الرئيسة \  واحة اللقاء  \  سوريا والسوريون

سوريا والسوريون

14.02.2019
حسن أوريد



القدس العربي
الاربعاء 13/2/2019
تلقيت سيلا من ردود الفعل من لدن سوريين، مقيمين بالمغرب أغلبهم، بعد مقالي حول التوجه الجديد للدبلوماسية المغربية، يُكبرون فيه هذا التوجه ويستبشرون خيرا بعوده الدفء ما بين الرباط ودمشق، ويتمنون أن يواكب هذا التوجه إجراءات عملية لتسوية أوضاع الكثيرين ممن يقيمون بالمغرب، وتحسين ظروف إيوائهم ممن دفعتهم الأحداث التي تعيشها سوريا إلى الهجرة.
لقد سبق هذا التوجه الذي أعرب عنه المسؤول الأول عن الخارجية المغربية، احتضان مدينة مراكش ميثاق الأمم المتحدة حول الهجرة. ومن الضروري أن تواكب ذلك إجراءات عملية لفائدة السوريين المقيمين بالمغرب.
تشاء المصادفات أن أكتب هذا المقال بقرطبة غير بعيد عن الجامع الكبير، مما يذكّر بهذا التراث الإنساني، الذي يمتزج فيه الشوام والمغاربة، ومما يغريني بمعارضة بيت من قصيدة شوقي الشهيرة عن الأندلس، مع قِصَر باعي في النَّظم:
وقفت على الوضع المحزون أسأله هل في القلوب وفاء وعرفان؟
بين المغاربة، بمعناه العام، والشوام وشائج عميقة، تلك التي يُجلّيها تراث الأندلس، ومرقد الشيخ الأكبر ابن عربي، ومُقام الأمير عبد القادر الجزائري بدمشق، وصنيعه الذي ذهب مذهب الأمثال في حماية المسيحيين، وما قام به شكيب أرسلان الذي انتصب مدافعا عن المغرب والمغاربة إبان الاستعمار، وهيامه بالأندلس، ما وجد روحه ماثلة عند بعض المغاربة، وذكرى الجنود المغاربة ممن استُشهدوا في الجولان، فضلا عن أبنائنا الذين درسوا بسوريا ونهلوا من معينها، وعادوا إلى بلدانهم يحملون عبق بردى وشمم قاسيون.. وما يزال المغاربة يسمون فاس بالفيحاء تيمنا بدمشق، ومنهم من يسمونها بالشهباء أسوة بحلب. لقد حظيت بشرف الدراسة بجامعة محمد الخامس، في الفوج ذاته الذي درس معهم ملك المغرب محمد السادس على يد نخبة من كبار الجامعيين السوريين، منهم مأمون الكزبري، الذي كان رئيسا للجمهورية المؤقتة، ودرّس القانون المدني لأفواج من المغاربة، وأرسى مدرسة قانونية بالمغرب، ومنهم ضابط هو خالد عيد، تغمده الله بواسع المغفرة، كان مرجعا في المدخل لدراسة القانون، وصلاح الدين هارون، وهو من كبار الاقتصاديين والبنكيين ممن وظّف خبرته في البنك العربي ولخدمة المغرب. وهؤلاء غيض من فيض.
يُفهم أن يأخذ بلد تحوطاته أمام سيول الهجرة غير الشرعية، وأمام الأخطار الأمنية ولكن لا يمكن أن يضرب صفحا عن الجوانب الإنسانية والتاريخية
لا يمكن أن نستهين بهذه الآصرة، هي أسمى من تقلبات السياسة. وأذكر بكثير من التأثر لما أن زار المرحوم الملك الحسن الثاني مقبرة نجها في سفوح الجولان خريف 1992، ترحما على الجنود المغاربة، كتب بخط يده هذه الكلمات التي ما تزال عالقة بذهني، أسردها من الذاكرة "في هذا المكان، يضيق صدري ولا ينطلق لساني، طوبى لكم أيها الشهداء، إلى اللقاء أيها الشهداء." وقد أبى خلفه الملك محمد السادس حين زيارته لسوريا في يونيو 2002 إلا أن يقف في المقبرة ذاتها ترحما على أرواح الجنود المغاربة الأشاوس. كان مما يثلج الصدر حين تلك الزيارة هو ذلك الوفاء الذي يحفظه السوريون عن بكرة أبيهم لهذه الآصرة، وتقديرهم لهذه الوشيجة. كل هذا إرث جسيم حري بنا في المغرب أن نبّر به في حق من هو أولى بالرعاية، ألا وهو الشعب السوري. نحن أولى بأن نرفع عنه بعضا من محنته، ويُحسب للمغرب في الظروف العصيبة التي يمر منها الشعب السوري، إقامته لمستشفى ميداني بالزعتري على الحدود الأردنية السورية، زاره الملك محمد السادس في أكتوبر 2012.
إلا أن هذه الجوانب المشرفة، لا تحجب حقائق مؤلمة، لعل أبرزها ما تعرض له جمعٌ من السوريين يناهز الخمسين ظلوا بالعراء ما بين الحدود الجزائرية المغربية، لأسابيع طويلة في أوج الحرارة، عرضة للجوع والعطش ولسع العقارب ولدغ الحيات.. ما يزال ذلك النداء الذي حملته طفلة في لافتة يسائل الضمائر الحية، ليس فقط في المغرب والجزائر، بل في كل مكان، أنقله كما حملته "ساعدونا أحنا عم نموت هون. حرام عليكم. كل الدول ما لقيت لينا حل. ساعدونا كلياتكم. ما حد يلايقنا حل". ولحسن الحظ بادر المغرب، بقرار ملكي، لاعتبارات إنسانية بالسماح للمحتجزين بالدخول للتراب المغربي، ووضع حد لمأساتهم. يُفهم أن يأخذ بلد تحوطاته أمام سيول الهجرة غير الشرعية، وأمام الأخطار الأمنية، بالنظر إلى الإمكانات المتاحة، ولكن لا يمكن أن يضرب صفحا عن الجوانب الإنسانية والتاريخية، أو يتعامل مع القضايا المطروحة بنظرة ميكانيكية أو إدارية جامدة. ليس للمغاربة ولا لسواهم أن يخوضوا في شأن سوريا الداخلي، ولكن من حقهم، بل من الواجب عليهم، احتضان أبنائها الذين قصدوه، ومساعدة الذين لجأوا إليه، في إطار القانون المعمول به، والتحوطات الأمنية اللازمة، مع المرونة الضرورية، بالنظر للتوجه الجديد لدبلوماسية البلد. إن كثيرا من السوريين ممن وُلدوا في المغرب وتشربوا ثقافته وأفعموا حبه، أو ممن اقترنوا به بالمصاهرة، أصبحوا آصرة بين البلدين. وقد يتعرضون لأوضاع قانونية أو إجرائية أو ممارسات إدارية، قد تشين لهذه الآصرة.
حكى لي واحد من المقربين من الأمير مولاي عبد الله شقيق الملك الحسن الثاني، تغمدهما الله بواسع المغفرة، أن زوجه لمياء الصلح، أسبغ عليها الباري رداء الصحة والعافية، لما كانت حاملا بابنها الأمير مولاي إسماعيل ارتحلت إلى بيروت كي تضع وليدها والحرب الأهلية على أشُدّها، وكان أن اتصل المرحوم الحسن الثاني بالرئيس حافظ الأسد، رحمه الله، لضمان أمنها، وانتقلت بعد إذ وضعت حملها من بيروت إلى دمشق، في حماية ورعاية سورية، ومنها في طائرة سورية إلى المغرب. وقد رد الملك الحسن الجميل حين خص قطاره الملكي ليُقل الفنان الكبير صباح فخري من الدار البيضاء إلى فاس للمشاركة في مهرجان الموسيقى الروحية الذي ينعقد بفاس، عرفانا بالفنان ومن خلاله بسوريا.
سوريا ستتعافى وستخرج من محنتها أكثر قوة ومضاء، وستكون حلقة أساسية لشرق أوسط جديد. لذلك حري بالمسؤولين الإداريين المغاربة التعامل مع المواطنين السوريين، ممن يرتبطون بعلاقات ومصالح مع المغرب، تعاملا يراعي الجوانب الإنسانية والأواصر التاريخية، والتوجه الجديد للدبلوماسية المغربية.. ولا يسع المرء إلا أن يبتهج للسوريين المقيمين في المغرب، ممن أسهموا ويسهمون في حركتيه الاقتصادية والثقافية والعلمية، في احترام تام لقوانين البلد ومؤسساته.