الرئيسة \  دراسات  \  سورية: المعارضة السياسيّة ورهان المستقبل

سورية: المعارضة السياسيّة ورهان المستقبل

19.11.2016
مركز حرمون للدراسات


مركز حرمون للدراسات المعاصرة
19 - تشرين الأول / أكتوبر- 2016
المحتويات
أولًا: عودة إلى الماضي
ثانيًا: المعارضة في مواجهة الاستبداد
ثالثًا: نُذر الثورة ومآلها
رابعًا: المعارضة الجديدة
خامسًا: المعارضة الداخلية والمعارضة الخارجية
سادسًا: خلاصات
 
على الأرجح، عندما تنتهي الحرب الدائرة في سورية وعليها، وهي سوف تنتهي في جميع الأحوال، وبغضّ النظر عن الحال التي سوف ترسو عليها الأوضاع في البلاد، سُرعان ما ستنتفض الروح التي تجلّت في زمن الثورة الأوّل، وسيعمل السوريون على تنظيم أنفسهم، مستفيدين من التجربة العملية في زمن الثورة، ومن الخبرات التي راكموها عبر سنواتها الطوال والمريرة. هذا يعني، في اختصار، أن “المعارضة الجديدة” التي تبدّت في زمن الثورة، هي رهان السوريين في تطلّعهم نحو المستقبل، بعيدًا من كل تلك المسمّيات التي تندرج تحت عناوين ومفاهيم زائفة من نوع “المعارضة الداخلية” و”المعارضة الخارجية” وما إلى ذلك.
 
أولًا: عودة إلى الماضي
عند البحث في موضوع المعارضة السياسيّة في اللحظة الراهنة من تطوّر الوضع السوريّ، وما آل إليه إثر ثورة السوريين التي اندلعت في شهر آذار/ مارس من عام 2011، والتي ما زلنا نعيش تداعياتها المتلاحقة؛ عند البحث في هذا الموضوع، لا بدّ من استعادة سريعة للفضاء السياسيّ الذي نشطت فيه هذه المعارضة في مواجهة ومناهضة نظام الديكتاتوريّة والاستبداد طوال ما ينوف على أربعة عقود خلت.
فمنذ استيلاء حزب البعث على السلطة في أوائل ستينيّات القرن الماضي، وعلى الأخصّ بعد استتباب الأمور لنظام “الحركة التصحيحيّة” في أواخر عام 1970، كانت المسألة الشاغلة لأركان السلطة الجديدة تتلخّص في فكرة مؤدّاها “المسألة ليست في استلام السلطة، على أهميّتها، المسألة الأهمّ هي في كيفيّة الحفاظ على هذه السلطة”. لقد شكّلت هذه الفكرة المدخل لصوغ برنامج العهد الجديد الذي قام في جوهره على العمل من أجل نزع السياسة وإلغائها من المجتمع وقصرها على حقل السلطة التي التحق بها بعد ذلك من انصاع لها.
لقد مارست هذه السلطة من فنون الأساليب القمعية المعروفة ما مكّنها من تحقيق هدفها، حين أخذ الناس يبتعدون عن السياسة. وتحوّلت السياسة التي نعرفها بكونها فاعليّة مجتمعيّة، في واقع الحال، إلى أمر لا شأن للناس به، أي إلى عزوف عنها من جانب المجتمع منذ أن سيطر عليه مناخ من القمع والقهر والتهديد بالموت. هنا تغدو السياسة مستحيلة بعد أن تحوّلت إلى مسألة حصريّة، لا يحقّ لأيّ كان أن يدلي بدلوه فيها أو أن يتدخّل في مسائلها وقضاياها، ذلك أنّ إلغاء السياسة هو التعبير العمليّ عن إلغاء مجالها الطبيعي المتمثّل بالمجتمعين المدنيّ والسياسيّ.
لقد نجحت أيضًا في إخضاع الناس، عبر سلبهم حرّيّاتهم العامّة والخاصّة، من دون أن يترافق ذلك مع الاهتمام بمشاكلهم وهمومهم، الأمر الذي فرض “استقرارًا” شكليًّا يقوم على مشاعر من الإحباط والظلم والغضب المكبوت الذي يتحيّن لحظة الانفجار.
ولقد كانت القوى الدولية النافذة والمؤثرة تميل دومًا إلى ترسيخ الأوضاع القائمة، والأمر الواقع السائد، في مواجهة أيّ إمكان لتحوّل سياسي-ديمقراطيّ مُحتمل. ويجري تبرير هذه المسألة وتمريرها بذريعة مفادها أنّ مجتمعنا غير ناضج للتحوّل إلى مسار من هذا النوع، يقيم دولته الوطنية الحديثة ومجتمعه الديمقراطي التعدّدي، بسبب تخلّفه الثقافيّ والفكريّ وانقساماته الطائفيّة والقبليّة والعشائريّة، دون الأخذ في الحسبان أنّ هذه الوضعيّة التي يعانيها مجتمعنا، هي نتيجة طبيعيّة لسياسات الاستبداد المفروضة عليه بالقوّة.
 
ثانيًا: المعارضة في مواجهة الاستبداد
طرحت هذه الحالة أسئلة مصيريّة على القوى السياسيّة كافّة، خاصّة تلك التي لم تلتحق بركب السلطة، لتحديد ورسم خياراتها وتوجّهاتها المستقبليّة. قد تكون مفيدة هنا الإشارة إلى ذلك الحوار الذي شهدته الحياة السياسية السورية في النصف الثاني من سبعينيّات القرن الماضي بين كثير من الأحزاب السياسيّة الوطنية، ذات الأصول اليساريّة والقوميّة، وانتهى إلى الاتّفاق على تشكيل “التجمّع الوطنيّ الديمقراطيّ” المعروف، في مواجهة السلطة القائمة. وهو “التجمع” الذي انضوى في إطاره خمسة من الأحزاب الناشطة في البلاد التي أثبتت قدرتها على إعلاء شأن الحوار كسبيل للوصول إلى توافقات بخصوص استراتيجياتها المستقبلية، وخياراتها المرحلية، التي جسّدتها في “الميثاق السياسي” الذي توافقت عليه، وفي “اللائحة الداخليّة” التي تنظم سير أعمال هذا “التجمع” وحياته الداخلية. ولعلّ أهم ما ميّز “ميثاق التجمّع”، هو ذلك الذي تجلّى في إعادة الاعتبار إلى مفهوم “الوطنية” عبر تحديدها بدلالة الداخل، في مواجهة نهج السلطة الديماغوجي الذي قصرها على “مواجهة” الخارج (الذي تتكفّل هذه السلطة به)، استكمالًا لـ/ وتماشيًا مع نزع السياسة من المجتمع، وبالتالي، إعادة الاعتبار للمواطن الفرد كعضو في الدولة الوطنية المرجوة؛ وربّما كان أهمّ ما في لائحته الداخليّة، تلك المادّة التي نصّت على الحقّ في الانتساب إلى “التجمّع” من دون شرط الانتساب إلى أحد أحزابه. هذا يعني أنّ “التجمّع” تأسّس على صيغة تجمع بين كونه تحالفًا لعددٍ من الأحزاب وبين كونه تيّارًا سياسيًا أيضًا. إحياء السياسة، من خلال، وفي سياق، التوجّه إلى المجتمع، كان الهدف المأمول من وراء ذلك كله، الأمر الذي يفتح نافذة في مواجهة نهج السلطة المدمّر للسياسة. ولقد جاء الإعلان عن هذا “التجمّع” – آذار/ مارس 1980- في الوقت الذي كانت تشهد فيه البلاد اضطرابات وتحركات شعبيّة مهمة، وهو ما جعل السلطة تُسارع إلى توجيه ضربة مؤثّرة لهذا الكيان الوليد. ولم تتوقّف بعدها حملات الملاحقة والاعتقالات التي تعرّض لها طوال سنوات الثمانينيّات، الأمر الذي جعل حالة من الانكماش والركود تسيطر عليه وتلازمه حتّى بداية التسعينيّات.
وهنا تجدر الإشارةأيضًا ، بما تسمح به هذه المطالعة، إلى تجربة عمليّة ثانية تعود إلى بداية التسعينيّات، ولها دلالات مهمّة ومباشرة في ما نحن في صدده الآن. فقد توجّهت قيادة “التجمّع”، في ذلك الوقت، لإجراء مراجعة عامّة تتناول أوضاع البلاد وحال الأحزاب، في ضوء المتغيرات الكبرى التي أخذ يشهدها العالم في إثر الانهيارات التي حدثت في بلدان أوربا الشرقية، وفي الاتحاد السوفياتي بعدها. وطُرح “مشروع برنامج سياسي” جديد، يواكب هذه التطورات وينسجم مع الواقع ومتغيراته، و”مشروع لائحة داخلية” استند إلى اللائحة التي جرى التوافق عليها في لحظة التأسيس. لكن، لم يحظَ هذا المشروع، في النهاية، على موافقة الأحزاب المعنيّة التي رأت فيه تهديدًا لوجودها، الأمر الذي عنى، في حالتنا السوريّة، أنّ الحزب أخذ يتحوّل، بحسب هذه الرؤية، إلى أقنوم، ربما لا يعنيه بعد ذلك من أمر السياسة شيء.
إنّ العمل الحثيث والمنهجيّ الذي آل إلى نزع السياسة من المجتمع، إضافة إلى القمع الوحشيّ والبربري الذي طال القوى والأحزاب السياسيّة الوطنيّة والديمقراطيّة المعارِضة، واتّخذ أشكالًا غير معهودة، حوّل هذه الأحزاب إلى ما يشبه الشِلَلَ المنغلقة على ذاتها، والمعزولة عن محيطها المجتمعي، وجعلها من الناحية الموضوعيّة أقرب إلى حالة الاستقالة السياسيّة والثقافيّة التي عنت، في نهاية المطاف، التخلّي عن المجتمع المكوي بنار الاستبداد، لقوى التطرّف والتعصّب غير الديمقراطيّة وغير السلميّة.
فهذه الأحزاب، لم تفعل شيئًا مؤثّرًا في مواجهة الفكر الغيبيّ، ولم تفعل شيئًا أمام تراجع الفكر النقديّ والعقلانيّ، ولم تفعل شيئًا مُهمًّا في مواجهة الثقافة التقليديّة السائدة التي تعمل على توليد ممانعة ضدّ المفهوم الحديث للدولة الوطنيّة المدنيّة والدستوريّة، وضدّ المجتمع المدنيّ الذي يعدّه كثيرون نتاجًا لحضارة الغرب -وهو هنا الغرب المعادي-، ومؤامرة، القصد منها اختراق الثّقافة والحضارة العربيّة الإسلاميّة، خاصة مع انحسار الفعل المفترض في هذا المجال لدى النخب الثقافية والفكرية.
لا بل تشير التجربة العمليّة إلى استعصاء عمل هذه الأحزاب، وإلى عجزها عن الخروج من هذه الحالة التي أخذت تهدّدها بالتلاشي والانقراض. تشير أيضًا إلى أنّ هذا العجز لا يجد تفسيره في تداعيات القمع الذي تعرّضت له فحسب، وإنّما في مسحة الأيديولوجيّات المتبقّية، وفي البنى الموروثة غير الديمقراطيّة المحكومة بها، على الرغم من أنّ كلّ ادّعاءاتها عكس ذلك، ورغم أنف كلّ برامجها ولوائحها الداخليّة المقرّة في مؤتمراتها، والتي تعوّدت على أن تضعها على الرفّ بعد انفضاض هذه المؤتمرات دون أن تطرف لها عين أو يرفّ لها جفن.
وليس من شكّ في أنّ هذه الأحزاب التي لا تتوافر على آليّات عمل مناسبة، تعكس بوساطتها إرادة أعضائها، ستكون عاجزة، بالتالي، عن التعبير عن مصالح مجتمعها الذي لا بدّ سوف يلفظها ويفرز من داخله الحالات والأشكال الملائمة التي يتعيّن عليها أن تعبّر عن هذه المصالح.
بالطبع، هذا لا ينفي أبدًا الكفاحيّة المشهودة لهذه الأحزاب والتضحيات الجسام التي قدّمتها طوال عقود خلت.
ومن نافل القول إننا لا نتحدّث هنا عن تلك الأحزاب “الشيوعية” و”الاشتراكية” التي ارتضت الانضواء تحت لواء السلطة، والاقتصار على العمل في حقلها عبر ما يسمّى بـ “الجبهة الوطنية التقدّمية”، متخلّية في ذلك عن النضال في سبيل مصالح شعبها ومجتمعها، وعن دورها الثوري المُفترض، على الرغم من بقائها على وصف نفسها بـ “المعارِضة”!؟
 
ثالثًا: نُذر الثورة ومآلها
ثورة الشعب السوريّ التي شهدناها في آذار/ مارس من عام 2011، فتحت الأبواب على مصاريعها لعودة السياسة إلى المجتمع، وأسقطت بذلك كلّ نهج السلطة وبرامجها في إلغاء السياسة وتدميرها، هذا النهج الذي ساد طوال أكثر من أربعة عقود من الزمن. ولن يكون في مقدور جهة ما إغلاق هذه الأبواب بعد الآن.
وهي المقابل المنطقيّ والبديل العمليّ لعجز، وفشل، المعارضة السياسيّة بأحزابها كافّة. لقد شلّ هذا الفشل وذاك العجز قدرة هذه الأحزاب، حتّى على اللحاق بركب هذه الثورة، على الرغم من المحاولات التي تبدّت لدى بعضهم في بدايات الثورة، وشلّ قدرتها على لعب دور الممثل السياسيّ لها، وبالتالي، فإنّها تتحمّل مسؤوليّة ليست قليلة في المآل الانحداريّ الذي آلت إليه، بعد أن تكفّلت السلطة بتحطيم رؤوسها وتغييب شبابها وشابّاتها. هذه الأحزاب التي أخذت الأدبيّات السياسيّة تشير إليها وتعرّفها بوصفها “المعارضة التقليديّة” في زمن الثورة، تحاول البحث عن دور لها على هامشها. لكنّها عبثًا تعاند الواقع، وتقف في وجه منطق التاريخ الذي يدفعها نحو التلاشي والاضمحلال. وعلى الأرجح، لن يكون لها دور أو وجود في صوغ مستقبل سورية المأمول الذي سوف تتكفّل به “المعارضة الجديدة” التي تتخلّق في الواقع الجديد.
لقد تبدّت المشكلة الأساسية في بدايات الثورة، عندما رفض النظام الاعتراف بوجود هذه الثورة، لا بل حتى بوجود أزمة وطنية؛ وعندما ذهب إلى تصوير الانتفاضة على أنها من عمل “جماعات سلفية” تتوسّل العنف والإرهاب سبيلًا إلى التغيير، الأمر الذي يحتم مواجهتها بالقوة؛ أما الحوار، فيكون- إذا تمّ- مع أفراد معارضين، يقوم النظام باختيارهم وبتحديد موضوع، وسقف، القضايا التي يمكن تناولها في الحوار معهم.
من جهتها، لم تتمكن المعارضة من فرض نفسها محاورًا ذا صدقية، أو من تجاوز انقساماتها وانتزاع اعتراف داخلي بقدرتها على تمثيل الثوار السوريين، أو، في مرحلة لاحقة، من تقديم نفسها بديلًا عن النظام الذي تسعى لإطاحته، دون أن يكون لديها إستراتيجية لبلوغ ذلك، وبالتالي ظلّت أسيرة الماضي بتقاليده وممارساته وأساليب تفكيره، فهي، في عشيّة الثورة، لم تنجح في إدارة حوار يُمكّنها من الوصول إلى توافق على برنامج مُوحّد تنضوي أطرافها تحت لوائه؛ هذا لأن واقعها المشرذم، وعلاقاتها التناحرية السائدة، ومسألة الشكّ وعدم الثقة بين أطرافها.. الخ، منعتها من الوصول إلى مثل هذا التوافق. كما أنها، في زمن الثورة، وعلى الرغم من ثِقل المسؤولية الملقاة على عاتق أطرافها، بدت عاجزة عن الوصول إلى هذا الهدف الذي كان يمكن، في حال تحقّقه، أن يجعلها أكثر قدرة على تمثيل الثورة، وعلى التأثير في مساراتها، وعلى مواجهة من يسعَون إلى إجهاضها، في السلطة وفي خارجها أيضًا، عبر حرفها عن هذه المسارات، كما حدث لاحقًا.
يدفعنا هذا إلى القول إن “السلطة السورية” كانت مستعدّة للتعامل مع “ثورة محتملة” في سورية، بينما “المعارضة السورية” لم تكن مستعدّة للتعامل مع مثل هذه الاحتمال، الأمر الذي جعلها تتحوّل إلى ما يُمكن تسميتها بـ “المعارضة التقليدية” التي بقيت على هامش الثورة.
 
رابعًا: المعارضة الجديدة
المعارضة الجديدة، هي تلك التي تمثّلت بالآلاف المؤلفة من هؤلاء الشباب والشابّات الذين رفعوا راية الحريّة والكرامة على امتداد رقعة البلاد، وقدّموا تضحيات قلّ مثيلها في سبيل الوصول إلى هدفهم المأمول في دولة وطنيّة حديثة ومجتمع ديمقراطي تعدّدي، دولة تعيد الاعتبار إلى المواطن الفرد بوصفه عضوًا في هذه الدولة التي تضمن له حقوقه ويتمتّع بمزاياها؛ هؤلاء الذين قدّموا إبداعات مشهودة في حراكهم على الأرض، وفي نشاطهم عبر مواقع التواصل الاجتماعيّ، وفي نشاطهم الإعلاميّ عبر استخدام وسائطه الحديثة، وفي عملهم التوثيقيّ المهمّ، وعبر ابتكارهم أشكال التنظيم الملائمة لزمن الثورة بعد أن أدركوا أن أحزاب “المعارضة التقليدية” القائمة لم تعد صالحة لحمل المهمات التي يتطلّبها هذا الزمن، خاصة بعد أن ثبت فشلها في تجاوز أوضاعها القديمة وبناها العاجزة، وعدم قدرتها على تغيير عاداتها وممارساتها الموروثة التي غدت أسيرة لها.
لقد تبدّت تجربتهم، في الزمن القصير الذي أُتيح لهم، عبر ابتكارهم أشكالًا من التنظيم، رأوا أنها الأكثر ملاءمة لزمن الثورة. هذه الأشكال التي جسّدتها تنسيقيّاتهم التي انتشرت على نطاق البلاد، وحملت أسماء عديدة كـ “لجان التنسيق المحلية” و”اتحاد تنسيقيات الثورة” و”الهيئة العامة للثورة السورية”، والتي أشرفت على تنظيم فعاليّات الثورة في وجوهها المتعدّدة، خاصة إبّان فترة التظاهر السلمي والنشاطات المدنية.
لكن، سُرعان ما أدركت السلطة خطورة هذا التطور النوعي الذي أفرزته الثورة تلبية لحاجاتها وضمانًا لاستمراريّتها. هذه السلطة التي كانت تُدرك، بحكم طبيعتها الأمنية، أن مقتلها يكمن، بالضبط، في نشوء وتطور احتجاجات منظمة تعتمد الطابع السلمي والمدني في تحرّكها. فعمدت، كما هو معروف، استنادًا إلى مخططاتها الجاهزة، إلى رفع مستوى العنف في مواجهة الاحتجاجات السلمية والمدنية، وبدأت بتصفية الصف الأول من قيادات الثورة، ومن ثم ألحقت به الصفين الثاني والثالث. وما لبثت، بعد ذلك، أن ركّزت جهودها على حرف الثورة عن أهدافها ومسارها، وعن طبيعتها السلمية والمدنية، وعملت بصورة منهجية ومدروسة على دفعها نحو الطائفية وحمل السلاح؛ وتوجّهت، من ثم، إلى استدعاء الإرهاب الذي تُجيد التعامل مع أشكاله كافة. وقد نجحت في تنفيذ خطّتها إلى حدّ بعيد، ساعدها في ذلك الدعم المحدود الذي تلقّته الثورة السورية، والموقف الدولي المتحفّظ حيالها، والخذلان الفظيع الذي تعرّضت له فيما بعد.
هنا، لا بدّ من الإشارة أيضًا إلى أن بعض التكتّلات والكتل السياسية المعارِضة المحدثة، قد التفتت إلى أهمية هذه “المعارضة الجديدة”. لكن، للأسف، انطلقت التفاتتها من منظور أنانيّ وذاتيّ، عندما حاولت الاستثمار في بعض هذه التنظيمات الشابة، واستخدامها أحيانًا، من أجل تحقيق مكاسب آنيّة وظرفيّة لتكتلاتها فحسب، وليس من أجل دعمها لتكون رائدة في العمل السياسي الثوري، فأسهمت بشكل غير مباشر بما قام به النظام على هذا الصعيد.
عند هذا، تحولت الثورة إلى مسار آخر ليس له علاقة بالمسار الذي انطلقت منه، في أهدافه وأدواته على حدّ سواء. وشيئًا فشيئًا، مع ازدياد التدخّلات الإقليمية والدولية، تحوّلت إلى حرب في سورية وعليها، ليس للسوريين، ولا لسورية، مصلحة فيها من قريب أو من بعيد.
لكن، هل يعني هذا، على فداحته، أن المعارضة التي حملتها الثورة، ووسمناها بـ “المعارضة الجديدة”، قد انتهت في الواقع السوري ولن تقوم لها قائمة بعد الآن؟ لا يبدو الأمر هكذا على الإطلاق! الذي يبدو أن هذه المعارضة التي وُجدت بالفعل في الزمن الأول للثورة، هي موجودة الآن بالقوة، وهي تُعبّر عن نفسها بأشكال متنوعة لا حصر لها في جميع الأماكن التي يوجد فيها السوريون، في داخل البلاد، وفي خارجها على حدّ سواء، لكن من دون أن تتوافر لها الأطر التنظيمية الملائمة بحكم طبيعة الأحوال والأوضاع. ولعلّنا نتذكر هنا كيف أن السوريين، بعد قرار وقف الأعمال القتالية الذي دخل حيّز التنفيذ في أواخر شباط/ فبراير الماضي، والذي لم يستمرإلّا أيّامًا معدودات، عادوا إلى تظاهراتهم التي انبثقت من بين الركام، واستعادوا عبرها الروح التي سادت في زمن الثورة الأول، في مواجهة كل ما هو قائم! صحيح أنها كانت بسيطة، لكنها عميقة الدلالة.
على الأرجح، عندما تنتهي الحرب الدائرة في سورية وعليها، وهي سوف تنتهي في جميع الأحوال، وبغضّ النظر عن الحالة التي سوف ترسو عليها الأوضاع في البلاد، سُرعان ما ستنتفض الروح التي تجلّت في زمن الثورة الأوّل، وسُرعان ما سيعمل السوريون على تنظيم أنفسهم، مستفيدين من التجربة العملية في زمن الثورة، ومن الخبرات التي راكموها عبر سنواتها الطوال والمريرة. هذا يعني، باختصار، أن هذه “المعارضة الجديدة” التي تبدّت في زمن الثورة، هي رهان السوريين في تطلّعهم نحو المستقبل، بعيدًا من جميع تلك المسمّيات التي تندرج تحت عناوين ومفاهيم زائفة من نوع “المعارضة الداخلية” و”المعارضة الخارجية” وما إلى ذلك.
 
خامسًا: المعارضة الداخلية والمعارضة الخارجية
ليس دقيقًا الكلام على “معارضة داخليّة” و”معارضة خارجيّة”، فإذا كان المقصود بالمعارضة الداخليّة “هيئة التنسيق” والتشكيلات الأخرى المتهافتة التي قامت إلى جوارها، وإذا كان المقصود بالمعارضة الخارجيّة “المجلس الوطنيّ السوري” و”الائتلاف الوطنيّ لقوى الثورة والمعارضة” و”لقاء القاهرة” وما شابه ذلك، فهذه لا ينطبق عليها مفهوم “المعارضة”. صحيح أنها تتوافر على عدد من المعارضين السوريين الذين كان لبعضهم باعٌ طويلٌ في معارضة نظام الأسد طوال عقود من الزمن، وقدموا تضحياتٍ جسامًا في هذا السبيل، غير أن هذا غير كافٍ كي تندرج هذه “الكيانات” تحت أو في سياق مفهوم “المعارضة”. فهي كيانات سياسيّة قامت على هامش الثورة، وشُكّلت على عجل، من دون برامج واضحة وتوافقيّة، ومن دون انسجام بين مكوّناتها، ومن دون النظر في الحسبان إلى قدرتها على الاستمرار، وكل منها يدّعي تمثيلها أو يطمح ليكون له شيء من التمثيل. وهي كيانات لعب الخارج الإقليميّ والدوليّ دورًا مشهودًا في تأسيسها وتمويلها وفي توجيه أجنداتها أيضًا. وقد يكون لها أو لبعضها وظيفة إقليميّة أو دوليّة في لحظة اجتراح الحلول. لكن، على الأغلب، لن يكون لهذه “الكيانات” دور أو وجود في المستقبل السوريّ.
 
سادسًا: خلاصات
– على الرغم من كل ما حلّ بسورية وبالسوريين، فإن الثقافة والسياسة فيها لم تغيبا، ولم تتراجعا كثيرًا تحت تأثير ذلك الصراع المدمّر الذي نشهده بين أقصى الاستبداد، بنسخته الإجرامية التي يمثّلها نظام الأسد، وبين التطرّف الإسلامي الذي ما زال ينتشر على الأرض السورية، والذي هو من تداعيات هذا الاستبداد ومن لزوميّاته أيضًا.
– وما زال في سورية تيّار وازن، يُمثّل شريحة واسعة من السوريين الذين ينضوون تحت لواء الوطنية السورية، بعيدًا من السلطة ومن أشكال التطرّف كافة، وينتشرون في الداخل السوري، وفي جهات الدنيا الأربع.
– لهذا، قد يكون من المفيد أن يتوجّه السوريون في هذه الأيّام إلى العمل على تأسيس كيان ثقافيّ- سياسيّ جامع، يُبقي على روح الوطنية السورية حيّة في مواجهة التيّارات الأخرى التي تتصارع على المستقبل السوري. ولا ينبغي لهذا الأمر أن يكون أمنية بعيدة المنال، خاصة لما له من دورٍ أيضًا في تعزيز وضع “المعارضة الجديدة” في المستقبل المأمول. علمًا بأن هذه المسألة كانت من لزوميّات الثورة منذ لحظة انطلاقها، وما زالت.
–  من المفيد بالنسبة إلى السوريين، سواء عملوا على تأسيس مثل هذا الكيان الثقافي-السياسي أم لم يعملوا عليه، الحرص دائمًا على وضع النزعة الوطنية السورية، بصفتها النزعة الجامعة، في مواجهة جميع النزعات الأخرى، الطائفية والمذهبية والإثنية، وتأكيد نزوعها الإنساني والكوني الذي يتناقض على طول الخط مع الخصوصية، ومع النزعة المحلّوية والحزبوية، التي هي من خيارات الاستبداد بأشكاله كافة.