الرئيسة \  واحة اللقاء  \  شهود زور في حفلة ذبح الشعوب

شهود زور في حفلة ذبح الشعوب

20.04.2019
حلمي الأسمر


العربي الجديد
الخميس  18/4/2019
(1)
يا أيها الصحافي: عليك أن تختار في هذا الزمان، إما أن تكون قتيلا بنيران عدوة (أو صديقة حتى، في أحد مواقع القتال)، أو همّا وغمّا وكمدا على حرياتٍ مهدورة، وقهر مقيم، أو تتوارى خلف الشمس، متعفّنا في زنزانة عدو، أو ما يشابهها من زنازين الأخوة والأشقاء وأبناء العمومة، أو ألا تكون أبدا، إلا بلا لونٍ ولا رائحة (لا بأس أن تختار رائحةً منتنة!) تعزف نغم الرجوع الأخير في تشييع جنازة الحريات والديمقراطيات المذبوحة، بسكاكين متنوعة الأحجام والألوان والمرجعيات.
يا أيها الصحافي، ماذا تحب أن تكون؟ حملا وديعا أو قطا أليفا ناعم الملمس، يأتيك أكلك المعلب في كل حين، تنام على فراشٍ وثيرٍ من الامتثال، وتدبيج المقالات والقصص الموحى بها، والمعلبة أيضا، أم نمرا شرسا يصطاد فرائسَه في البراري بعرقه وكده واجتهاده، ويتعرّض لمخاطر، أولها بنادق القناصة والصيادين المتربصين، وليس آخرَها فخٌّ تقع فيه فجأة، يوصلك إلى "قفص" ما كي تكون فرجةً في حديقة الحيوانات الأليفة، أو ربما يجري "ترويضك" لاحقا للعمل في "سيرك" ما تمتثل فيه لعصا المدرب الناعمة، طمعا في وجبة دسمة؟
يا أيها الصحافي: هل تحب أن تكون نحلةً ترتشف رحيق الأزهار، تجمعه عبر مئات الأمتار، وتعيد إنتاجه، فيكون شهدا سائغا فيه شفاء للناس، أم أفعى تفحّ في وجوههم سما زعافا معتقا، تحيل حياتهم إلى جحيم مقيم؟
يا أيها الصحافي: هل تحب أن تكون قدّيسا، يقتدي بك الناس ويتمتمون باسمك، مستنجدين، أم شيطانا أخرق، يمتطي قلما تطعن به ظهورهم، ويستغيثون منك لا بك؟
يا أيها الصحافي: في أي الجبهات تقاتل، وعلى أي جنبٍ تحب أن تنام؟ في جبهة رغيف الخبز المغمس بالحبر "الأخضر" والخطوط "الحمراء"، أم تحب أن تتقلب في نعيم "ظل" ظليل، يمشي على "أربع" حوافر أو... عجلات فارهة، غير مجمرك، يقودك هو إلى حيث لا رأي لك إلا في اختيار لون "موديل" القيد وسنة صنعه؟ فيما يختارون لك خط السير والملعب الذي ستـُلاعَب به، ومع من تلعب؟ ومتى تئن أو تضحك أو تعبس، ومتى "تحب" أن تمثل دور "كلب الحراسة"، ومتى تكون "محامي الشيطان"؟ أي مآل تحب أن يكون مآلك: مآل الشهيد أم الأسير، أم مقاتلا على جبهة الحرف، بلا انحراف؟
(2)
يتحكّم بمصير العالم أقل من واحد بالمائة من سكانه، وواحد بالمائة من هذه النسبة الضئيلة هي 
"يا أيها الصحافي: انسحابك إلى كبسولتك أفضل ألف مرة من أن تكون بوقا للدكتاتور" ما تقرّر مصير البقية، إن تعذّر عليك أن تكون من أيٍّ من هذه الفئات، فلن يتعذر عليك أن تكون أنت من يحكم نفسك، ومن يقرّر مصيرك!
قد تحاول أن تغير، بكل ما أوتيت من قوة، من الواقع الذي تعيش فيه، وقد تفشل، فعملية التغيير جهدٌ جماعي، وهي مسيرةٌ معقدة جدا؛ لأنها متعلقةٌ بآخرين، لكنك ستنجح بالتأكيد حينما يتعلق الأمر بتغيير واقعك الشخصي، وبناء "كبسولتك" الخاصة التي تأوي إليها كلما اختنقت من الخارج.
فلسفة "الكبسولة" ببساطة ليست انكفاءً على الذات، بل هي بناء ملاذٍ آمن، أو منطقة محرّرة لك وحدك، لا يدخلها غيرُك، أو من تأذن لهم، وتستأنس بوجودهم، في ظل ظروفٍ سياسيةٍ عربيةٍ بالغة التعقيد، وعصر انهيار شبه كامل لكل شيء، من المشروع أن تفكّر بخلاصٍ ذاتي، وعلى نطاقٍ محدودٍ جدا، تحدّه قدرتك على اتخاذ القرار. يُقال هنا إنك حينما تشارف على الوصول إلى حافّة اليأس مما يحيط بك، تبدأ بالاهتمام بحديقة منزلك. التعبير يختزل الكثير من فلسفة الكبسولة، هو ليس هروبا من المسؤولية ومكابدة الناس، بل انسحاب تكتيكي إلى الداخل، كلما شعرت أنك بحاجة لاستراحة محارب، لتواصل بعد هذه الاستراحة المكابدة والمجاهدة والمناجزة!
يا أيها الصحافي: انسحابك إلى كبسولتك أفضل ألف مرة من أن تكون بوقا للدكتاتور، ومنبرا لتسويغ القتل والقهر والدفاع عن الظالم، وشاهد زور في حفلة ذبح الشعوب، وهدر كرامتها، والتنكيل بأحلامها.
قد لا يتسنّى للجميع بناء كبسولتهم الخاصة بهم فيزيائيا، كأن يجعل له مكانا حقيقيا يختلي به بنفسه، ولكن لن يكون أي أحدٌ عاجزا عن بناء خلوته المعنوية، حتى وسط الضجيج والفوضى، إنها عملية ذكاء ذهني، تسحبك إلى داخلك، كلما شعرت أنك بحاجة لأن تهجر الكل، وتخلو بك.