الرئيسة \  تقارير  \  عن حدود وصلاحيات مجلس الشعب الجديد

عن حدود وصلاحيات مجلس الشعب الجديد

22.06.2025
مالك الحافظ



عن حدود وصلاحيات مجلس الشعب الجديد
مالك الحافظ
سوريا تي في
السبت 21/6/2025
في خضم المسار الانتقالي السوري، برز مؤخراً تعيين "مجلس الشعب الانتقالي" كخطوة جديدة ضمن سياق بناء المؤسسات الدستورية الناشئة. وقد دافعت بعض الجهات الداعمة للجنة العليا لتعيين مجلس الشعب عن هذه الخطوة بوصفها "أمراً لا مفرّ منه"، نظراً لتعذّر إجراء انتخابات عامة في ظل غياب قانون أحزاب، وتعقيدات السجل المدني ومعضلات النزوح واللجوء، وعدم وجود مفوضية مستقلة للانتخابات، إلى جانب الحاجة لنقاش وطني حول قانون الانتخاب نفسه.
وبحسب هذا المنطق، فإن تشكيل مجلس معيّن، وإن لم يكن منتخباً، هو ضرورة وظيفية للمرحلة الانتقالية، على أن تراعي اللجنة –كما يُؤمَل– معايير الكفاءة والتنوع والانضباط الأخلاقي والحقوقي في اختيار الأعضاء.
هذا التبرير، وإن بدت له وجاهة إجرائية في ظل السياق السوري المعقد، إلا أنه لا يُعفينا من ضرورة مساءلة الأثر السياسي العميق لهذا النمط من التعيين، لا سيما في ضوء ما يُبنى عليه من تصوّرات حول السلطة والفصل بينها، ومشروعية التمثيل، وأسس الرقابة التشريعية.
في عدد من تجارب ما يُعرف اصطلاحاً بـ"جمهوريات الموز" في أميركا اللاتينية، لطالما شكّلت البرلمانات وسيلة لتجميل المشهد، حيث كانت تُعيَّن أو تُهندَس بعناية من قبل السلطة الحاكمة، ليس تجسيداً للإرادة الشعبية، وإنما لضبط المجال السياسي واحتواء المطالب التغييرية ضمن هياكل شكلية. ولعل أبرز ما يميّز تلك البرلمانات أنها وُجدت لتثبيت الاستثناء ولترسيخ السلطة، في مشهد سياسي يستعيض عن الشرعية بالمشهدية، وعن الرقابة بالتزكية.
لقد كشفت عضو لجنة صياغة الإعلان الدستوري، ريعان كحيلان، في وقت سابق خلال تصريح متلفز؛ عقب اعتماد الإعلان الدستوري، بأن الرئيس الانتقالي غير خاضع لأي محاسبة أو رقابة، سواء من مجلس الشعب أو من غيره، وأن الوزراء أيضاً خارج نطاق المساءلة. واستندت في ذلك إلى "مبدأ فصل السلطات"، معتبرة أن الرقابة قد تخلّ بهذا الفصل، في قراءة لا تخلو من التبسيط المخل والمفارقة الخطرة، إذ تُفرغ هذا المبدأ من مضمونه الجوهري القائم على التوازن والضبط المتبادل بين السلطات، لا القطيعة بينها.
إن القول بعدم محاسبة أو مساءلة الرئيس الانتقالي ووزراء الحكومة، ومنحهم حصانة غير مشروطة، يضعنا في مواجهة مفهوم مقلوب للسلطة، ينتمي إلى منطق الدولة المملوكية لا إلى الدولة الدستورية الحديثة. كما أن حرمان مجلس الشعب من أي أداة رقابية جدية، لا يجعل منه سلطة تشريعية، وإنما يجعله هيئة ملحقة بالمشهد التنفيذي، تُستخدم لإضفاء شرعية شكلية على قرارات قد لا يكون لها أي سند اجتماعي أو سياسي راسخ.
إن الأزمة هنا ليست أزمة توقيت أو ظرف انتقالي، هي فعلياً أزمة رؤية للشرعية. فالمجلس التشريعي أو مجلس الشعب هو عماد التوازن السياسي وضمانة للتداول والتشاركية، وأي تقييد لسلطاته أو تجريده من قدرته على المحاسبة، هو تقويض مباشر لمبدأ التعاقد الدستوري الذي يُفترض أن تُبنى عليه سوريا ما بعد الانهيار السلطوي لنظام الاستبداد.
نعم، من الممكن أن نتفهّم من يدافع عن هذه الخطوة باعتبارها "وظيفية" ومؤقتة، تنبع من الحاجة لسدّ فراغ دستوري وتنظيمي، لا سيما في ظل غياب بيئة انتخابية نزيهة. غير أن المشكلة لا تكمن في التعيين بحد ذاته، بقدر ما تتمثل في مصادرة أي صلاحيات فعلية للمجلس تُتيح له مساءلة السلطة التنفيذية، أو رفض تشريعاتها، أو حتى المصادقة على المعاهدات الدولية؛ وهي الأهم. وهو ما يعني فعلياً تحويل هذا المجلس إلى غرفة صدى، لا إلى سلطة دستورية فاعلة.
هنا يبرز التناقض الجوهري في فلسفة الإعلان الدستوري نفسه، فكيف يمكن الحديث عن فصل سلطات دون رقابة متبادلة، وكيف يمكن بناء توازن مؤسساتي إذا كانت السلطة التنفيذية فوق المساءلة، والسلطة التشريعية خاضعة من حيث التشكيل والوظيفة.
إن الأزمة هنا ليست أزمة توقيت أو ظرف انتقالي، هي فعلياً أزمة رؤية للشرعية. فالمجلس التشريعي أو مجلس الشعب هو عماد التوازن السياسي وضمانة للتداول والتشاركية، وأي تقييد لسلطاته أو تجريده من قدرته على المحاسبة، هو تقويض مباشر لمبدأ التعاقد الدستوري الذي يُفترض أن تُبنى عليه سوريا ما بعد الانهيار السلطوي لنظام الاستبداد.
إذا لم يُتح انتخاب مجلس شعب، فأين هي مقوّمات الحياة السياسية من الأساس، وأين هو قانون الأحزاب. كيف يُراد لمسار سياسي أن يُستكمل بنجاح خلال مرحلة انتقالية، في حين يغيب عنها الجوهر السياسي الحقيقي، وهو التعدد والتنافس والتمثيل، كما لا يمكن اختزال "السياسة" في هندسة مؤسسية بيروقراطية تفتقر إلى الأطر الناظمة للفاعل الحزبي والمدني.
لقد بادرت السلطة الانتقالية، مؤخراً وبشكل متعجل، إلى ملء فراغ القيادة القطرية التي كان يتزعمها حزب البعث المنحل عبر تشكيل ما سمّته "الأمانة العامة للشؤون السياسية"، رغم كل المخالفات التي يثيرها هذا التكوين. المشكلة لا تقف فقط في المخالفات الإجرائية، بقدر ما كانت تكمن في جوهر هذه الخطوة التي تُجسّد نمطاً استبدادياً جديداً، يسعى لخنق الحياة السياسية قبل أن تُولد.
الأدهى من ذلك أن الأمانة العامة المعلنة لا تنتمي إلى الفضاء التعددي وإنما تمثّل في بنيتها وروحها نوعاً من "الحزب البديل" المتخفي، أو "الجهاز الجامع" الذي يريد أن يُدير الحياة السياسية من الأعلى.
وفي هذا السياق، يبرز في علم السياسة سؤال محوري يتمثل في تحديد الحد الأدنى من الشروط اللازمة لتحقيق انتقال ديمقراطي حقيقي. وقد قدّم كل من خوان لينز وألفريد ستيبان، في دراستهما المعروفة حول مسارات التحول الديمقراطي، إجابة واضحة تؤكد أن غياب التعددية السياسية المنظمة، لا سيّما في ظل غياب قوانين انتخاب عادلة، وأطر حزبية مستقلة، وإعلام حر تعددي، يجعل أي انتقال سياسي عرضة للارتداد نحو السلطوية.
إن تعيين مجلس شعب في مرحلة انتقالية لا يكون إشكالياً بذاته إلا إذا جُرِّد من أدوات الرقابة، وحُصِّنت السلطة التنفيذية من النقد والمساءلة. حينها، يصبح المجلس أداة تزكية، ومجرد امتداد لمزاج السلطة لا تعبيراً عن الإرادة العامة.