حين يصبح معارضون سوريون "فلولاً"
05.07.2025
مها حسن
حين يصبح معارضون سوريون "فلولاً"
مها حسن
العربي الجديد
الخميس 3/7/2025
يُتداوَل مصطلح "تحالف الأقليات" بين السوريين بكثرة، الأمر الذي يجعل سورية تبدو قسمَين متحاربَين: قسم الأغلبية، وهو الذي يحوز السلطة في دمشق، و"تحالف أقلوي" يحارب هذه السلطة، بوصفها تعبّر عن تطلعاتٍ لا تمثّلهم. يشكّل خطاب التصنيف هذا، المفرّق بين السوريين، خطراً على الوحدة الوطنية، وعلى مفهوم الانتماء، لأنه من الأساس لا ينطلق من المصلحة السورية، بل يلبّي أجندة حافظ الأسد في الحكم، ثمّ تبنّاه الإعلام الغربي، العاجز أحياناً عن إدراك تعقيدات الثقافة السورية المتنوّعة والمتعدّدة.
نشأ مصطلح "تحالف الأقليات" في سياق محاولات تفسير طبيعة النظام السوري الذي أسّسه حافظ الأسد، المنتمي إلى الطائفة العلوية، الذي اعتمد على شبكةٍ معقّدة من الولاءات الطائفية والإثنية والدينية. بدأ الباحثون الغربيون (مثل نيكولاس فان دام في كتابه "الصراع على السلطة في سورية" وباتريك سيل في "الأسد... الصراع على الشرق الأوسط") منذ الثمانينيّات باستخدام هذا المصطلح لتبسيط المشهد السياسي السوري، لكنّه تحوّل وصفةً جاهزةً لدى المحلّلين والإعلام الدولي، يصوّر النظام حاكماً باسم طائفته، متحالفاً مع أقلّياتٍ أخرى خوفاً من "الأكثرية السُّنّية"، ويقدّم الثورة السورية أنها خرجت من الأحياء السُّنّية لإسقاطه. هذا التحليل المريح، الذي استجاب لحاجة الإعلام لفهم سريع، أخفى تعقيدات التنوع داخل "الأقليات" نفسها، وأغفل وجود أفراد منها رفضوا هذه السردية الطائفية، وشاركوا في الثورة السورية، فدفعوا ثمناً مضاعفاً، وتحوّلوا في النهاية "فلولاً" في خطابات الثورة والنظام على حدّ سواء.
منذ الأيام الأولى للثورة السورية عام 2011، برزت أصوات من الأقليات العلوية والدرزية والمسيحية وغيرها، رفضت منطق الطائفية، وانضمّت إلى الحراك الثوري. كتب هؤلاء المقالات، شاركوا في المظاهرات، وواجهوا القمع في أقبية السجون جنباً إلى جنب مع ثوار حمص ودرعا وحلب وريف دمشق. خرجوا متخلّين عن أيّ امتيازات منحها النظام لبعضهم، ليصرخوا مع الجميع: "حرية". لكن هؤلاء المعارضين دُفعِّوا أثماناً مختلفة، من النظام لأنهم معارضون، فواجهوا الاعتقال والتعذيب والقتل، ومن محيطهم الاجتماعي، فاتهموا بـ"الخيانة الطائفية". ففي الأحياء العلوية صاروا "خونةً"، وفي القرى الدرزية "عملاء"، وفي الأوساط المسيحية "أصواتاً مشبوهةً" تهدّد الطائفة بالخطر. وواجهوا الشكّ والنبذ داخل الحراك الثوري نفسه، لأنهم من "الأقليات"، ما جعلهم عرضةً للتهميش حتى من حلفائهم.
تحوّل المعارضون المنتمون إلى "الأقليات" من شركاء في الحلم الثوري إلى أشلاء مرحلة منسيّة
عزّز النظام هذا النبذ، موجّهاً خطاباً شيطانياً: أنتم تفتحون أبواب المجازر لطوائفكم، وهو يقدّم نفسه بوصفه "حامي الأقليات". هكذا، وجد معارضو "الأقليات" أنفسهم محاصرين بين مطرقة النظام وسندان الطائفية. وإذا استعرضنا أسماء المعارضين من "الأقليات" الذين وقفوا ضد نظام الأسد الأب، ودفعوا حياتهم أو حرّياتهم بسبب مواقفهم، الذين وقفوا ضدّ الأسد الابن، سنحصل على لائحة طويلة من أسماء مثقّفين وفنّانين وسياسيين، مات بعضهم في المنافي، وبعضهم في السجون، وبعضهم اُغتيل أو غيّيب، وبعضهم اليوم (الباقون منهم) ينوسون بين التمسّك بمواقفهم مدافعين عن سورية للجميع، سورية جمهوريةً ديمقراطيةً، يجدون أنفسهم فيها مواطنين مساوين لباقي المكوّنات السورية، والشعور بالمرارة والخذلان لتعرّض طوائفهم لشيطنة جمعية، تسحب من تحت السوريين، من "الأقليات" الطائفية أو العرقية أو الدينية، شرعية الانتماء السوري، وتجبرهم على الانسحاب من المشهد العام.
اليوم، بعد أكثر من عقد من الثورة، تغيّرت ملامح الحراك السوري، انقسمت الثورة، انهارت جبهاتها، وتشتّت أبطالها بين السجون والمنافي، لكن مصير معارضي الأقلّيات كان الأقسى. هؤلاء، الذين شكّلوا البرهان الأكبر على طابع الثورة الوطني العابر للطوائف، وجدوا أنفسهم مهمّشين، متروكين، أو حتى مستهدفين. صاروا في بعض الخطابات المُعارِضة يُوصفون "فلولاً"، في سخرية مريرة تستعيد خطاب النظام نفسه، الذي وصف معارضيه بـ"فلول المندسّين". واجه بعض هؤلاء المعارضين الاغتيال، والتخوين العلني، والتشهير الطائفي، حتى في منافيهم. لم يعد هناك مكانٌ لهم لا في معسكر "الطائفة"، ولا في معسكر "الثورة"، ولا حتى في المنصّات الحقوقية التي بدأت تنتقي ضحاياها حسب قابلية قضاياهم للاستهلاك الدولي. هكذا، تحوّل هؤلاء من شركاء في الحلم الثوري إلى أشلاء مرحلة منسيّة.
كان وجود معارضي "الأقليات" الدليل الأكبر على أن الثورة السورية لم تكن صراعاً طائفياً محضاً، بل حلماً وطنياً عابراً للهُويَّات. كانوا الكسر في قاعدة التحليلات الطائفية، والنشاز الجميل في سردية الحرب الأهلية. لكنّهم بدلاً من أن يُكرَّموا رموزاً للوحدة الوطنية، دُفنوا تحت طبقات جديدة من الإقصاء. لا يمكن أن ننسى فدوى سليمان، التي ماتت حالمةً بانتصار الثورة، أو مشعل تمّو أو عبد العزيز الخيّر الذي لا يزال السوريون يجهلون مصيره، أو حتى الأب باولو، الذي لم يكن سورياً، لكنّه انخرط في صفوف الثورة وكأنّه سوري. كيف يمكن اختزال السوريين في طوائف وتحالفات "وراثية"، هذا شكل من أشكال العنف التحليلي، يعيد إنتاج آليات الإلغاء نفسها التي قاومتها الثورة. إن طمس قصص هؤلاء المعارضين هو طمس جزء أساس من ذاكرة الثورة، وهو خيانة لمفهوم المواطنة، وحقّ الجميع في بناء بلدهم الذي دافعوا عن تحريره من نظام ديكتاتوري قاتل ومجرم.