الرئيسة \  مشاركات  \  شهيد الثورتين

شهيد الثورتين

18.03.2018
ياسر السيد عيسى


الشيء الوحيد الذي يكسر ظهرك فقدك لعزيزك الذي تعتبر أن وجوده كان مهما لك ولغيرك وفي هذه الأوقات بالذات .. تشعر في داخلك أن ثورتك التي آمنت بها ينقطع جزءا من أوصالها مع انقطاع أنفاسه .. هي التي كانت تجري مع شهيقها منذ خطت لحيته قبل أربعين عاما متواصلة ، بركانا لم تهدأ ثورته الا بمفخخة جبناء يمسكون بجهاز التفجير ويختبئون ينتظرونه خلف الجدران كفئران في شوارع مدينته ادلب ، سبقها تعرضه لعدة محاولات اغتيال على يد أعوان الاستخبارات السورية في شوارع عمان ولكن قدر الله كان يحميه .
أربعين عاما وهو يدفع ثمن ذلك العناد .. وأعوان الأسد يلاحقونه من بلد الى بلد .. لا يملك حتى وثيقة تحمل اسمه وصورته يعرف بها عن نفسه كباقي خلق الله ، ولا أرضا ترحب به .
 دار بقاع الدنيا عله يجد ارضا تؤويه وعياله ، من العراق والاردن واليمن وحتى الهمالايا الى جنوب افريقيا وبجوازات مزورة حين أغلق وطنه عليه بابه ومنعه حتى أن يودع أباه وامه الثرى ، ودائما كان يجد من عباد الله من يحن عليه ويتجاوز عن جوازه المزور ، حتى حطت رحاله في السويد ، وحين منحته جنسيتها وجواز سفرها ، وكبرت عائلته ، ركب الطائرة قبل أول صيحة حرية في وطنه كان ينتظرها منذ ثلاثين عاما ويكتب المقالات يحرض عليها ، لتحط رحاله في أقرب نقطة على حدود وطنه بالريحانية ، شارك بأول مجلس وطني للسوريين بالدوحة ثم اعتزل تلك المجالس حين عرف كيف تتشكل وما المراد منها ، فتح مع ابنه الشاب صفحة الثورة السورية التي أشعلت جمع المظاهرات وقتها وأعطتها أسماء ، واضطر ابنه أن يختفى متسترا خلف اسم فداء السيد حتى لا يحمل الوزر لعائلته ، استقبل الثوار خفية في تركيا ونسق معهم ودعمهم بأفكاره واعلاميا ثم عسكريا حين تعسكرت لحماية المتظاهرين ، وحين شب بعضهم عن الطوق بفصائل مستوردة حولوه لمرتد ولاهثا خلف سراب الاسلام المدني وشعارات المواطنة الزائفة ، لم يجد له في زمن قطعان الجراد التي تغطي سماء مناطق الثورة أحدا يقبل بسماع صوت العقل والحكمة ، كانت حفلة الجنون تكبر وتستعصي على الجميع ، اكتفى وهو يحمل ذلك البركان الداخلي بالمشاركة في المجالس المحلية وبأي نشاط مدني مناطقي ، وبالعمل الخدمي في مجلس المدينة الذي تم حله بقوة السلاح ، وبنشاط اغاثي ودعوي لا يهدأ .
كان حلمه بعد أن خرج منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاما طريدا هاربا من سيارة اعتقاله بين وديان وصحاري بلده ليدخل حدود الاردن بأعجوبة من ملاحقيه ، ثم يجلس مدة طويلة مختبئا ممنوعا من الظهور العلني في شوارع عمان ، كان حلمه الذي خبئه بين أضلعه أن يدخل مدينته بعز عزيز ويكحل عيناه ببيت العائلة الذي تربى فيه ، غصبا عن جيشا وأجهزة مخابرات أخرجته منه منذ كان فتيا وظلت تلاحقه ثلاثون عاما من بلد الى بلد .
تحقق حلمه بعد أن اقتحم مع ثوار ادلب مدينتهم في شهر اذار 2015، ليحرروها وهربت جرذان الأسد منها ، وقف أمام مبنى المحافظة مزهوا برشاشه ، وتخطى عتبة بيته وجلس على درجاته يقول للأسد وأعوانه : هاقد جئت منتصرا أخيرا ، لكنه لم يجد وقتها للأسف من يرحب به في منزله أو يزغرد له ، كان المنزل فارغا موحشا من أهله ، فقد بعثرتهم الأعوام الخمسة والثلاثون بين تراب تدمر أو مقبرة مدينته أو بلاد التشرد .
وللأسف أيضا ظل وحيدا بعد التحرير كمتشرد ، فقد استشرت تنظيمات القاعدة في المناطق المحررة ، وأعادت أجواء ماقبل التحرير ، قهرا وسجونا وارهابا للصوت المخالف ، تحمل كل ذلك القهر الداخلي ولم يقبل بالعودة لعائلته في المغترب ، ارتضى العيش وحيدا صامتا عسى الغمامة السوداء أن ترحل ، مع أن كل من عرفه يكتشف عنفوان الرجولة مترافقا مع السلم الداخلي ، كان يتحداهم بهدوء نفسه وطمأنينة يقينه ، ويشعرون بالذعر من تفجر بركانه ، فاجتمعوا على قتله ، هو الذي يحمل بين أضلاعه تفاصيل وخبايا أرشيف تحولات ثورة ٢٠١١ كما ثورة ١٩٨٠ ،
البارحة حط جسد أبو الفدا والذي أنهكته السنون أخيرا في تراب بلده مسجى بعلم ثورته ، تنتظر فوقه أول ورود الربيع القادم أن تتفتح ، ترك وصيته لأولاده بتبرعه بأملاكه لله ورافقها بوصايا نقتطع منها : أوصي أهلي وذريتي بالاستمرار بالدعاء لي بالرحمة والمغفرة والعفو واطلب من الجميع وكل من اسأت له أن يسامحني وأوصي أهلي وذريتي بتقوى الله تعالى وطاعته والعمل لدعوته دون كلل أو ملل، وأن يكونوا جنودا أوفياء لهذه الدعوة والعمل ضمن صفوفها .
وتكتب اليوم زوجته السيدة فاديا الحريري رفيقة مشوار آلامه على حسابها : أذكر انك ذكرت لي حلما رأيته في الثمانينات قلت لي عنه انك وبعد استشهاد احبابك أولاد عمك ياسر وحكمت وجمال جلست حزينا معاتبا نفسك على عدم اصطفاء الله لك معهم بأن يرزقك الله الشهادة بمرافقتهم .
نمت حزينا فحلمت ان اصحابك يجلسون في مكان عال مليء بالأشجار الوارفة والجنان الخلابة ويوجد سور تحاول التسلق عليه فتمسك بيد أحدهم ثم تسقط وتحاول مرارا دون فائدة الى ان قالو لك لابأس عليك ولا تحزن ستأتينا لاحقا وليس الان ، وها هو اليوم قد جاء واصطفاك الله واكرمك بالشهادة فهنيئا لك ياحبيبي وارجو ان يرزقني الله شهادة تكرمني بجوارك .