الرئيسة \  واحة اللقاء  \  سوريا الاستثناء في الربيع العربي

سوريا الاستثناء في الربيع العربي

18.04.2019
بهاء العوام


العرب اللندنية
الاربعاء 17/4/2019
منذ بداية الثورة السورية التقت مصالح الأطراف الخارجية في الحفاظ على مؤسسات الدولة. ومن بين أسبابها تأتي البدائل المشوهة التي قدمتها المعارضة لنظام بشار الأسد، ولكن أهمها تلك التي تتعلق بحساسية الموقع الاستراتيجي لسوريا وتداعيات الفوضى فيها على المنطقة والجارة إسرائيل التي يسهر على راحتها الأميركيون والأوروبيون والروس وقبلهم نظام الأسد.
حتى عام 2015 كان الإبقاء على الرئيس الأسد خيارا مفضلا في إطار البحث عن البديل المناسب للنظام وليس للشخص، بالإضافة إلى الحفاظ على الأجواء الإيجابية للحوار بين إيران والقوى الغربية حول الاتفاق النووي. ذلك الاتفاق الذي بذل من أجله الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما كل غال ونفيس، وضحى به خلفه دونالد ترامب برمشة عين وأبخس الأثمان.
لم يكن سهلا بالنسبة للولايات المتحدة والأوروبيين أن يهدموا الدولة السورية كما فعلوا في العراق وليبيا. نتائج ما فعلوه في هاتين الدولتين لم يمكن احتواؤها حتى الآن، والرئيس أوباما نأى بنفسه عن الصراع السوري لأسباب تتعلق بتوجهات السياسة الأميركية الخارجية حينها، وخوفا من خلق فوضى تبقي الحليفة إسرائيل تحت تهديد مستمر على حدودها الشمالية.
قبل 2015 أيضا، كان الكثير من قادة المعارضة السورية، السياسية والعسكرية، منشغلين بمناصب الثورة والمتاجرة بالدم السوري. هؤلاء لم يرغبوا يوما بانتهاء الحرب، ولم يحاولوا يوما إجراء مقاربة واقعية لما يجري حولهم. جُل ما كان، ومازال، يشغل بالهم هو حجم أرصدتهم في البنوك وظهورهم الإعلامي ودرجات الفنادق التي ينزلون فيها خلال المفاوضات مع النظام.
يدرك السوريون والعالم أن إزالة النظام السوري على غرار اليمن وليبيا ومصر وتونس لن يقوم بها خصوم دمشق، ولكن التضحية بأشخاص قلائل كنافذة أمام رياح التغيير كما في السودان والجزائر ليست مطلبا مستحيلا
أولوية الحرب على الإرهاب أبقت الأسد على رأس السلطة بين عامي 2015 و2018. كان لا بد من تأجيل رحيله بالنسبة لحلفاء دمشق تجنبا لانهيار مؤسسة الجيش التي يختبئون خلفها في “حربهم على الإرهاب”. كان يجب أن تبقى سوريا دولة ذات رئيس لكي تواصل روسيا وإيران إدخال قواتهما وأسلحتهما إلى البلاد وتشييد القواعد العسكرية وتأسيس الموانئ والمطارات.
على الضفة المقابلة، فإن أولوية محاربة الإرهاب بالنسبة لخصوم دمشق منذ عام 2015، فرضتها بدائل المعارضة الرثة لنظام الأسد، حيث وصلت الأسلحة وأموال الدعم الخارجي إلى فصائل إسلامية متشددة قامت على أنقاض ما كان يسمى بـ”الجيش الحر”، وحكمت مدنا ومناطق وبلدات سورية بمنطق ديني لا يقبل الآخر ولا يعترف بالقوانين المدنية والعلمانية والليبرالية.
لم تصنع عائلة الأسد من سوريا دولة مدنية ولا علمانية بالمعنى الحقيقي، ولكن بدائل المعارضة في مناطقها تجسدت في مظاهر لم يعرفها السوريون من قبل، ففي مناطق النظام لا أحد يُجلد لأنه لم يصلِّ. لا تُمنع النساء من التزين ولا يجبرن على ارتداء المعاطف الطويلة السوداء أو الكحلية. لا يُخيّرُ غير المسلمين بين تغيير عقيدتهم أو دفع الجزية للمسلمين.
مع نهاية 2018 قضي الأمر وانهار تنظيم داعش المتفق على إرهابه دوليا، أما من بقي يحمل السلاح فهم إما أبطال من وجهة نظر خصوم دمشق وإرهابيون بعين الأسد وحلفائه مثل جبهة النصرة، وإما العكس عندما نتحدث عن الميليشيات الإيرانية التي تدعم ما تبقى من الجيش السوري، أو فئة ثالثة هي محط خلاف في “إرهابها” بين الطرفين كالقوات الكردية في شمال سوريا.
اليوم وبعدما وضعت الحرب على الإرهاب أوزارها في سوريا، لم يعد هناك عدو مشترك يحاربه المحتلون الأربعة ويمررون مصالحهم من خلاله. رسمت الولايات المتحدة المحددات العامة لمستقبل البلاد وبات على الجميع حماية مكتسباتهم في ظل هذه المحددات. تغيرت التحالفات وتبدلت الأولويات لدى الجميع، ولكن لم تتحقق أي اختراقات في الأزمة المعقدة.
لن تكون دمشق ولاية إيرانية، هو المحدد الأول في رؤية الإدارة الأميركية الحالية لسوريا. بعدها يأتي منع الاحتكاك بين الأكراد والأتراك، ثم تعميم اللامركزية الإدارية وصون وحدة البلاد. حماية الأقليات عبر دستور دولة مدنية. الاعتراف بمصالح الروس مقابل أمن إسرائيل. شطب أي دور لعائلة الأسد في مستقبل البلاد. وأخيرا تأتي إعادة الإعمار وعودة اللاجئين.
ربما يراهن الإيرانيون والأتراك على تغير المحددات الأميركية مع نهاية ولاية الرئيس دونالد ترامب. تحترف طهران وأنقرة شراء الوقت والرهان على الزمن، ولكن اتفاقا ما بين واشنطن وموسكو برعاية تل أبيب، قد يضع المحددات حيز التنفيذ بسرعة، وبين ليلة وضحاها ربما يجد العالم نفسه أمام مجلس عسكري مؤقت يقود سوريا، كما حدث في السودان أو الجزائر.
في الحقيقة لم يعد تأجيل إزاحة عائلة الأسد عن السلطة ينطوي على أي مبرر، سواء من جانب خصوم دمشق أو حلفائها. بعبارة أخرى يمكن القول إن الروس والإيرانيين بدأوا اللعب بـ”الملك” على رقعة الأزمة السورية. حان وقت التفاوض على رأس النظام ولم يعد في جعبة الأسد الكثير ليقدمه سواء للمحتلين الأربعة، أو حتى لإسرائيل التي لطالما كانت له الكفيل وصمام الأمان.
كان لا بد من تأجيل رحيل الأسد بالنسبة لحلفاء دمشق تجنبا لانهيار مؤسسة الجيش التي يختبئون خلفها في "حربهم على الإرهاب"
لم يكن استدعاء الأسد إلى طهران وجلوسه مع علي خامنئي أمام العلم الإيراني وحده، إلا إيذانا بفتح المزاد على رأس الأسد، فالمهام التي كُلف بها تفوق طاقته وتضعه في مواجهة الروس والأميركيين والإسرائيليين والأتراك على حد السواء. أما لعبة الرقص على رؤوس الثعابين التي يمارسها اليوم، فله في مؤسسها الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح موعظة في نهاياتها الوخيمة.
حلفاء الأسد بدأوا بتسمينه للتضحية به. ربما يفضل الإيرانيون أن يقدموه قربانَ مصالحة مع الأميركيين، ولكن لا يبدو أن الرئيس ترامب مهتم حاليا بالمصالحة مع إيران أو راغب بتذوق لحم الأسد. أما بالنسبة للروس فمن دعاهم للقدوم إلى سوريا بعتادهم وعديدهم انتهت صلاحيته ولن يبقى مضيفهم إلى الأبد، خاصة بعدما أسكن الإيرانيين إلى جوارهم على ساحل المتوسط.
بلغة البديهيات، لن تكون هناك مصالحة وطنية حقيقية في سوريا طالما بقيت عائلة الأسد على رأس السلطة. ليس منطقيا أن يكون الأسد بين مرشحي أي انتخابات رئاسية مقبلة. ليس إنسانيا أن يعود اللاجئون ليهتف أولادهم مجددا باسم الأسد في المدارس. ليس عدلا أن تُحكم البلاد بالأسد مرة ثانية، ويعود أعضاء مجلس الشعب لتقبيل نعله كلما تفوه بترهات أمامهم.
يدرك السوريون والعالم أن إزالة النظام السوري على غرار اليمن وليبيا ومصر وتونس لن يقوم بها خصوم دمشق، ولكن التضحية بأشخاص قلائل كنافذة أمام رياح التغيير كما في السودان والجزائر ليست مطلبا مستحيلا. لم تعد أمام الأطراف الخارجية المتورطة في هذه الأزمة خيارات كثيرة، وبقاء سوريا استثناء في الربيع العربي سيتحول إلى لعنة تلاحق المجتمع الدولي للأبد.