الرئيسة \  تقارير  \  سوريا تكسر العزلة ... اختبار الشفافية في أوّل مواجهة مالية

سوريا تكسر العزلة ... اختبار الشفافية في أوّل مواجهة مالية

30.06.2025
رهام علي



سوريا تكسر العزلة ... اختبار الشفافية في أوّل مواجهة مالية
دمشق - رهام علي
المدن
الاحد 29/6/2025
بعد أكثر من أربعة عقود من العزلة المالية، سجلت سوريا خطوة مهمة بإتمام أول تحويل مباشر عبر شبكة "سويفت"، ما يفتح آفاقاً جديدة أمام النظام المصرفي السوري للانخراط في الاقتصاد العالمي. لكن هذه الخطوة تنطوي على تحديات كبيرة، وتتطلب إصلاحات مالية وهيكلية لضمان استمرارها ونجاحها.
نافذة استثمارية تاريخية واعدة
يؤكد مستشار السياسات الاقتصادية المحلية في وزارة الاقتصاد والصناعة الدكتور أسامة القاضي، في حديث لـ"المدن"، أن أول تحويل مصرفي مباشر عبر شبكة "سويفت" ليس مجرد إجراء مالي، بل لحظة مفصلية تعني عودة الحياة إلى النظام الاقتصادي السوري. كما يرى أن هذه الخطوة تعكس انخراط سوريا مجدداً في المنظومة المالية العالمية كشريك فعّال، بعد أكثر من أربعة عقود من العزلة التي بدأت منذ عام 1979، حين تم تصنيف البلاد كدولة مارقة وراعية للإرهاب، ما أدى إلى حرمانها من المشاركة في النظام المصرفي العالمي.
ويضيف القاضي: "لا يمكن لأي مستثمر دولي أن يدخل إلى السوق السورية دون إمكانية التحويل المالي، وهذا ما كان مفقوداً لعقود"، إذ يشكّل اعتراف البنوك المراسلة بالقطاع المصرفي السوري كمؤسسة آمنة وشفافة، خطوة استراتيجية لفتح باب الاستثمارات وكسر العزلة الاقتصادية.
كذلك، يعتبر مستشار السياسات الاقتصادية المحلية أن هذه العودة الاقتصادية المشروطة تستلزم التزاماً صارماً بمعايير الشفافية ومكافحة غسل الأموال، خصوصاً فيما يتعلق بمصادر الأموال الداخلة إلى سوريا، بحيث لا تكون مرتبطة بجهات فاسدة أو شخصيات متهمة بتخريب الاقتصاد في العقود الماضية، ويقول القاضي: "إنها رسالة واضحة للعالم بأن سوريا تسعى لتكون جزءاً موثوقاً من الاقتصاد العالمي، والكرة في ملعب الجهات المصرفية الرسمية لضمان تطبيق المعايير الدولية وتحصين التجربة من أي انتكاسات".
ويختم القاضي بالإشارة إلى البعد الرمزي والتاريخي للخطوة، لافتاً إلى أن "سوريا قادرة على استعادة مكانتها إذا ما تمكّنت من تأسيس صيرفة حقيقية تعتمد أعلى المعايير العالمية، خصوصاً مع تراجع دور القطاع المصرفي اللبناني، الذي كان في الماضي ملاذاً للرساميل السورية".
انفتاح سياسي بواجهة مالية
من جهته، يرى أستاذ الاقتصاد الدولي في كلية العلوم السياسية في جامعة دمشق الدكتور قاسم أبو دست، في تصريح لـ "المدن"، أن عودة سوريا إلى "سويفت" لا يمكن فصلها عن المسار السياسي، فهي تعكس تغيرات داخلية وخارجية، منها تشكيل الحكومة الانتقالية وتحسن العلاقات مع الغرب.
ويشير أبو دست إلى أن الخطوة فتحت الباب أمام أول تحويل مصرفي رسمي من بنك سوري إلى بنك إيطالي، مع توقعات بتوسيع التعاملات لتشمل بنوكاً أميركية مستقبلاً، وهو ما يعكس بداية انفتاح مالي تدريجي.
كذلك، يوضح أستاذ الاقتصاد الدولي أن المؤسسات المالية الدولية، مثل صندوق النقد والبنك الدولي، تشترط للانفتاح التزاماً صارماً بمعايير مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، إلى جانب إصلاحات مصرفية تدريجية، ورفع جزئي للعقوبات، لكنه يحذّر من التحديات القانونية التي تواجهها المصارف الأوروبية المتعاملة مع سوريا، بسبب العقوبات المفروضة على شخصيات وكيانات مرتبطة بالنظام السابق، ما يتطلب تدقيقاً عالياً لتفادي الغرامات.
ووفقاً لأبو دست، فإن الاقتصاد السوري اعتمد خلال سنوات الحرب على قنوات تحويل غير رسمية، بعمولات وصلت إلى 40% أحياناً، ما خلق بيئة مالية مشوّهة، تتطلب معالجتها عبر إنشاء هيئة مستقلة لمراقبة التحويلات، وتقليص الفجوة بين سعر الصرف الرسمي والسوق السوداء.
تحديات تقنية لإعادة بناء الثقة المصرفية
بدوره، يوضح الخبير المصرفي أنس فيومي، في تصريح لـ "المدن"، أن العقوبات الدولية لم تضرّ فقط بالعلاقات المصرفية الخارجية، بل عطّلت أيضاً تحديث البنية التحتية التكنولوجية للمصارف المحلية، إذ اضطرت هذه الأخيرة للاعتماد على وسطاء وشركات خارجية لتشغيل أنظمتها، ما جعلها عرضة لأعطال حادة، خصوصاً خلال فترات الضغط القصوى مثل عام 2013.
ويؤكد فيومي أن مصرف سوريا المركزي حاول الحفاظ على مستويات من الامتثال، لكن ذلك لم يكن كافياً لإقناع السوق أو المستثمرين. ويعتبر أن التحويل المباشر عبر "سويفت" قد يحسن كفاءة العمليات ويقلص التكاليف المرتبطة بالتحويلات عبر الوسطاء، ما قد يعزز ثقة المستثمرين.
لكنه يشدد أيضاً على أن الانفتاح التقني وحده لا يكفي. بل يتطلب، حزمة إصلاحات متكاملة، تشمل تحديث القوانين الضريبية، وتسهيل إجراءات الاستثمار، وتطوير تشريعات خاصة بالمشاريع الكبرى والبنى التحتية.
وينوّه فيومي إلى أن الحديث عن تصنيف البنوك السورية في الأسواق الدولية "لا يزال مبكراً"، لكنّ إمكانات الإصلاح كبيرة رغم التحديات المتراكمة منذ التحول إلى القطاع العام في الستينيات.
عودة مشروطة... وأثمان لا يمكن تجاهلها
في المحصلة، تشكّل عودة سوريا إلى شبكة "سويفت" نافذة مصرفية على النظام المالي العالمي، لكنها تبقى خطوة رمزية ما لم تُترجم بإصلاحات حقيقية تمس البنية الرقابية والتشريعية والحوكمة.
فالثقة لا تُمنح عبر شبكة تحويل إلكترونية، بل تُبنى من خلال مصداقية المؤسسات واستقلاليتها. وسوريا، رغم أهمية هذه الخطوة، لا تزال في بداية الطريق.