الرئيسة \  واحة اللقاء  \  روسيا والبحث عن بعض ماء الوجه

روسيا والبحث عن بعض ماء الوجه

11.10.2018
يحيى العريضي


العربي الجديد
الاربعاء 10/10/2018
ما يربط الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بإسرائيل أعمق بكثير من دفاعه عن بشار الأسد ونظامه؛ ولكن حدَثَ، وتورّط الرجل بعد تعقيداتٍ مع الغرب، أساسها قضايا القرم وجورجيا وتوسع حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وكلها طموحات مرتبطة بعشق الأبدية في السلطة. ظن الرجل أن القفز إلى الحلبة السورية يمكن أن يسعفه ببعض أوراق المساومة لتحقيق الأحلام؛ إلا أن حسابات الحقل الروسية لم تتطابق مع حسابات البيدر الغربية. تدرك موسكو، من أيام الاتحاد السوفييتي، أن قلب الأسدية مع الغرب ويدها في جيب الروس؛ والعلاقة مهمة للطرفين، إلا أنهما ربما يجدان حرجاً في علانيتها؛ فمَن قدّم نفسه رائداً في "المقاومة والممانعة" في وجه إسرائيل وأميركا يصعُب عليه أن يتنازل علانيّة عن ذلك؛ خصوصا أن المستهدفين من مقاومة وممانعة كهاتين، الصهيونية في إسرائيل والشيطان الأكبر الأميركي، اللذين بدورهما صَعُبَ عليهما التقدّم إلى إنقاذ نظام الأسد علانيّة. وهذه العلاقة، المحرمة علناً الحقيقية واقعاً، هي التي دفعت بوتين إلى التدخل لإنقاذ نظام الأسد؛ وجذرها أمران: الأول، معرفته بالرغبة الأميركية – الإسرائيلية بإنقاذ نظام الأسد؛ وخشيتهما العلانية في ذلك؛ والثاني أزمته الداخلية والقرمية والجورجية... أما ذرائعه المعلنة، فكانت التدخلات الغربية في العراق وليبيا من جانب، ومحاربة الإرهاب (الكليشي الجاهزة) من جانب آخر؛ والتي كان التحالف الدولي قد سبقه إليها.
كان ذلك كله، حتى منتصف العام الحالي، حين بدأت تتغير قواعد الاشتباك السياسي
"تدرك موسكو، من أيام الاتحاد السوفييتي، أن قلب الأسدية مع الغرب ويدها في جيب الروس" والدبلوماسي، وحتى العسكري؛ فالطائرات الإسرائيلية تكاد لا تغادر الأجواء السورية؛ وها هي تتسبب أخيرا بـ "عمى قلب" يسقط طائرة لبوتين. قائدة التحالف (أميركا) من جانبها، تطوي صفحة سياسة الرئيس السابق، باراك أوباما، تجاه سورية؛ وتقول لروسيا علناً، حتى بعد لقاءات فيتنام وهلسنكي، وعلناً: ها نحن هنا، في "سورية المفيدة" فعلاً، حيث النفط والماء والقمح والقطن؛ ولن نخرج من سورية التي كُلِفت بحل قضيتها، حتى تكون هناك عملية سياسية جادّة وتغيير سياسي. وإلى ضفة هذا الموقف، سحبت معها مجموعة ما عُرفت بـ "5 الاربعاء 10/10/2018 2"؛ والحل السياسي لا يمكن أن يكون مفصّلاً على مقاس روسيا. تريد إسرائيل خروج إيران من سورية، بدخولها البازار السوري، لكن مشكلتها أن قرار إخراج إيران ليس بيد الأسد؛ فإيران تخرجه مائة مرة قبل أن يجرؤ على تلبية الطلب الإسرائيلي.
بناءً على المعطيات التاريخية أعلاه، تريد روسيا أن تنجز حلاً قريباً على قياس الأسد، فربما لا بأس بالنسبة لأميركا وإسرائيل؛ ولكن يتضح أن ذلك غير ممكن، من دون أن يكون لروسيا وإيران الحصة الأكبر من ذلك التفصيل؛ وهذا مؤكد غير مسموح، وما قد يفسّر ثقل الحضور الأميركي أخيرا، حضور يدعي التطهُر مستفيداً من القلق الأممي والإسرائيلي والتركي والشعبي السوري. وأدى ذلك كله إلى وضع روسيا في زاويةٍ لا تُحسَد عليها؛ فها هي ترتبك بـ "لجنة دستورية" هي ذاتها قاتلت من أجل إنشائها. وها هي الولايات المتحدة توعز للمبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، بأن أمامه حدا زمنيا فاصلا، لينجز عمله في هذه اللجنة؛ وكأننا بأميركا تستلم زمام الأمور، وتحدّد إيقاع العملية بذاتها. وتراها أيضاً تستفيد من الموقف الأوروبي بربط عودة اللاجئين السوريين، وتمويل إعادة الإعمار؛ وتقرّر أن ذلك كله مرتبط بالعملية السياسية، وإيجاد تغيير سياسي حقيقي في سورية، بناءً على القرارات الدولية.
وهكذا تجد روسيا نفسها فجأة أمام حجمها الطبيعي الذي أطلقه عليها الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما؛ فهي أمام أحد خيارين، أحلاهما مرٌّ، أن تتابع بالخط الجديد (المهين والمحَجٍم 
"تريد روسيا أن تنجز حلاً
قريباً
على قياس الأسد" لها) كما رسمته أميركا، أو أن تندفع باتجاه مزيد من الأعمال العسكرية لإيجاد حل سياسي بأدوات عسكرية. الأول مهين، والثاني أكثر خطورة؛ فهي في الثاني ستخاطر بمواجهةٍ محتملةٍ مع تركيا التي قرّرت أن تقف إلى جانب السوريين في الشمال السوري.
بناء على كل ما تقدّم، يبدو أن بوتين كان أسيراً لذلك الحب، والضغط الذي ولدته علاقة مع أكثر من مليون يهودي روسي، أتوا إلى إسرائيل في الثمانينيات وبداية التسعينيات؛ وربما يتمنّى أن يكون قد أبقى على تلك العلاقة، من دون القيام بتلك المهمة غير المقدّسة في سورية، والتي لم تخدمه، ولم تخدم أصدقاءه الحقيقيين. وغير معروف إن كان الأمر سوء تصرّف، أم أنها السياسة التي اعتَبَرت "التكتكة" سياسة استراتيجية، أم أنه "عمى قلب وغطرسة"، أم هي حالة استخدام الأداة من الكبار ورميها في الوقت المناسب. كما كان الحظ سيحالف بوتين، لو أنه اختار ضفة الشعب السوري الذي نَشَد الحرية والخلاص من منظومة استبداد إجرامية، وانتصر لها. عندها ما كانت لا انتهازية إسرائيل، ولا جبروت أميركا وغطرستها أن تفعل به ما فعلت، ولكان جذب العالم إليه وإلى روسيا؛ لكن تغيير المهام والطباع ربما أصعب مما نتصوّر. عملية سياسية حقيقية في سورية قد تكون الوسيلة الوحيدة للحفاظ على بعض ماء الوجه.