون والأسد مؤخّرا، سوف تتواصل محاولة النظام المتهتك بين مرجعيات عديدة، لفرض السيطرة من خلال العنف لا السياسة، وسوف تستمرّ مقاومة أهل حوران المثيرة للإعجاب، كما سوف تتابع روسيا وإيران محاولة تعزيز نفوذهما ووجودهما هناك أيضاً، كلّ في اختصاصه وحقله، طالما أن أفعالهما لا تغيّر بشكل عميق الوضع الذي توافقت عليه روسيا مع الأردن وإسرائيل والولايات المتحدة، أيضاً كلّ في اختصاصه وميدان مصالحه.