الرئيسة \  واحة اللقاء  \  شيء من سوسيولوجيا الضمير الجمعي السوري (الساروت نموذجًا)

شيء من سوسيولوجيا الضمير الجمعي السوري (الساروت نموذجًا)

13.06.2019
طلال المصطفى


جيرون
الاربعاء 12-6-2019

عندما فكرتُ في الكتابة عن الشهيد عبد الباسط الساروت، كشخصية جمعية سورية تتمثل الضمير الجمعي السوري وتمثله في الوقت نفسه، عادت ذاكرتي إلى عام 1994، أيام كنتُ طالب دراسات عليا في قسم علم الاجتماع في جامعة دمشق، وبالتحديد إلى يوم مقتل باسل الأسد الابن الأكبر للدكتاتور حافظ الأسد، في 21 كانون الثاني/ يناير 1994، في حادث سير على طريق مطار دمشق، فبعد أيام من مقتله، دخل الدكتور محمد صفوح الأخرس إلى القاعة التعليمية، وعلامات الحزن واضحة على وجهه، وبدأ الحديثَ عن شخصية باسل الأسد وعن التعبير الشعبي السوري عن حزنه لفقدانه، وكأنه لا يعرف أن ذلك التعبير كان بفعل أجهزة المخابرات السورية، ثم وجّه طلبًا صريحًا لمن يرغب منا -طلاب السنة الأولى ماستر- بكتابة رسالة ماستر عن شخصية باسل الأسد، كشخصية شابة جامعة للسوريين من منظور سوسيولوجي؛ ولكنه تفاجأ حين لم يبدِ أحد منا رغبة في ذلك، واستغرب حين لازم الصمت الجميع، ثم أكد لنا أنه سيشرف شخصيًا، بوصفه مستشارًا للدكتاتور الأسد، على تلك الرسالة، وأن كل شيء جاهز من مراجع وتقنيات، وما هي إلا أشهر قليلة ويحصل الطالب على الماستر، وأيضًا صمت الطلاب كافة، استمر في الحديث رافعًا نبرة صوته عاليًا ومفعّلًا لغة جسده، وبدأ يشير بيديه من قاعة كلية الآداب في المزة إلى الغرب، حيث قصر الدكتاتور، مؤكدًا أن من يقبل بالكتابة عن باسل الأسد سوف يصبح ذا شأن كبير في سورية، وبالتحديد في قصر الدكتاتور، واستمر الصمت يلازمنا، فما كان منه إلا أن خرج غاضبًا من القاعة يشتمنا ويشتم الجامعة التي سمحت لنا بالتسجيل في الدراسات العليا. بينما كانت السعادة واضحة وفاضحة على وجوهنا، حيث اكتشف كل واحد منا شخصية الآخر، ومواقفه التي لم نكن نجرؤ على البوح بها لبعضنا البعض، بسبب الهواجس الأمنية التي زرعها النظام بين الطلبة.
نعم، بعد خمسة وعشرين عامًا، وبعد أن أصبحتُ أستاذًا في قسم علم الاجتماع، تعود بي الذاكرة إلى موضوع الرمز والضمير الجمعي السوري، لأكتب عن الشخصية الجمعية الحقيقية التي عبّرت عن الضمير الجمعي السوري من منظور سوسيولوجي، عن الشهيد عبد الباسط الساروت.
أما مفهوم الضمير الجمعي سوسيولوجيا، فيمكن تحديده بتماثل أفراد المجتمع في بعض المعتقدات والرموز والعواطف العامة المشتركة بين معظم أفراد المجتمع، حيث يكتسب هذا الضمير واقعًا ملموسًا ومستمرًا في ثقافة أفراد المجتمع. من خلال التمثلات الاجتماعية والجماعية لشيء معين، التي تعطي صفة القداسة الدنيوية على الأشياء، وتفرضها كنسق من الطقوس على أفرادها، وهنا يُعدّ الضمير الجمعي الفاعل الوحيد في صياغة التمثلات الجمعية، كما هي ممارسة اجتماعية من طرف المجتمع كناظم لها.
حدد تشارلز كولي “الضمير الجمعي” بالعلاقات الحميمية التي تؤدي إلى ذوبان الفرد في الكل المشترك، مما يجعل ذات الفرد على الأقل، لأسباب عدة، جزءًا من حياة الجماعة، ويتم التعبير عن هذا التوحد بـ (النحن) التي تنطوي على التعاطف والانتماء المتبادل، حيث يعيش الفرد هنا في شعور الكل، ويجد الهدف الأساس لإرادته في هذا الشعور.
استنادًا إلى هذا المفهوم، نجد أمامنا الساروت، صاحب الشخصية الكاريزمية الشابة في مجال كرة القدم، حيث هو حارس نادي الكرامة ومنتخب سورية للشباب، والرياضة ميدان خصب لإظهار الذات والتمتع بالشهرة على المستوى المحلي والعالمي. فحين انطلقت الثورة السورية عام 2011 في حمص، ولم يكن عمره يتجاوز تسعة عشر عامًا، تخلى عن طموحاته الكروية التي كان يمكن أن تجعله شخصية عالمية، في مجال الأندية الرياضية العالمية وكسب الشهرة والمال، وأزاح كل هذه الطموحات الذاتية، بل إنه عدّها طموحات زائفة، أمام التحاقه بأهل حيه الشعبي في البياضة في حمص، وبالمتظاهرين، وقيادة التجمعات والتظاهرات بشعاراته الوطنية الجامعة للسوريين وأغانيه الشعبية السورية التي تعبّر عن وجع السوريين كافة.
أدرك الساروت، بوعيه العفوي الشعبي، منذ الأيام الأولى للثورة، أن عليه الاختيار بين الالتزام بالضمير الجمعي السوري، وبين الاحتفاظ بطموحاته الكروية وإظهار ذاته الشخصية ونجوميته الرياضية التي يحلم بها كل شاب بمقتبل العمر، فكان خياره الانتماء إلى الضمير الجمعي السوري بنوعيه التقليدي الآلي، والعضوي المعاصر، وقد تحدث عالم الاجتماع الفرنسي عن الضمير الجمعي الآلي السائد في المجتمعات التقليدية أي ما قبل مجتمعات الحداثة، ولمسنا ذلك في تمثله للقيم الريفية البدوية للشخصية العربية، في شهامته وشجاعته وعنفوانه في الاحتجاجات والتظاهرات في مدينة حمص، وكذلك الأمر في تدينه الشعبي المتسامح مع الآخر، الرافض للظلم والعدوان، والرافض للمذهبية والطائفية والتطرف، وهذا ما لمسناه في أغانيه الشعبية وعباراته الدينية التي تنم عن إيمان عميق بالحق، وقد عبّر عن ضمير السوري للجيل السابق، عندما غنى لمدينة حماة، وطلب منها السماح لعدم وقوف السوري إلى جانبها، عندما تعرضت للإبادة الوحشية من قبل الأسد الأب عام 1982، وعبّر عن الضمير الجمعي العضوي الذي تحدث عنه دوركايم في المجتمعات المعاصرة، من خلال القانون ومنظمات المجتمع المدني، فكان صوته عاليًا يطالب بالحرية والكرامة والعدالة لسورية، وهي مفاهيم تعبّر عن الضمير الجمعي المعاصر للسوري. وهي تدل في الوقت نفسه على رفضه التمثلات الجمعية التي تتعارض مع ثورة الحرية والكرامة، التمثلات التي عمل على إنتاجها نظام الاستبداد الأسدي طوال خمسين عامًا، بل عمل على تكوين تمثلات اجتماعية سورية جديدة ذات طابع احتجاجي تجاه أوضاع لم تعد مقبولة اجتماعيًا، أي لم تعد تستجيب لأهداف الثورة السورية، ويمكن ملامسة ذلك في مسيرته الثورية النضالية، خلال سنوات الثورة الثمانية الأخيرة ضد الاستبداد الأسدي.
هكذا كان الساروت يعبّر عن الضمير الجمعي السوري، في التظاهرات والغناء من أجل الحرية والكرامة، ملتزمًا بهويته الإسلامية من دون أن يمارس المذهبية والطائفية تجاه الآخرين، وملتزمًا بهويته السورية الجامعة لكل السوريين، فغنى لكل المدن السورية، وأحبّها مثل حبّه مدينته حمص، وعندما اضطرت الثورة إلى حمل السلاح في وجه ميليشيات الأسد، حمل السلاح وبوصلة سلاحه كانت باتجاه المعتدين على الشعب السوري فقط، رافضًا الاقتتال الداخلي، حتى في استشهاده كان شهيد الضمير الجمعي السوري، نال الشهادة في ريف حماة وإدلب وليس في حمص، وشارك السوريون كافة في جنازته، وتكفينا قراءة سريعة لما تضمنته وسائل التواصل الاجتماعي في الحديث عنه، حيث نعاه وبكاه السوريون من المدن والبلدات السورية كافة، السياسي، المثقف، الفنان، الأستاذ والطالب، الإنسان العادي، المتدين، غير المتدين، أصحاب الأيديولوجيات الفكرية والسياسية المتنوعة، الأطفال والشباب، الرجال والنساء… الخ، في سورية وخارجها. وهكذا بعد أن عبّر الشهيد الساروت في سلوكه الثوري اليومي عن الضمير الجمعي السوري، انتقل ليصبح الشخصية الجمعية السورية، كناية عن الضمير الجمعي السوري، وقد تجلت في مقاومته للاستبداد الأسدي وللاحتلال الروسي والإيراني، في عنفوانه وشموخه قبل استشهاده بساعات قليلة، من خلال قسمه على المقاومة والتشبث بالأرض السورية، سورية الحرية والكرامة.
لقد حدد عالم الاجتماع الفرنسي دوركايم أخلاقية الفعل الإنساني بقوله: “إن الشخص لا يسلك سلوكًا أخلاقيًا، إلا حين يستهدف غايات تسمو على الغايات الشخصية، وحين يتفانى من أجل ما هو أرفع منه ومن كل الأفراد، وبالتالي لن نجد كائنًا معنويًا يسمو على الأفراد كافة”، ويمكن ملاحظة ذلك  في سورية الحرية والكرامة، التي استُشهد الساروت من أجلها. إنه الفعل الإنساني الأخلاقي بامتياز.
أخيرًا، كما رفضت مع زملائي أن نكتب عن القتلة والمجرمين في سورية، عندما كنّا طلابًا، نؤكد أننا -كأساتذة- سنطلب من طلابنا في سورية الجديدة أن يكتبوا الأبحاث والأطاريح العلمية عن الثورة السورية ورموزها المعبّرين عن الضمير الجمعي السوري.