الرئيسة \  مشاركات  \  حول فرعون ومنهجه في الطغيان: (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ) !!

حول فرعون ومنهجه في الطغيان: (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ) !!

23.04.2024
د. محمد رفعت زنجير




حول فرعون ومنهجه في الطغيان: (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ) !!
د. محمد رفعت زنجير
dr.mrifat@hotmail.com
1
تلخص هذه الآية الكريمة مرضاً نفسانياً مزمناً؛ لا يمكن شفاؤه بالعقاقير، ففي لحظة نشوة واستعلاء أعلنها فرعون على الملأ أنه رب البلاد والعباد! والمرجع والملاذ! منه تبتدئ الأمور، وإليه تصير!
أليس المدعي تبجحاً بأن لديه ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحته؟
ألا يعبده الناس من دون الله؟!
ألا يستطيع أن يبدد خصومه ويهلكهم ذبحا وتقتيلاً ونفياً وتشريداً!
واختار لفظ الرب لأن كثيراً من المشركين كانوا يعتقدون بوحدة الرب الخالق وتعدد الآلهة المعبودة التي تقربهم إليه أو تشفع لهم عنده بزعمهم، وكان قد ادعى الألوهية أولاً (ما علمت لكم من إله غيري) ثم تطاولت عيناه لمقام الربوبية!
واختار لفظ الأعلى دون غيره لما يحمله العلو من معاني القهر والغلبة والسيطرة والسمو والجبروت دون غيره من الألفاظ.
وهذه العبارة هي من إيجاز القصر في البلاغة، وهي تحمل في طياتها وإيحاءاتها كل معاني الإثم والفجور والطغيان الذي عرفته البشرية عبر تاريخها كله، ولم يؤثر عن أحد قالها قبل فرعون، حتى نمروذ الذي حاج إبراهيم في ربه ادعى أنه يحيي ويميت، ولم يؤثر عنه مثل قول فرعون بهذه البجاحة والصراحة (أنا ربكــــــم الأعلى)!!
2
في المملكة الفرعونية حيث الظلام والصمت المطبق يبدو شعاع من النور يلمع من يد موسى فإذا هي (بيضاء للناظرين). إنه المخلص المنقذ، ومن رحم الظلام ينبثق الفجر!
3
نسي فرعون الظالم المسكين المغفل أنه بشر، وأنه ضعيف، وأن علمه قاصر محدود، وأنه يجهل ذاته كما يقول الغزالي:
أنت أكل الخبز لا تعرفـــــــــه
كيف يجري فيك أم كيف تبول؟!
فكيف بمن يجهل نفسه أن يدعي الربوبية؟!
إنها لحظة غرور، تنسي لحظة الموت وساعة الحساب!
4
إن فرعون بشر يئن ويصرخ يستغيث، وحين يزول عنه تاجه، وتندثر هيئة الملك والكبرياء، ويغرق جنوده أمام عينيه، وتذهب تلك الحاشية الفاسدة التي تزين له الضلال وتقبح له الحقيقة، حين يدركه الغرق يتحول إنساناً عادياً طبيعياً، فيؤمن بعد فوات الأوان، فلا يقبل إيمانه، ويقال له: (آلآن وقد عصيت)!!!
5
حمى السلطة، ولهيب الشهوات، وقوة البدن، وشياطين الإنس والجن، كلها أسباب قد تدفع المرء إلى أن يقول (أنا ربكم الأعلى). وهنالك من لا يقولها بلسان مقاله، ولكن يقولها بلسان حاله، وهذا ربما يكون أسوأ حالاً من الأول، ناسياً أو متناسياً أنه ميت بعد حين، وأن الرب لا يموت (فتوكل على الحي الذي لا يموت)!.
6
فرعون كان طفلاً صغيراً، كما باقي الأطفال، ولكن التربية الخاطئة، والحاشية الفاجرة، والثقافة الأحادية الرعناء، جعلته لا يرى إلا نفسه، فحيث نظر في الكون من أعلاه إلى أدناه وجد صورته مرسومة حيث نظر!
والآثار تقول: أنه كان له صنم يعبده، ثم تركه وادعى الألوهية، ثم مد عينيه لمقام الربوبية جشعاً وطمعاً بأن ينال أعلى رتبة في هذا الوجود، ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب كما قال سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصالحون يتنافسون في طاعة المعبود وخدمته، وهيهات أن تشرئب أبصارهم إلى مقام ذي العزة والجبروت، خوفا من عقابه (ومن يقل منهم إني إله فذلك نجزيه جهنم).
7
من الأمراض النفسية المزمنة تضخم الأنا الفردية عند الإنسان، حتى يشعر بأنه رب هذا الوجود ولا رب سواه، فيقول ما قاله فرعون لقومه (أنا ربكم الأعلى).
هكذا بكل صفاقة ووقاحة، بلا خجل ولا تروي يعلنها طاغية العصور بأنه مصدر الخلق والوجود، ومصدر السلطات والتشريع، ومصدر العبادات والعادات، بيده كل شيء، ولا يحكم الكون سواه!.
8
وعليه يُعتبر كل من يعبد رباً سواه مناوئا لسلطة فرعون، وعقابه القتل (اقتلوا موسى). ويحتاج هذا القتل إلى إذن شكلي من الحاشية أو البرلمان الصوري بلغة العصر : (ذروني أقتل موسى)، وإلى استهزاء إعلامي (وليدع ربه) وإلى تبرير لعملية التصفية (إني أخاف أن يبدل دينكم) وإلى تزكية النفس وتجريم الآخر (أو يظهر في الأرض الفساد).
9
وفي خضم معركة التطبيل والتزمير الإعلامي يستدعي فرعون السحرة على عجل، ويقسم هؤلاء بعزة فرعون أنهم هم الغالبون، ويعدهم فرعون بالجزرة إذا فازوا، فلما أخفقوا توعدهم بالقتل والصلب، وبين العصا والجزرة استطاع فرعون أن يستخف قومه، فأطاعوه، وكان عدوهم اللدود كليم الله سيدنا موسى عليه السلام ومن معه.
10
وقصة فرعون مليئة بالدروس والعبر، وهي نموذج للنفس البشرية حين تبلغ غاية الفجور والتمرد على خالقها الذي برأها، وأقصى الانحراف والشذوذ عن الفطرة السوية البريئة التي فطر الله الناس عليها.
وفرعون الفرد مضى وانتهى، ولكنه كنموذج متكرر باق، تختلف الصور والأشكال، والأسماء والألقاب، والحقيقة واحدة، ولذلك نجاه الله ـ سبحانه ـ ببدنه ليتعظ به من يحن من الطغاة إلى أن يسلك سلوك سيده فرعون كما قال تعالى: (لتكون لمن خلفك آية).
11
وشأن فرعون شأن بقية النماذج البشرية التي تكلم عنها القرآن والتي تنحصر في مجملها في زمرتين:
الأولى: أصحاب الصراط المستقيم (الذين أنعمت عليهم) وهم جم كثير من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين.
والثانية: أصحاب السبل المتفرقة عن الصراط المستقيم وهم (المغضوب عليهم) وكذلك (الضالين) وهم أكثر الخلق الذين عاشوا بمعزل عن الحق؛ سواء عرفوا الحق أم لم يعرفوه.
والخلق مذ آدم حتى قيام الساعة بمختلف ألوانهم وأعراقهم وأوطانهم لغاتهم وبيئاتهم وأديانهم منخرطون تحت إحدى هاتين الزمرتين ولا ثالث لهما!
12
وللخلق مع مقامي الربوبية والألوهية خمس حالات:
منهم من صرف الربوبية والألوهية لمستحقهما وهو الخالق عز وجل وهؤلاء أصحاب الصراط السوي.
ومنهم من صرفهما لمظهر من مظاهر الطبيعة أو المادة وهؤلاء عبدوا ما لا يسمع ولا ينفع، وهذا سلوك ينخرط في العمى النفساني.
ومنهم من صرفهما لنبي كريم أو ولي من أولياء الله وهؤلاء أضل من حمار باهلة!.
ومنهم من أنكر الربوبية والألوهية لله الأحد الحي القيوم، وعبد هواه، وهؤلاء عبيد الأهواء والشهوات.
ومنهم من ادعاهما لنفسه (فرعون) وصرف البشر عبادتهم له، وهؤلاء أضل من عباد الأوثان الذين رفضوا الانصياع لأوامر الأنبياء بحجة أنهم بشر مثلهم، فكيف بمن يعبد بشرا مثله يمشي في الأسواق، ويأكل الطعام، ويذهب إلى الحمام...
13
وفي الحقيقة إن فرعون نموذج لمرض نفسي مزمن، ولنفسية منحرفة متسرطنة بكثرة الأوهام والشبهات... فما أسوأ أن يتمرد المرء على ربه، وأن يرى نفسه في كل شيء في هذا الوجود، فيظن نفسه هو من اخترع الكون وأضاء الشمس ونور القمر وبسط الأرض وخلق البشر، وأنه يطعمهم ويسقيهم، ولولاه لبطلت حركة الكون، ولما أشرقت الشمس! فيعلنها صريحة مدوية (ما علمت لكم من إله غيري) ويبالغ في الانحراف والشذوذ فيضع نفسه في مقام أعلى سلطة في الوجود (أنا ربكم الأعلى).
إنه مرض نفسي خطير سببه تضخم الأنا، لتشمل هذا الوجود كله، وغياب التفكير النقدي الهادف البناء في الحياة الاجتماعية والثقافية والدينية، وفقدان الحوار الديني والحضاري، واستئصال الآخر (يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم) وتمزيق لحمة المجتمع سدى (وجعل أهلها شيعا) والغرور بالبناء المادي (ابن لي صرحاً) وكثرة الفساد والإفساد الذي يحول المجتمع إلى مستنقع كريه يعج بالخطايا والآثام.
14
هكذا أراد فرعون أن يمسك بكل خيوط هذا الوجود، وأن ينسب لنفسه كل سلطة وفضل وقرار، ابتداء من القرارت الكونية: الإحياء والإماتة، مرورا بالقرارات الاقتصادية والدينية: الرزق والعبادة، وانتهاء بالقرارات الاجتماعية المصيرية: قتل المؤمنين ومحاولة طمس نور الله في الأرض حين اتبع موسى نحو البحر.
15
وكل إنسان منا قابل لأن يكون فرعون، أو أن يكون كلقمان الحكيم، فليس طغيان البشر مقصورا على بعض أرباب السلطة والقرار ممثلاً بفرعون ونمروذ ونحوهما، فالفرعونية نزعة مرضية من استعلاء وتكبر وغطرسة وأنانية قد تمتد إلى العقل أو القلب في عالم النفس، كما تمتد إلى عالم المرأة والرجل في واقع الحياة.
فقد تلقى رجلاً من عامة الناس ولديه من النزعة الفرعونية والكبر والتجبر (عائل مستكبر) ما لا تلقاه عند رجل من العلية. وقد تلقى رجلاً من العلية ولديه من التواضع والتعبد (إمام عادل) ما يغبطه عليه أهل التقوى والعرفان.
16
وربما تمتد الحالة الفرعونية حتى تشمل بعض أصحاب الدين، ممن يتلاعبون به، ويحرفون مقاصده، فحين يدعي أحدهم قائلاً: ما في الجبة إلا الله.. ويسمونها حالة سكر وعربدة، وهي ليست في الحقيقة إلا فرعونية جديدة يجعل الصوفي (العارف) نفسه رباً، وهي حالة لم يدعها نبي مرسل ولا ملك مقرب، وإنما هي انفلات من حدود أنا البشرية لتصبح أنا الكلية؛ بمعنى أن هذا العارف يرى نفسه في كل الوجود، ويتحد مع محبوبه على حد قولهم:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحن روحان حللنا بدنــــــــا
فإذا أبصرتنا أبصرتــــــــــه
وإذا أ أبصرته أبصرتنــــــا
وحول هذا الهوس ونحوه يقول شيخنا علي الطنطاوي رحمه الله في فتاويه معلقاً على شطحات أبي يزيد كقوله: (أنا الله) وقوله: (إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني) [1]. وقوله: (بطشي أشد) عندما سمع قول الله تعالى: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ). (البروج: 12). فيقول معقباً على ما سبق: "يا أيها القراء! ناشدتكم الله، هل قال أبو جهل، وهل قال أبي بن خلف، وهل قال مشركو مكة مثل هذا القول؟ أو قالوا بعضه؟ أو اقتربوا منه؟. لقد كان كفرهم بالنسبة لهذا الكفر بدائياً بسيطاً، وهذا كفر معقد مركب".[2]
17
 ونخلص من هذا المقال إلى أن العبد عبد والرب رب، ولا خلط ولا مزج ولا وحدة ولا حلول ولا اتحاد، وباطل ما قاله صاحب الفتوحات المكية ابن عربي: العبد حق والحق عبد... وأن أصل الفساد الاجتماعي والحضاري كله في الخلط بين المصطلحات، والمزج بين السلطات، فسلطة العبد شيء، وسلطة الرب شيء آخر، وأن تضخم الذات الفردية ومحاولة العبد الضعيف انتزاع سلطة الرب، أو بعضا منها، ونسبتها إلى ذاته البشرية، أو إلى شيء من مخلوقات الله، محترماً كان كالأنبياء والملائكة، أو محتقراً كان كالأوثان والشياطين، هو أساس الفساد العقدي والذي يتولد عنه فساد إنساني وواقعي لا حدود له، وإن الانخلاع من تضخم الذات هو السبيل الأقوم للتخلص من الفرعونية الطاغية التي هي معول الفساد النفسي والاجتماعي على حد سواء. وإن أساس السعادة النفسية والكونية والاجتماعية حين نتجرد من الأنانية والكبرياء، مخلصين لله، معطين لكل ذي حق حقه.
18
وفي كل إنسان نزعة فجور قابلة لتتطور إلى فرعونية ساحقة ماحقة، كما يوجد فيه نزعة خير قابلة لأن تجعله طاهراً كالملاك! (فألهمها فجورها وتقواها) ولا سبيل للتخلص من البذرة الفرعونية في النفس البشرية إلا بالتقوى والتزكية: ( قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها).
19
وندعو في خاتمة المقال إلى إنشاء علم نفس مستمد من الكتاب والسنة، ويستفيد مما توصل إليه الآخرون من حقائق علمية، فقد شخصت آيات الذكر الحكيم وأحاديث النبي الكريم مختلف أشكال وحالات السلوك الإنساني المتعلق بالنفس البشرية في حالتيها السوية والمرضية، لذا يجب أن لا نكتفي بحشو عقول طلبتنا بما قاله فرويد وغيره من الغربيين في هذا الصدد، وكأنه نهاية البحث العلمي وخاتمة الدرس النفساني!
والله الموفق
_____________
[1] - قيل في الاعتذار عنه إنه كان يقرأ الآية: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي). (طه: 14) ويقف عند قوله فاعبدني، ويكرر هذا المقطع، ولو أنه فقد شعوره عند التلاوة غاب عن الوعي فحكمه كالمجنون، وأما إذا كان في حالة وعي فلا يقبل منه هذا الكلام ألبتة، ثم لماذا الإيغال في الغموض والرمز والمجاز والحذف حتى يلتبس المراد؟، والله علمنا البيان، ولغة القرآن آية في الوضوح والجمال، فأي عذر لمن أعرض عن هذا كله، ونطق بكلام يصادم الشريعة، واحتاج محبوه لتأويل كلامه؟، وفي اللغة سعة وخروج من هذه المآزق كلها، بل ربما كانت مثل هذه الكلمات سبيلاً ليندس الزنادقة ويطعنوا في الشريعة! والآفة كل الآفة فيمن يشرعن مثل هذا الكلام ويبرره ويجعله دستورا للسالكين إلى الله، فيدع الكتاب والسنة لقول فلان وعلان، وحسبنا الله ونعم الوكيل!.
[2] - فتاوى علي الطنطاوي، ص(83).