الرئيسة \  تقارير  \  دور القانون في التحول السياسي السوري.. مقاربة في الفقه الانتقالي

دور القانون في التحول السياسي السوري.. مقاربة في الفقه الانتقالي

22.09.2025
فضل عبدالغني



دور القانون في التحول السياسي السوري.. مقاربة في الفقه الانتقالي
فضل عبد الغني
سوريا تي في
الاحد 21/9/2025
تستدعي مسألة دور القانون في التحول السياسي السوري بعد سقوط نظام الأسد دراسةً من منظور الفقه الانتقالي، وهو نموذجٌ مخصوص يبرز في فترات التغيير السياسي الجذري. كما تُبيِّن البروفيسورة روتي تيتل في عملها الرائد حول القانون والتحول السياسي، فإن القانون في سياقات التحول يعمل وفق منطق مختلف يتجاوز التصنيفات التقليدية السائدة في الأوقات العادية. إنه يتحرك ضمن معايير جوهرها “ازدواجية مفارِقة”: الحفاظ على النظام وتمكين التحول في آنٍ واحد، تثبيت الاستمرارية وتسهيل القطيعة، معالجة مظالم الماضي وبناء أطر معيارية تستشرف المستقبل. ويُنتج هذا التوتر المتأصل نموذجًا قانونيًا انتقاليًا يتعيَّن على سوريا تبنّيه في مسارها ما بعد الأسد.
يمثل السياق السوري حالةً بالغة التعقيد لهذا الفقه؛ إذ يتعيّن على الاستجابة القانونية معالجة عقودٍ من الاضطهاد المُمنهج الذي اتخذ غطاءً قانونيًا، ومن ثمَّ يجب للإطار القانوني الانتقالي أن ينهض بالمهمة الدقيقة المتمثلة في معالجة تلك الانتهاكات بأدوات القانون، مع إرساء أسس جديدة للحكم الشرعي في الوقت نفسه. ولا تنحصر هذه العملية التحويلية في استبدال نظام قانوني بآخر فحسب، بل تشمل إعادة صياغة جذرية لعلاقة القانون بالسلطة السياسية والعدالة الاجتماعية. وعليه، ستكون الاستجابات القانونية الانتقالية الناشئة فاعلًا مُكوِّنًا للتحول السياسي في سوريا لا مجرد انعكاسٍ له، بوصفها الآلية التي يدرك المجتمع من خلالها التغيير التحرري ويُجسِّده.
الأسس النظرية للفقه الانتقالي
يرتكز الإطار النظري للفقه الانتقالي على إعادة تعريف جوهر القانون ووظيفته خلال فترات التحول السياسي، وعلى خلاف المناهج الواقعية والمثالية التي تُهيمن على النظرية القانونية التقليدية، يعمل هذا الفقه وفق نموذجٍ بنائيٍّ يُدرِك خصوصية الظواهر القانونية في الظروف السياسية الاستثنائية. ويكشف هذا المنظور كيف أن الأشكال القانونية في زمن التحول لا تنهض بوظيفة تنظيمية وحسب، بل تؤدي كذلك وظيفة تحويلية، إذ تتوسط بين أنساق معيارية متنافسة وتُيسِّر الانتقال من نظام سياسي إلى آخر. يُظهِر التوتر بين الواقعي والمثالي محدودية المناهج التقليدية في فهم الظواهر الانتقالية. فالمنظور الواقعي، بتركيزه على ديناميات القوة والقيود السياسية، يُختزل الاستجابات القانونية إلى مجرد انعكاسٍ لتوازناتٍ قائمة، وإن اعترف بالطابع السياسي للمرحلة، غير أنه يعجز عن تفسير تعدد أشكال الظواهر القانونية الانتقالية أو تبيان الصلة بين خياراتٍ قانونية معينة وآفاق التحول الليبرالي. وفي المقابل، يتجاهل المنظور المثالي، بافتراضاته العالمية حول العدالة، الخصائص المميزة للعدالة في الأوضاع الاستثنائية، ولا يُجسِّد أيٌّ من الإطارين بدقة كيفية عمل القانون حين يُستدعى إلى المواءمة بين نظرةٍ إلى الماضي ومطالبةٍ بالمستقبل.
تجسد معضلة سيادة القانون هذا الإشكال النظري، ففي الديمقراطيات الراسخة، وفي الأوقات العادية، تعني سيادة القانون الالتزام بسوابق قانونية مستقرة وقواعد مُعلنة مُسبقًا تُقيِّد السلطة التنفيذية. غير أن الثورات تُفضي عادةً إلى اضطرابٍ وفوضى قانونية، ما يطرح سؤالًا صعبًا: كيف يمكن لمرحلة التحول أن تظل متوافقة مع مقتضيات سيادة القانون بينما تُعاد صياغة أسس النظام القانوني ذاته بصورة جذرية؟ لا يقتصر هذا التوتر على البعد الزمني، بل ينفذ إلى صلب شرعية الدولة الليبرالية.
يقدِّم الفقه الانتقالي حلًّا عبر تصورٍ للقانون ذي طبيعةٍ جزئية وسياقية يقع “بين” الأنظمة القانونية، فسيادة القانون الانتقالية لا تُطرَح بوصفها مثالًا مُجرّدًا، بل باعتبارها منظومةً قيميةً معيارية تستجيب لقمعٍ سياسيٍّ سابق. ويكشف هذا التصور عن طابع القانون العَرَضي في زمن التحول؛ فبدلًا من الارتكاز إلى مبادئ ثابتة، يتوسط القانون الانتقالي التحولات في معاني العدالة ومعاييرها. ومن ثمَّ تغدو سيادة القانون مستقرةً وغير مستقرةٍ في آنٍ واحد: تتخلى عن معايير الماضي غير الليبرالية، وتطالب بمعايير مستقبلية ليبرالية.
ويوضح هذا الإطار كيف تُسهم الأشكال القانونية الانتقالية في بناء مفاهيم جديدة للشرعية من خلال علاقتها بالإرث السابق، فالعدالة الناشئة هنا سياقية بطبيعتها: يتحدد ما يُعدُّ عادلًا بقدر كبير على ضوء الظلم السابق ويتأثر به. وبذلك تُعيد الاستجابة للحكم القمعي تعريف الالتزام بسيادة القانون، بينما يوجِّه إرث الانتهاكات فهمَ ما يُعتبر تحويليًّا. ويتحدى هذا الفهمُ السياقيُّ النظرياتَ الليبرالية التي تفترض استقلال القانون عن السياسة، كما يُنازعُ النظرياتِ النقديةَ التي تدمج القانون كليةً في القوى السياسية.
العدالة الجنائية والدستورية كآليات تحويليّة
يُجسِّد تطبيق آليات العدالة الجنائية في المرحلة الانتقالية السورية الإمكانات التحويلية للقانون لمعالجة مظالم الماضي وبناء أسس معيارية جديدة في آنٍ واحد. وتتشارك هذه الآليات- بما في ذلك الممارسات القضائية والعقوبات الجنائية والعمليات الدستورية- سماتٍ مميّزة عن نظيراتها في الأوضاع العادية، مع قدرتها في الوقت ذاته على توليد التحول السياسي.
يتحمّل القضاء الانتقالي عبئًا في ترسيخ مفاهيم جديدة لسيادة القانون. وتنهض المحاكم الدستورية في فترات ما بعد الاستبداد بهذا الدور التحويلي وهي تتأرجح بين الاستمرارية القانونية والانقطاع عنها، فهي تُرسِي تصوّرًا لسيادة القانون كنظامٍ مُضادٍّ لتغوّل السياسة، مؤكدّةً رؤى معيارية مبدئية مستقلة عن القوى الانتقالية. ويؤدي هذا الاستقلال القضائي وظيفةً إشاريةً حاسمة تكشف الانفصال عن الأنظمة السابقة التي اتُّخِذ فيها القانون أداةً للإرادة السياسية. ويقدّم المجال القضائي التحويلي الناشئ نمطًا مُقيدًا من “التسييس” القضائي: أحكامٌ تُقرّ بأبعاد القانون السياسية مع الحفاظ على مطالب المجتمع من خلال صنع قرارٍ قائمٍ على المبادئ.
تستدعي مسألة دور القانون في التحول السياسي السوري بعد سقوط نظام الأسد دراسةً من منظور الفقه الانتقالي، وهو نموذجٌ مخصوص يبرز في فترات التغيير السياسي الجذري. كما تُبيِّن البروفيسورة روتي تيتل في عملها الرائد حول القانون والتحول السياسي، فإن القانون في سياقات التحول يعمل وفق منطق مختلف يتجاوز التصنيفات التقليدية السائدة في الأوقات العادية. إنه يتحرك ضمن معايير جوهرها “ازدواجية مفارِقة”: الحفاظ على النظام وتمكين التحول في آنٍ واحد، تثبيت الاستمرارية وتسهيل القطيعة، معالجة مظالم الماضي وبناء أطر معيارية تستشرف المستقبل. ويُنتج هذا التوتر المتأصل نموذجًا قانونيًا انتقاليًا يتعيَّن على سوريا تبنّيه في مسارها ما بعد الأسد.
تتجاوز العدالة الجنائية في المراحل الانتقالية مقصدَ العقاب الاعتيادي إلى خدمة تحولٍ نظاميٍّ أوسع، ويُظهِر التطوّر النموذجي لفقه الجرائم ضد الإنسانية أن العقوبات الجنائية في هذه المراحل لا تعالج المخالفات الفردية فحسب، بل تستهدف أيضًا الاضطهاد المنهجي للدولة
وتتجاوز العدالة الجنائية في المراحل الانتقالية مقصدَ العقاب الاعتيادي إلى خدمة تحولٍ نظاميٍّ أوسع، ويُظهِر التطوّر النموذجي لفقه الجرائم ضد الإنسانية أن العقوبات الجنائية في هذه المراحل لا تعالج المخالفات الفردية فحسب، بل تستهدف أيضًا الاضطهاد المنهجي للدولة. وتضع هذه الملاحقات القضائية حدودًا معياريةً فاصلةً بين الحكم الشرعي وغير الشرعي، مُعبّرةً عن التزامٍ مجتمعي بالمساواة أمام القانون بوصفها قيمةً تأسيسيةً للأنظمة الديمقراطية. وتعمل العقوبة الجنائية الانتقالية بمنطقٍ مميّز: بإدانة شرور الدولة السابقة التي ارتُكبت تحت ستار القانون، تُحدِث المحاكماتُ تراجعًا يؤذن بشرعيةٍ جديدة، وتبني فهمًا جمعيًّا للتغيير السياسي يرسُم حدود السلوك المقبول للدولة.
وينبغي للدستور الانتقالي السوري أن يجسِّد زمنيةً خاصة كما يحدّدها الإطار النظري: أن يكون ينظر بأثر رجعي في إدانة إرث نظام الأسد وتقييده، وفي الوقت نفسه محافظًا على منظورٍ يتيح التداول الديمقراطي حول البنية السياسية المستقبلية. وتتجلّى هذه الثنائية الزمنية في أحكامٍ دستوريةٍ قد تشمل بنودًا تُحدِّد أمد المؤسسات الانتقالية، وإجراءاتٍ متدرِّجة لتوسيع المشاركة السياسية، وآليّاتٍ لتحويل السلطة تدريجيًّا من البُنى الانتقالية إلى المؤسسات الديمقراطية الدائمة. وعلى هذا، لا يكون الدستور وثيقةً تأسيسيةً بمعناها التقليدي، بل جسرًا بين الأنظمة السياسية يؤمِّن التحوّل ويصون قدرًا من الاستمرارية القانونية يمنع انهيار المؤسسات.
ويكشف تنوّع الأشكال القانونية الانتقالية عن وظيفتها الجوهرية في إعادة بناء المعايير، فمع تقارب الآليات القانونية المختلفة نحو أهدافٍ تحويليّةٍ مشتركة تتلاشى الحدود التصنيفية التقليدية: تنهض الدساتير بوظائف شبه قضائية، وتُنشِئ العقوبات الجنائية حقوقًا وواجباتٍ تُنسب عادةً إلى القانون المدني، وتُسخَّر المحاكماتُ لأغراضٍ تفسيريةٍ تتجاوز نطاق الجزاء. ويعكس هذا التفكك التصنيفي تكيفَ القانون مع مقتضيات التحول السياسي الاستثنائية، حيث تثبت الأشكال القانونية التقليدية عجزها عن مجابهة تعقيدات التغيير النظامي.
ومن خلال آليات التقصي والإدانة، يكشف القانون منظومةَ القيم المرتبطة بالحكم السابق وينزع عنها الشرعية، مُمهِّدًا الطريق لتحوّلٍ معياري، وتُسهم الإجراءات القانونية في توسيع الوعي العام بالمخالفات السابقة، فيما تقدِّم الآراء القضائية والمحاكمات والإجراءات الدستورية مبرراتٍ عامةً رسمية للتغيير السياسي. وبهذه الكيفية، تدعم هذه الآليات التحوّلات المعرفية والتفسيرية اللازمة لفهم التحوّل، وتعيد بناء مصالح الدولة والمجتمع عبر أشكالٍ قانونيةٍ مألوفة تُمكّن المجتمعات من تجاوز فترات القمع نحو فضاءاتٍ أوسع من الحرية.
خاتمة: القانون كفاعل بنائي في التحول السياسي السوري
يبرز دور القانون في التحول السياسي في سوريا بعد الأسد بوصفه دورًا بنائيًا في جوهره، لا مجرد وظيفةٍ تنظيميةٍ أو استجابةٍ ظرفية، فالقانون لا يقتصر على تأطير التغيير السياسي أو مواكبته، بل يشيِّد بصورةٍ فاعلة الأطر المفهومية والمعيارية التي عبرها يُفهَم التحول ويُستمدّ منه المشروعية. وينهض الفقه الانتقالي- الذي ينبغي أن يوجِّه مسار التحول السوري- بصيغٍ خاصة تتجاوز التصنيفات القانونية التقليدية، منشئًا أشكالًا هجينة تتوسّط بين الماضي والمستقبل، والاستمرارية والقطيعة، والوطني والدولي، والسياسي والقانوني.
تكشف الطبيعة البنائية للفقه الانتقالي أن الاستجابات القانونية في أزمنة الاضطراب السياسي لا تعكس عمليات التحول فحسب، بل تسهم في تشكيلها، فالقانون لا يعمل مستقلًّا تمامًا عن السياسة ولا يهبط إلى مرتبة الظاهرة الثانوية؛ وإنما يحتل مجالًا تحويليًا مميزًا تُسهِم فيه الأشكال القانونية، من خلال أدواتها ومعاييرها، في بناء التغيير السياسي وترسيخه. ويشكّل هذا الإدراك تحدّيًا للنظريات الليبرالية التي تفترض تعالي القانون عن السياسة، وللمقاربات النقدية التي تذيبه في بنيات القوة، إذ يقدّم فهمًا أدق لإمكانات القانون في تمكين التحول المجتمعي.
وتعكس السمات المميِّزة للظواهر القانونية الانتقالية- سياقيتها، وزمنيتها المزدوجة المتطلعة إلى الخلف والمستقبل معًا، وقابليتها لإعادة تشكيل الحدود التصنيفية- قدرتها على التكيّف مع تعقيدات التغيير النظامي. وهذه الآليات لا تنحرف اعتباطًا عن مبادئ سيادة القانون، بل تعيد بناءها استجابةً لإرث الظلم؛ ومن خلال الكشف عن الانتهاكات، ونزع الشرعية عن منظومات القمع، وإعادة تأسيس المعايير، يمكّن القانون الانتقالي المجتمعات من إدراك التغيير التحرري وتحقيقه.
وفي المحصلة، يقدّم الفقه الانتقالي وصفًا تحليليًا لكيفية اشتغال القانون في سياقات التحول السياسي، وإطارًا معياريًا لتقويم الاستجابات القانونية لهذا التحول. كما يتيح إدراك هذا الحقل الفقهي المميَّز رؤى نقدية نافعة للمجتمعات التي تمر بمرحلة انتقالية كما هو الحال في سوريا، ولتفكيرٍ أوسع في علاقة القانون بالتغيّر السياسي والاجتماعي. وتتمثل الأهمية الدائمة للفقه الانتقالي في إبراز قدرات القانون التحويلية، قدرته لا على صون النظام القائم فحسب، بل أيضًا على تشييد التحول السياسي، بوصفه وسيطًا للانتقال من القمع إلى الحرية عبر بناء أسسٍ معيارية جديدة.