الرئيسة \  تقارير  \  رسائل واشنطن – دمشق .. مرايا القلق وأبواب الانفتاح الموارب

رسائل واشنطن – دمشق .. مرايا القلق وأبواب الانفتاح الموارب

01.05.2025
عبدالله مكسور



رسائل واشنطن – دمشق .. مرايا القلق وأبواب الانفتاح الموارب
عبد الله مكسور
سوريا تي في
الاربعاء 30/4/2025
منذ الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2024، بدأ الزمن السوري يقطف لحظة جديدة، لحظة تبدو كما لو أنها خرجت من مجازٍ سياسي طويل النفس، تخلّى عن العناوين القصوى، وارتدى لغة الباب الموارب. في لحظة رمادية بين الحروب المعلّقة، والتسويات الممكنة وغير المكتملة، انفتحت فجوة صغيرة بين دمشق وواشنطن، تمرّ منها الرسائل، لا الصواريخ. بين الكلمات والوعود والاختبارات، تتشكل خريطة نادرة من التماس الدبلوماسي، تلتقطها العيون المتربصة، وتحللها مراكز القرار بميزان المصالح، لا المبادئ على قاعدة الثوابت. مزيج من الترقب الحذر، والانفتاح المحسوب على إيقاع النوايا، من الرسائل المتبادلة التي تحمل في طيّاتها لغة المصالح المتشابكة، وتاريخًا من العُقد والاشتباك، ووعودًا لا تزال حبلى بالاحتمالات.
خطاب سيادي بلغة دبلوماسية
يمرر الرئيس أحمد الشرع للبيت الأبيض عبر الإعلام الأميركي رسائله، محاولاً الظهور كمن ينفض - عن كرسي الرئاسة وعن تاريخه الشخصي- غبار الصراع القديم، دون أن يتخلى عن لهجة سيادية تبدو – في ترجماتها العربية- حادة. تحدث باللغة التي تتطابق مع الأصوات في مرحلة ما بعد الحروب الكبرى، لا منتصر واضح، ولا هزيمة تامة، بل رغبة في ترسيم مرحلة جديدة، دون انبطاح ولا عناد.
كان خطاب الشرع ينطوي على تحذير ناعم، فُسّر في واشنطن والعواصم الإقليمية على مقياس المخاطر بأنه نداءٌ لإعادة التقييم، لا لإعادة التطبيع
أراد الشرع أن يقول شيئًا بسيطًا ومعقدًا في آن: سوريا لا تطرق أبواب أحد، لكنها لا تغلقها أيضاً. السيادة ليست بندًا تفاوضيًا. الوجود الأجنبي على الأرض السورية لا يمكن تقنينه إلا تحت مظلة الدولة. وفوضى السلاح، إذا تُركت دون ضوابط، ستحرق أكثر من حدود الإقليم. في رسالته، كان خطاب الشرع ينطوي على تحذير ناعم، فُسّر في واشنطن والعواصم الإقليمية على مقياس المخاطر بأنه نداءٌ لإعادة التقييم، لا لإعادة التطبيع. اللافت هنا أن صفقة سورية وُضِعت على الطاولة، صفقة غير معلنة بشكل واضح لكنها تحمل معنى "إن فُعِل كذا سنفعل كذا"، وهذا انتقال باللهجة السورية الرسمية السابقة إلى لغة المفاتيح الممكنة.
جملة مصالح متبادلة تقوم على مراجعة أميركية للعقوبات مقابل انفتاح سوري "مشروط" على الحوار والتعاون. ليست الصفقة جديدة، لكن الجديد هو أن من يعرضها الآن هو دمشق نفسها، لا حلفاؤها. الرسالة كان مفادها أن سوريا، التي قاومت التفكك والانهيار، تريد أن تعيد إنتاج نفسها بوصفها لاعباً لا عبئاً. وهي مستعدة لتبديل مفردات العلاقة، دون أن تبدّل جوهر موقعها في المعادلة.
وفي تفاصيل هذه العناوين، ما يستحق التوقف عنده: تحدث الشرع عن إمكانية منح الجنسية لبعض المقاتلين الأجانب المقيمين منذ سنوات في سوريا. قد يُقرأ ذلك كجزء من إعادة هندسة الخريطة الاجتماعية السورية ما بعد الحرب، أو محاولة ناعمة لاستيعاب مخاطرهم. لكنه في العمق رسالة من النوع الثقيل: السلطة الجديدة تريد إعادة إنتاج مواطنيها، بل وتخترعهم أحيانًا، وفق مقتضيات المرحلة.
حامل الرسائل المحفوفة بالمخاطر
لم تكن صور السيناتور الأميركي كوري ميلز في الشام القديمة وحدها اللافتة في زيارته الأولى من نوعها لعضو كونغرس إلى دمشق منذ أكثر من عقد، فقد حملت من الإشارات بقدر ما حملت من الأسئلة. لم يكن ميلز رسول مصالحة بالمعنى الكلاسيكي والتقليدي، لكنه كان "عصفور استكشاف" أميركيًا في حقل ألغام سوري تتربَّص الدخول إليه وفيه الإدارة الأميركية، جاء حاملاً ما يكفي من التصريحات المتزنة، ليُبقي النافذة مفتوحة على الإشارات بين البيت الأبيض وقصر الشعب.
في تصريحاته بعد لقائه بالشرع، بدا ميلز كمن يسوّق لنموذج من "البراغماتية الواقعية": لا تنازل أميركياً عن الملفات الكبرى، لكن لا مانع من الحوار بشأنها. وشدد على أن واشنطن ترى في دمشق لاعباً محتملاً في الاستقرار الإقليمي، لا مصدر اضطراب دائم. وفي هذا دعوة لحضور سوريا على كرسي في أي طاولة تناقش مستقبل الشرق الأوسط. تحدث عن ملفات أمنية مثل تهريب السلاح، والتوازن في العلاقة مع إيران، وحتى الحوار أو تحسين العلاقات مع إسرائيل، وهي عناوين محرّمة لعقود في القاموس السوري، لكنها الآن مطروحة، ولو بحدود اللغة الممكنة. وهذه الإشارات كلها تقع في محاولة جسر الهوة التاريخية بين واشنطن ودمشق.
بين المطالب والشروط
رغم أن واشنطن لم تتخلّ عن خطابها بشأن الانتقال السياسي، إلا أن لهجتها باتت أكثر واقعية. لم تعد تتحدث عن "عدم التعامل مع النظام"، بل عن "إصلاح الشراكة"، وعن ضمانات حقيقية لعدم استخدام سوريا كمنصة تهديد إقليمي. وبينما كان ملف الانتقال السياسي أحد أعمدة التصعيد في العقد الماضي، أصبح اليوم بندًا للنقاش، لا للابتزاز. وفي هذا الطرح إقرار ضمني أميركي بأن إقصاء دمشق لم يؤد إلى نتائج، وأن تطبيعاً "مشروطاً" قد يكون البوابة الممكنة لكسر الجمود بعد التغيير.
بينما كان ملف الانتقال السياسي أحد أعمدة التصعيد في العقد الماضي، أصبح اليوم بندًا للنقاش، لا للابتزاز
وفي هذا السياق، تبدو تصريحات الشرع للإعلام الأميركي وكأنه يلمّح إلى قبول مبدأ التدرّج، لا الانقلاب، في أي عملية سياسية داخلية. وهو بذلك يتقاطع مع لغة واشنطن الجديدة، التي ترى أن أي تطبيع مشروط يجب أن تقابله خطوات إصلاحية من دمشق، لكنها لا تشترطها دفعة واحدة.
زيارة ميلز شكّلت ذروة هذا التحول في العلاقة التي مرَّت بمنعرجات أمنية غير معلنة، آخرها كان الكشف عن مساعدة الولايات المتحدة لسوريا بإحباط محاولة الهجوم على مقام السيدة زينب في العاصمة خلال الأشهر القليلة الماضية، لكن هذه الحالة لم تكن البداية وفق التسريبات، ففي الكواليس، جرت نقاشات حول المشهد الأمني ككل، لم تكن وحدها الولايات المتحدة بل شاركت فيها كراسي أخرى جلست عليها تركيا وإسرائيل وغيرهم.
مراجعة سياسية.. ماذا تغيّر؟
على إيقاع الجولة الخارجية الأخيرة للرئيس السوري أحمد الشرع، والتي بدأت في أنطاليا ثم أبو ظبي فالدوحة، وقبلها السعودية والأردن ومصر، لوَّحت الولايات المتحدة بأنها بدأت بمراجعة عقوباتها على دمشق، تزامناً مع تقارير استخبارية تشير إلى تحول جزئي في بنية السلطة السورية، وظهور توجهات أكثر انفتاحًا في السياسة الخارجية. ترافق ذلك كله مع تحسن محدود في العلاقة بين دمشق وبعض العواصم العربية. وفي ظل هذه الأرضية تطرح الرئاسة السورية نقاطها الأساسية في المعادلة والتي تقوم على:
ضمانات بعدم استخدام سوريا كقاعدة أو منطلق لأي هجمات أو أذى يصيب دول المنطقة بما في ذلك إسرائيل.
لا تنازل عن السيادة وأي وجود عسكري على الأراضي السورية يجب أن يتم بالاتفاق والتنسيق مع الدولة، بما في ذلك الوجود الروسي والتركي.
لا تفريط بحلفاء الحرب، فالحكومة تنظر بمنح الجنسية للمقاتلين الأجانب نظراً لمشاركتهم في الثورة وزواجهم من مواطنات سوريات، وإقامتهم الطويلة في البلاد. وفي هذا حديث ورسائل مكشوفة عن تحويل التهديد وفق التعريف الأميركي إلى اندماج.
أي فوضى على الأرض السورية لن تبقى حبيسة الحدود، بل ستمتد كحريق إلى ما وراء الجغرافيا، لتمس الاستقرار العالمي.
بقراءة متأنية للنقاط السابقة نجد أن دمشق تحاول أن تتكلم بلغة السيادة مع فتحها لباب المراجعة، فالحديث هنا ليس صدامياً، بل كمن يعيد ترتيب أوراق اللعبة مع وضع كل شيء على الطاولة. وفي هذا ما يمكن وصفه بالنضج السياسي الذي يؤشر إلى إمكانات تطور ملموسة في العلاقة مع العالم إذا ما وُجِدت الإرادة السياسية المشتركة.
بين الشك والفرصة: أي مستقبل للعلاقة؟
تاريخ العلاقة بين دمشق وواشنطن يُشبه شبكة معقدة من الحبال المشدودة، كلما فُكَّت عقدة ظهرت أخرى. منذ العام 2003، حين أصبحت سوريا هدفًا محتملًا في "الحرب على الإرهاب"، مروراً بالسنوات العجاف التي أكلت البلاد، كان التواصل بين الطرفين محكومًا بمنطق الضغط لا الحوار. بالقلق لا البحث عن المخارج الأمنية. وما يجري اليوم ليس إعادة تطبيع بقدر ما هو اختبار نوايا. كل طرف يُلوّح بإغراءات، ويحتفظ بالشكوك.
واشنطن تخشى أن يكون حديث الرئاسة السورية مراوغة ذكية لا أكثر. ودمشق تخشى أن يكون انفتاح البيت الأبيض فخًا جديدًا. ومع ذلك، فإن ما يميّز اللحظة الحالية هو الاعتراف المتبادل، ولو ضمنيًا، بأن استمرار القطيعة يُنتج فراغات تملؤها قوى أخرى
واشنطن تخشى أن يكون حديث الرئاسة السورية مراوغة ذكية لا أكثر. ودمشق تخشى أن يكون انفتاح البيت الأبيض فخًا جديدًا. ومع ذلك، فإن ما يميّز اللحظة الحالية هو الاعتراف المتبادل، ولو ضمنيًا، بأن استمرار القطيعة يُنتج فراغات تملؤها قوى أخرى، من طهران إلى موسكو، مرورًا بالتنظيمات غير المنضبطة الخارجة عن السيطرة. ربما يكون هذا المشهد بوادر فصل جديد، ولكن الرسائل المتبادلة بين دمشق وواشنطن لا تزال في طور التجريب. الذي لم يرتق بعد إلى مستوى خريطة طريق سياسية واضحة، قد تبدو مختلفة هذه المرة، أقل صخبًا، وأكثر نضجًا. فالخطاب السيادي الذي قدّمه الشرع، مع الاستعداد لمناقشة قضايا حساسة، يقابله خطاب أميركي بدأ يعترف بحدود القوة وحدود العزل، فهل تُكتب هذه الرسائل كفصل جديد في كتاب العلاقات السورية الأميركية؟ أم تُطوى كما طُويت مئات الرسائل من قبل؟ الجواب مؤجل، لكنه مرهون بقدرة الطرفين على ترويض التوحش السياسي، واستبداله ببراغماتية تمنع ما تبقى من الحروب التي لا تنتهي.