الرئيسة \
تقارير \ عداء مع موسكو وحرب مع تل أبيب.. هل هذا ما يريده خصوم الإدارة الجديدة؟
عداء مع موسكو وحرب مع تل أبيب.. هل هذا ما يريده خصوم الإدارة الجديدة؟
14.09.2025
عبد القادر المنلا
عداء مع موسكو وحرب مع تل أبيب.. هل هذا ما يريده خصوم الإدارة الجديدة؟
عبد القادر المنلا
سوريا تي في
السبت 13/9/2025
بعد الإطاحة بنظام الأسد، أعلن قائد العمليات العسكرية أحمد الشرع، وقبل أن يستلم رئاسة الجمهورية، أنه يتطلع إلى علاقات طبيعية مع كل دول الجوار بما فيها إسرائيل، وأيضًا مع روسيا. ومنذ ذلك الحين تشكّل سؤال مفتوح لدى السوريين تجاوز شكل العلاقة مع إسرائيل، التي يمكن إجراء مفاوضات معها والوصول إلى صيغة قد تحقق السلام أو على الأقل تحييدها عن المشهد السوري. لكنه –السؤال– ركز على طبيعة العلاقة المفترضة مع روسيا وطرق التعامل معها؛ فنقمة السوريين على روسيا كانت أكبر بما لا يقاس من نقمتهم حتى على إسرائيل، وربما كانت رغبتهم بالانتقام من روسيا لا تقل عن رغبتهم بالانتقام من الأسد.
ومع تطور العلاقات بين دمشق وموسكو في الأيام الأخيرة إلى درجة زيارة وفد روسي رفيع المستوى إلى دمشق، ومن ثم الإعلان عن زيارة مرتقبة للرئيس الشرع إلى موسكو، ثارت عاصفة من الاحتجاجات والانتقادات تتناول القيادة السورية الجديدة في موقفها من إعادة فتح قنوات اتصال واسعة وعميقة مع روسيا. ولا سيما أن القيادة الروسية هي ذاتها التي كانت رأس حربة في الدفاع عن نظام الأسد، وأن مشاركتها في قتل السوريين وإبادتهم وتهجيرهم لا يمكن محوها من الذاكرة القريبة أو نسيانها بهذه السهولة. لم يتغير النظام في موسكو، ولم تتغير القيادات التي كانت تشرف على قتل السوريين، فكيف للإدارة السورية الحالية أن تقيم علاقات ودية معها؟ وهل يحق لهذه الإدارة أن تتناسى الجرائم التي ارتكبتها موسكو بحق السوريين أو تعفو عنها بقرار منفرد ودون الرجوع إلى الشعب، أي إلى ضحايا الآلة العسكرية الروسية والماكينة الدبلوماسية الخشنة التي لعبت دورًا كبيرًا في الدفاع عن الأسد في المحافل الدولية الكبرى، وتحديدًا في مجلس الأمن، حيث قامت روسيا أكثر من خمس عشرة مرة باستخدام الفيتو ضد أي قرار أممي يفضي إلى رحيل الأسد؟
واقعيًا لا يمكن لطائر كسير الجناح أن يقارع الدب الروسي. وحينما تستطيع سوريا الضعيفة اليوم أن تكسر صلف موسكو وتجرها للتعامل معها كدولة لا كتابع كما كانت أيام الأسد، فذلك بحد ذاته إنجاز مرحلي قد يتطور إلى حالة تصب في مصلحة السوريين في النهاية
إنها روسيا ذاتها، بطاقمها الدبلوماسي والسياسي والعسكري الذي قاتل لسنوات دفاعًا عن الأسد، تعود اليوم لتضع يدها في يد خصوم حليفها القديم، بل وخصومها القدماء ذاتهم الذين طالما وصفتهم بالإرهابيين، وشنت ضدهم وضد كل معارضي الأسد آلاف الغارات الجوية.
الاعتراضات على العلاقة الجديدة مع موسكو من قبل كثيرين تركزت أيضًا على نقطة إشكالية تتعلق بالحماية التي قدمتها موسكو ولا تزال تقدمها لبشار الأسد وللآلاف من ضباطه الذين فروا إليها، وعدم المبادرة بتسليم الرئيس المخلوع المدان بآلاف المجازر والمطلوب رقم واحد للشعب السوري.
وفي الواقع، فإن كل تلك الاحتجاجات والانتقادات تبدو مبرّرة ومنطقية، فالعلاقة الودية والعميقة التي يتم الترويج لإيجابياتها بين روسيا وسوريا بعد سقوط نظام الأسد تسبب وجعًا حقيقيًا وعميقًا للشعب السوري. لكن إدراك تناقضات الواقع السياسي المختلف كثيرًا عن العواطف من شأنه أن يسهم في تخفيف ذلك الوجع.
غير أن خصوم الرئيس أحمد الشرع يجدون في العلاقة الجديدة مع روسيا مأخذًا كبيرًا على الرئيس، الذي يتربصون له ويستثمرون كل الفرص لتحويل انتقاداتهم إلى ركيزة يمكن الاعتماد عليها للطعن فيه واتهامه بالتفريط بحقوق الشعب السوري لصالح استمراره وبقائه في السلطة.
وبصرف النظر عن رغبة هذا وذاك وطريقة تقييمهما للموقف، فإن السؤال الملح والحيادي في هذا السياق هو: هل على الإدارة الجديدة أن تؤسس لعلاقة عداء مع الروس؟ وهل عليها أن تواجه روسيا وتفرض شروطًا محددة لاستئناف العلاقة معها مثل تسليم الأسد والضباط المتورطين معه للحكومة السورية، وتعويض السوريين ماليًا ومعنويًا، وتقديم الاعتذار عما فعلته موسكو بحق السوريين؟ وما الفائدة التي يمكن تحقيقها في حين لو تعاملت الإدارة السورية بعدائية مع موسكو؟
واقعيًا لا يمكن لطائر كسير الجناح أن يقارع الدب الروسي. وحينما تستطيع سوريا الضعيفة اليوم أن تكسر صلف موسكو وتجرها للتعامل معها كدولة لا كتابع كما كانت أيام الأسد، فذلك بحد ذاته إنجاز مرحلي قد يتطور إلى حالة تصب في مصلحة السوريين في النهاية، مهما كانت تبعاته النفسية والوطنية صعبة. ذلك طبعًا ليس تبريرًا للحكومة أو نوعًا من الطبطبة على كتفها، ولكن إعلان حالة العداء لروسيا سيكون له تبعات لا يمكن لبلد يخرج من تحت الأنقاض أن يحتملها.
وإذا ارتكزنا إلى المعايير الأخلاقية، ستبدو موسكو هي الخاسر الأكبر، فهي من غيّرت مبادئها التي طالما أعلنتها وكأنها موقف أخلاقي لا يمكن أن يتغير، ومع ذلك فهي تتعامل مع أعداء الأمس الضعفاء بنوع من الندية.
إن ضعف سوريا اليوم يمكن أن يكون مبررًا لفتح صفحة علاقات جديدة مع الدول القوية التي ارتكبت جرائم ضد السوريين، في حين يبدو التنازل الروسي للإدارة السورية الجديدة هو التصرف الفاقد للمصداقية والمخالف للمبادئ الروسية التي ادعتها خلال سنوات طويلة، ولا سيما أن روسيا ليست في وضع ضعيف يجبرها على تلك العلاقة.
في الوقت ذاته، تتعرض الإدارة السورية الجديدة لحملة من السخرية على مواقع التواصل الاجتماعي تتناول صمتها عن الانتهاكات الإسرائيلية المتواصلة لسوريا واختراق سيادتها، وتسخر من مفهوم السيادة ذاته. فكيف لمن يطرح نفسه كدولة أن يصمت تمامًا عن عربدة الطيران الإسرائيلي في سماء العاصمة دمشق وغيرها من المدن السورية؟ وكيف لقوات إسرائيل البرية أن تسرح وتمرح على الحدود الجنوبية، وأن تدخل دوريات عسكرية إلى مناطق لا تبعد سوى كيلومترات قليلة عن العاصمة دمشق؟ وكيف لها أن تقصف مواقع في حمص واللاذقية وطرطوس وغيرها من المحافظات السورية من دون أن ترد القيادة السورية إلا من خلال التصريحات والإدانات؟
تحريك أي حجر بشكل خاطئ في رقعة الشطرنج السياسية سيؤدي إلى نتائج كارثية. ولو سُلّمت سوريا اليوم بحالة الضعف والهشاشة التي هي عليها لأي قيادة أخرى، لما كان أمامها أن تفعل شيئًا مخالفًا لما تفعله الإدارة الجديدة.
وفيما يبدو مناصرو الإدارة الجديدة صامتين عن الانتهاكات الإسرائيلية، تتحول الانتقادات التي يوجهها خصومها إلى سخرية لاذعة متهكمة. فهؤلاء يجدون أن ردة فعل سوريا الجديدة تشابه ما كان يفعله الأسد، وأن تصريحاتها لا تصل حتى إلى مستوى التصريحات التي كان الأسد يطلقها إثر كل انتهاك إسرائيلي للأرض السورية. وتلك الانتقادات تتشابه إلى حدود التطابق مع الانتقادات التي كانت توجه للنظام البائد، حتى فيما يتعلق بالسخرية، والهدف من كل ذلك ترويج صورة مفادها أنه لا فرق بين سوريا الأمس وسوريا اليوم، ولا فرق بين الأسد والشرع. وهذه مقولة يحاول كثيرون ترويجها ويبحثون عن أي وقائع يمكن أن تدعم مزاعمهم.
ربما تجدر الإشارة هنا إلى أن هؤلاء المنتقدين الساخرين كانوا سيوجهون ذات الانتقادات وبنفس الطريقة الساخرة في حين لو أعلنت الحكومة الجديدة حالة العداء التام مع روسيا أو الحرب على إسرائيل. ولا بد للمنتقدين من مراعاة الواقع الذي يفرض على سوريا كثيراً من الشروط القاسية. ولو أن أحدًا من هؤلاء المنتقدين كان على رأس هرم السلطة في سوريا في هذا الوقت، وبذات الإمكانات التي تمتلكها سوريا والظروف التي تمر بها، فهل سيكون أمامه خيارات أخرى؟ هل سيسعى إلى علاقات عدائية مع روسيا؟ وهل سيواجه إسرائيل عسكريًا؟
كانت السخرية على نظام الأسد فيما يتعلق بموقفه من الضربات الإسرائيلية مشروعة ومبررة؛ ذلك أن النظام البائد هو من جعل من نفسه مجالًا للسخرية من خلال الصيغة المضحكة التي اعتمدها وكررها لسنوات طويلة: "الاحتفاظ بحق الرد في المكان والزمان المناسبين"، مع معرفته بأن الزمان والمكان لن يأتيا أبدًا. فضلًا عن أن تكرار هذا التصريح كرد فعل وحيد من قبل الأسد على كل ضربة إسرائيلية حوّله إلى جملة كوميدية ترسخت في أذهان السوريين كمرجعية كافية لإثارة السخرية. فالنظام كان يعي جيدًا عجزه عن الرد، ويعي أيضًا وعي السوريين بهذا العجز، ومع ذلك كان يردد الجملة كنموذج ثابت وصيغة جاهزة إثر كل قصف وكل اعتداء.
لقد ابتدأت الضربات الإسرائيلية على سوريا منذ زمن طويل، يمتد إلى ما قبل الثورة السورية بسنوات. وربما كانت قضية "الاحتفاظ بحق الرد" حينها صيغة سياسية دبلوماسية مقبولة، تواسي السوريين –ولو كذبًا– في الإهانات التي يشعرون بها من جراء القصف، وتحمل صيغة تهديد لإسرائيل توحي بأن الجيش السوري يجهز نفسه لخوض مواجهة معها. حيث كان جيش النظام في أحسن حالاته حينها –أو هكذا كان يبدو–، وكان لديه كل الإمكانات كجيش نظامي متكامل الوحدات والفرق على مستوى التشكيلات البرية والجوية والبحرية. فضلًا عن أن نظام الأسد كان جزءًا من الحلف الذي ادعى المقاومة والممانعة، وكان لديه إلى جانب جيشه المتكامل حلفاؤه من حزب الله إلى إيران إلى روسيا، وكان يحاول أن يستمد شرعيته من المتاجرة بهذا كله. ومن هنا فإننا لا يمكن أن نجد مجالًا للمقارنة بين موقف النظام البائد وموقف الإدارة الجديدة فيما يتعلق بالضربات الإسرائيلية.
لا ندافع عن الإدارة الجديدة هنا، ولكن سوريا اليوم مكبلة اليدين، وتلك حقيقة لا تقبل الجدل. وعلى السوريين جميعًا، بمن فيهم معارضو الإدارة الجديدة، أن يسهموا في فك تلك الأغلال عن سوريا أولًا. فثمة خريطة توازنات بالغة الدقة والخطورة، وتحريك أي حجر بشكل خاطئ في رقعة الشطرنج السياسية سيؤدي إلى نتائج كارثية. ولو سُلّمت سوريا اليوم بحالة الضعف والهشاشة التي هي عليها لأي قيادة أخرى، لما كان أمامها أن تفعل شيئًا مخالفًا لما تفعله الإدارة الجديدة.
ليس أمام سوريا اليوم إلا أن تمارس سياسة على قدر الأوراق التي تمتلكها، وأن تبحث عن أوراق قوة جديدة بعد أن تغلق جرحها المفتوح، وتتمكن من إيقاف نزيفها الاقتصادي والسياسي الذي يحتاج معجزة للسيطرة عليه.